بسم الله الرحمن الرحيم
بيان حول إعلان "خلافة" البغدادي
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على الذي جاء بالحق المبين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:
فلا تزال الفتن تترى، والبلايا تتعاقب على أمة الإسلام حتى تنفي خبثها كما ينفي الكِير خَبث الحديد، ومن آخر هذه الفتن: دعوى "الخلافة" التي أعلنها تنظيم البغدادي، بعد ويلات أصابت أهل الشام منهم -كما أصابت أهل العراق من قبل- قتلاً، وتكفيرًا، وعرقلة للثورة والجهاد، وتفريقًا للكلمة(*).
وما كنا نظن أن ادعاءً أجوفَ كهذا، ظاهرًا في بطلانه، يحتاج إلى بيان، لكن جماعة البغدادي قد أتقنوا الخداع الإعلامي فعظَّموا تنظيمهم، وضخَّموا أعدادهم، ونسبوا الكثير من انتصارات الآخرين لهم، يساندهم في ذلك إعلام أعداء الأمة الذين وجدوا في هذه الفئة بغيتهم لحرب المسلمين وتشويه سمعة المجاهدين.
إن هذه الأحداث تتطلب فكرًا واعيًا من الجميع، وتقتضي واجبًا جديدًا على أهل العلم والفكر والجهاد أينما كانوا، فما عاد يسعهم السكوت عن هذه الفتنة، أو مداراتها، والاعتذار لها، وتحتم واجب البيان عليهم كما لم يكن من قبل.
ويتبين بطلان تلك الخلافة المزعومة من وجوه :
1. صدور الإعلان من فئة باغية مارقة، تتخذ من التكفير واستحلال الدماء دينا، منحرفين عن المنهج النبوي الذي هو قوام الخلافة الراشدة.
2. غياب مقومات الدولة شرعا وعرفا، فلاهم ممكنون في الأرض، ولا مطاعون من الناس، ولو كان لهم التمكين والغلبة لظهروا بأشخاصهم، فهم للعصابة أقرب منهم للدولة!
3. الانفراد بإعلان الخلافة دون أهل العلم والرأي والمشورة من المسلمين، لما استقر في أذهان عصابة البغدادي أنهم هم أهل الشورى والحل والعقد، وما سواهم في حكم المرتدين والصحوات، كما صرحوا به في غير موضع! فهذا الانفراد استبداد جديد بالأمة وتجاوز لسلطانها، وتسفيه لرأيها، وتغييب لمصالحها. قال عمر -رضي الله عنه- موضحاً خطورة الافتئات على الأمة: " مَنْ بَايَعَ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُبَايَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا" رواه البخاري وغيره، قال ابن حجر -رحمه الله- في الفتح: "والمعنى: أنَّ من فعل ذلك فقد غرر بنفسه وبصاحبه وعرضهما للقتل".
4. قهر الناس على بيعة لم تتم لهم أصلاً، إذ قالوا: "وننبه المسلمين أنه بإعلان الخليفة صار واجبًا على جميع المسلمين مبايعة ونصرة الخليفة إبراهيم..."، وأنه "صار إمامًا وخليفة للمسلمين في كل مكان"!! و"من أراد شق الصف فافلقوا رأسه بالرصاص، وأخرجوا ما فيه كائنًا ما كان، ولا كرامة".
5. تعيين خليفة مجهول الحال، لم يزكِّه أحدٌ من أهل العلم، مجهول العين لعامة جماعته فضلاً عن جمهور المسلمين وإن عُرف اسمه، ضاربين عرض الحائط بشروط علماء الأمة في الخليفة المعتبر، وهذا إزراء بالأمة، من جنس ما تفعله الحكومات المستبدة.
6. نقض ما ألزموا به أنفسهم من بيعة البغدادي لأميره الظواهري حين قال له: "وندين الله بأنكم ولاة أمورنا، ولكم علينا حق السمع والطاعة ما حيينا!". وكان الظواهري قد أصدر قراره بإلغاء الدولة في الشام، وأن كل بيعة بعد ذلك باطلة. أفتكون أول أعمال "خليفة" المسلمين الغدر والخيانة ونقض العهود !
