السؤال:
ما حكمُ لبس السَّواد عند وفاة قريبٍ أو عند حضور مجالس العزاء، وكذا تغيير الصُّورة الشَّخصية في صفحات التَّواصل الاجتماعي بجعلِها سوداءَ أو عليها شريطٌ أسود أو غير ذلك؛ إظهارًا للحزن والحِداد على الميت؟
الجواب:
الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلامُ على رسول الله، وبعد:
فإنَّ تغيير الإنسانِ نوعَ لباسِه المعتاد ولونَه عند المصيبة له ثلاث صور:
الأولى:
أن يفعل ذلك جزعًا وسخطًا على قضاء الله وقدره.
فهذا عملٌ محرمٌ بإجماع العلماء، وهو شبيهٌ بما ثبت النهي عنه من شق الجيوب وضرب الخدود عند المصيبة.
وثبت في حديث ابن مسعود مرفوعًا: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ)، متفق عليه.
قال الخطيب الشربيني في مغني المحتاج: "وَيَحْرُمُ الْجَزَعُ بِضَرْبِ صَدْرِهِ وَنَحْوِهِ، كَشَقِّ جَيْبٍ، وَنَشْرِ شَعْرٍ، وَتَسْوِيدِ وَجْهٍ، وَإِلْقَاءِ رَمَادٍ عَلَى رَأْسٍ،...، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا: تَغْيِيرُ الزِّيِّ وَلُبْسُ غَيْرِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ".
والقول الضَّابط في ذلك -كما قال إمام الحرمين الجويني في نهاية المطلب-: "أن كلَّ فعلٍ يتضمَّن إظهار جزعٍ يناقض الانقياد والاستسلام لقضاء الله، فهو محرَّم، وشقُّ الجيب، وضرب الرَّأس والخدِّ، أفعالٌ مشعرةٌ بالخروج عن الانقياد لحكم الله".
الثَّانية:
أنْ يَفعلَ ذلك تسنُّنًا وتعبُّدًا وتقرُّبًا لله، وهذا يُدخله في دائرة البدع والمحدثات.
فمَن لبس السواد أو البياض عند المصيبة معتقدًا أن ذلك قربةٌ وطاعةٌ أو أنَّ الشرعَ يأمره بذلك: فقد وقع في البدعة المذمومة.
قال ابن الحاج في المدخل: "وبعضهم يترك لُبس السَّواد ويعوِّض عنه البياض، وإن كان لُبس البياض مباحًا أو مأمورًا به في بعض المواطن، لكنَّ اتخاذه في هذا الموطن على سبيل الاستنان به بدعة".
الثالثة:
أن يفعله تركًا للزينة في يومِ حُزنٍ، دون تسخطٍ ولا قصدٍ للتسنُّن.
وقد جرت عادة بعض الناس بلبس الأسود أو الأبيض -بحسب اختلاف عادات البلاد- دلالةً على الحزن على الميت.
والأصل في اعتياد لباس معيَّن: الإباحة، إلا أن كثيرًا من العلماء كرهوا ذلك -لغير المعتدَّة- عند الحزن والمصيبة لما فيه من مشابهة أفعال أهل الجاهلية وإظهار الجزع على الميت.
جاء في الفتاوى الهندية: "ويكره للرَّجال تسويد الثِّياب وتمزيقها للتَّعزية".
وجاء في البيان والتَّحصيل: سُئل مالك عن نزع الأردية في الجنائز؛ قال: بئس العمل.
قال محمد بن رشد: معنى هذا أن ينحسر الرَّجل في جنازة أبيه أو أخيه فيتبعه حاسرًا بغير رداء ...، وإنَّما كرهه مالك؛ لأنَّه من ناحية النَّعي المنهيِّ عنه من فعل الجاهلية، لما فيه من إبداء الحزن والجزع للولِّي على ميِّته.
ومن هذا المعنى: ما يُفعل عندنا من تبيض الوليِّ على وليِّه[أي لبس الثياب البيض]، فهو مكروه من الفعل، لا يفعله إلا مخطئ".
وقال المرداوي في الإنصاف: "يُكْرَهُ للمُصابِ تغْييرُ حالِه؛ مِنْ خلْعِ رِدَائِه ونَعْلِه، وتغْليقِ حانُوتِه، وتعْطيلِ مَعاشِه، على الصَّحيحِ مِنَ المذهبِ، وقيل: لا يُكْرَهُ".