وهذا الإعلان المخالف للشريعة جالب لكثير من الفتن والشرور والمفاسد والمصائب على أهل الإسلام، وهذه بعضها:
1. إعلان "الخلافة" بهذه الطريقة ومن أولئك القوم هو هدم لمقاصد الخلافة، من حفظ الدين وسياسة الدنيا به، بل هو تشويه لصورة الإسلام بإظهار دولته دولة القتل والإجرام والتلذذ بقطع الرؤوس والأيادي.
2. تأثيم الأمة الإسلامية كلها بعدم مبايعة هذا "الخليفة" المجهول، واستباحة قتالها ودمائها إن هي رفضت الخضوع لهم! مع أن البيعة لا تكون إلا لمن يتبعه سائر الناس وينتظم به أمر العامة، وهو المقصود بحديث (مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)، وليس الذي يُفرض من فئة لا تعترف بالأمة ولا علمائها السابقين واللاحقين.
3. إضعاف المسلمين وتحجيم انتصاراتهم وجهادهم في الشام والعراق، وإيقاظ الفتن بينهم، وإشغالهم عن حرب عدوهم الطائفي.
4. تعطيل وإعاقة أعمال الدعوة والعلم والجهاد والإغاثة، التي تقوم بها كل الكيانات والكتائب والتجمعات التي لا تنضوي تحت لوائهم.
5. تمكين أعداء الإسلام من بلاد المسلمين، وإعطاؤهم ذريعة استباحتها مجددًا؛ فسياستهم تقتضي الترويج والدعم لهذا النموذج السيء "للخلافة"؛ لذلك هم لا يقاومونه بل يسهلون له التسلح والانتشار، وحصار مناطق المجاهدين، لتصبح هذه الجماعة المارقة مطية لأعداء المسلمين في تدمير مناطق السنة وتقسيمها، ثم ينقلبون عليهم وعلى بقية المسلمين ويحاربونهم باسم مكافحة الإرهاب والتطرف.
وأمام هذه المخالفة الكبرى والمفاسد العظمى، فإن الواجب على الجميع أن يتصدى لمواجهتها:
أولهم أهل العلم والفكر الذين يتعين عليهم المبادرة بأمور منها:
1. توضيح مفهوم الخلافة الإسلامية، والتي لا تأتي إلا وفق سنن الله تعالى في النصر، ونشوء الدول وقيامها، وليس هو مجرد دعوى يدعيها مَن شاء دون وجود مقوّماتها، وأنه لا يشترط لإقامة دين الله تعالى في بلدٍ ما اسم محدد ولا كيفية معينة، بل كيفما أقيم دين الله فثَم دولة الإسلام. ولا يجوز لمسلم أن يستعجل التمكين دون تحقق مقدماته، ولا أن يجعل الأمر فيه أو في جماعته، دون بقية المسلمين؛ فإن ذلك من الضلال المبين، وقد خلا في الأمة كذابون ودجالون كثيرون كلهم يزعم أنه نبي أو مهدي أو خليفة.
2. تأكيد عدم شرعية هذا الإعلان؛ لما سبق من اعتبارات، ولأن معلنيه خوارج بغاة مفرقون لكلمة الأمة. ولا يجوز الاستسلام لهم؛ لأن الاستسلام إنما يَرِدُ في حق السلطان المتغلب لحقن دماء المسلمين، وهؤلاء لا سلطان لهم، بل التسليم لهم يسفك المزيد من الدماء، وقد قال بعض رؤوسهم: "شرابنا الدماء، وأُنْسنا بالأشلاء"، وهو يتحدث عن معصومي الدم والمال عندنا، بل عن مجاهدين أثخنوا في العدو.
3. توضيح الأضرار الاستراتيجية على الأمة وثورتها وجهادها، من جراء هذا الإعلان، مما سبق بيانه وغيره.
4. كشف مواقف الغلاة والخوارج في التاريخ، وتأثيرهم في إضعاف دولة الإسلام في القرون المفضلة، وإعاقتهم الفتوحات، وقتلهم أهل الإيمان، وتركهم أهل الأوثان، وغدرهم بمن يركن إليهم.
5. توضيح حال خوارج اليوم المتمثلين في دولة البغدادي، من إسقاطهم لعلماء الأمة، وتمكن الجهلة منهم، وتغلغل الاتجاهات المنحرفة فيهم، واستعمال الرافضة لبعض قادتهم، وخدمتهم لمصالح أعداء الأمة. ولا يشفع لهم تصدرهم للقتال في بعض الجبهات، ولا حربهم على اللصوص وقطاع الطرق في بعض المناطق، كما لم يشفع للخوارج الأولين اجتهادهم في الصلاة والصوم وقراءة القرآن.
ثانيهم قادة الجهاد ونشطاء الثورة الذي وثق بهم الناس وسلموا لهم قيادتهم، فإن المخرج بعد الله تعالى معقود عليهم. ويتأكد دورهم فيما يأتي:
1. الالتحام بأهل العلم، والسعي إلى التشاور المستمر معهم ومع أهل الخبرة والتخصصات المختلفة، ليضعوا سويا رؤية مشتركة وخطة عمل لدفع هذه النازلة، والتعامل الأمثل معها ومع تداعياتها.
2. إعطاء أولوية قصوى لاجتماع الكلمة، وسلوك جميع الطرق المؤدية إلى ذلك، وتقديم الولاء للإسلام على أي كيان أو فصيل، والتعامل مع الجميع بصدق، مع إحسان الظن، والصبر على الأذى.
3. الجزم والعزم على استئصال هذه النبتة الخبيثة من ديار المسلمين، وعدم التردد في ذلك. ومراعاة الموازنة بين قتالهم وقتال الأعداء بحسب الحال والظرف الآني. مع شدة الحذر من الانخداع بظاهر الأمر، أو إغفال أثر الفكر والارتباط بمشاريع أضرت بالجهاد وأهله.
ثالثهم شباب الأمة الغيور الذين ننصحهم لله تعالى بأمور:
1. التبصر في الأمر، وأن يسألوا أهل العلم عما أشكل عليهم. وليعلموا أنه ليس في صف البغدادي عالم مشهود له عند المسلمين، كما قال ابن عباس رضي الله عنه لأسلافهم من الخوارج يفضح جهلهم: "أتيتُكُم من عندِ صحَابَةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، مِنَ المهاجِرينَ والأنصارِ؛ لأبلِغَكُم ما يقولونَ، المخبِرونَ بما يَقولونَ، فعَليهِم نزلَ القُرآنُ، وهُم أعلَمُ بالوَحيِ منكُم، وفيهِم أُنزِلَ، ولَيسَ فيكُم منهُم أحَدٌ" أخرجه الحاكم.
2. اجتناب الانسياق نحو العاطفة، أو الانبهار بالتضخيم والزخم الإعلامي، فقد تأكد للمراقب البصير أن تنظيم الدولة يستخدم الكذب والتزوير، ويقلد الرافضة في التقية وإخفاء حقيقة أمره.
3. الاطمئنان إلى بطلان الخلافة المعلنة من قبل تنظيم الدولة، فإنها ليست على منهاج النبوة شكلا ولا مضمونا، فتنظيم الدولة تنظيم ظالم باغ منحرف عن سبيل الله. وإنما يستخلف الله على دينه من آمن وعمل الصالحات، وليس من (يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان).
4. توقير أهل العلم، وصون أعراضهم، والحذر من اتهامهم بأنهم حاسدون لتنظيم البغدادي أو منافسون له، أو أنهم ضد مبدأ إقامة الخلافة، أو أنهم خاضعون للطواغيت راضون بهم، فهذا من البهتان.
5. حفظ أمر الله في النفس، والصبر على الضراء، ومدافعة الباطل، والحذر من وساوس الشيطان في قصر أمر الله على الموت في سبيل الله، دون الحياة في سبيل الله، فالشهادة اصطفاء من الله، لا قرار تتخذه.
عموم المسلمين، فهم سواد الأمة، ومادتها، وعمادها، نقول لهم:
1. فضح هذا التنظيم وتبيين خطره وحقيقته لعامة المسلمين، مسؤولية الجميع، كل بقدر استطاعته.
2. أنتم مسؤولون عن أموالكم أن تمنحوها العاملين الصادقين، وهم بحمد الله كثر وغير محصورين بتنظيم معين.
3. أبناؤكم مسؤولية في أعناقكم و(كلكم مسؤول عن رعيته)، فحصنوهم من أن يغتروا بأهل الغلو، وبدعوى الخلافة، فيصبحوا أداة في أيدي المجرمين يقاتلون بهم المسلمين.
اللهم اكفنا شر الأشرار، وغدر الفجار، وكيد الكفار، يا عزيز ياغفار.
والحمد لله رب العالمين
========