وذهب بعض متأخري الشافعية إلى المنع والتحريم، بل عدِّه من الكبائر، كما في الزَّواجر عن اقتراف الكبائر للهيتمي.
والذي يظهر:
أنّ تغييرَ نوعِ اللباس أو لونِه إنْ فُعل على وجه العادة -في وقت العزاء أو الحداد- فليس محرمًا ولا يُمنع منه؛ لأمور:
1-أنَّ لُبس السواد أو البياض لا يلزم أن يكون تسخطًا على قدر الله أو عدم انقياد لحكمه، بل هو في عرف الناس نوعٌ من التعبير عن الحزن على الميت، والمحظور هو الجزع على قضاء الله وقدره، لا الجزع والحزن على الميت، وقد قال عليه الصلاة والسلام في موت ابنه إبراهيم: (تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَاللهِ يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ) متفق عليه مِن حديث أنس رضي الله عنه.
2-أنَّ فِعْل أهل الجاهلية لا يقتصر على تغيير لون اللباس أو نوعه، بل يرافقه نياحةٌ وضربٌ للخدود وتمزيقٌ للملابس ونشرٌ للشعر وغيرها من الأمور الظاهرة في الدلالة على الجزع على قضاء الله والاعتراض على حكمه.
3-القول بالمنع يفتقر إلى دليلٍ شرعي واضحٍ، وخاصة أن هذا من العادات التي شاعت بين الناس، ولا يُقصد منها مشابهة أهل الجاهلية، بل القصد اجتناب الملابس التي فيها إظهارٌ للزينة في يوم حزن، وقد اختار أهل كلِّ بلدٍ اللون الذي يرونه أبعد عن الزينة، ففي بعضها يلبسون البياض، وفي بعضها السواد أو أيِّ لونٍ داكنٍ.
وقد نصَّ عددٌ من أهل العلم على أنَّ اللباس الأسود هو لباس الحزن.
ففي فتح الباري لابن حجر: "قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أنه لا يجوز للحادَّة لبس الثياب المعصفرة ولا المصَبَّغة إلا ما صُبغ بسواد، فرخص فيه مالك والشافعي لكونه لا يتخذ للزينة، بل هو من لباس الحزن".
4-نصَّ بعض علماء الحنابلة على أن للمصاب ترك ثياب الزينة وقت العزاء.
ففي معونة أولى النهى شرح المنتهى: "لا يكره هجر المصاب للزينة وحَسَنِ الثياب ثلاثةَ أيام، ...، وسُئل أحمد يوم مات بِشْرٌ عن مسألةٍ، فقال: ليس هذا يومَ جواب، هذا يومُ حزن".
وقد ردَّ ابن القيم هذا القول "بأنَّ السلف لم يكونوا يفعلون شيئًا من ذلك، ولا نُقل هذا عن أحد من الصحابة والتابعين".
وهذا إن سُلِّم به لا يقتضي المنع، فغايته الدلالة على كمال صبرهم وتسليمهم، وبُعدهم عن أي مظهر قد يدل على عدم الصبر والرضا، وهذا الفعل من العادات لا العبادات التي يُقتفى فيها آثار مَن سلف.
5- الحكم على لبس السواد عند الحزن بالبدعة مطلقًا: غيرُ دقيق؛ لأنَّه من العادات، وفِعْل العادة لا يكون بدعةً إلا إذا كان فِعله على وجه التعبُّد والقربة، كما قال الشاطبي في الاعتصام: "الْعَادِيَّاتُ مِنْ حَيْثُ هِيَ عَادِيَّةٌ: لَا بِدْعَةَ فِيهَا، وَمِنْ حَيْثُ يُتَعَبَّدُ بِهَا أَوْ تُوضَعُ وَضْعَ التَّعَبُّدِ: تَدْخُلُهَا الْبِدْعَةُ".
6-أن كثيرًا من الفقهاء رخصوا للمرأة في لبس السَّواد وقتَ الإحداد على زوجها، ولم يعدوا ذلك من التسخط على قضاء الله، أو إظهار الجزع، أو مشابهة أهل الجاهلية، أو منافاة الصبر.
قال بدر الدِّين العينيُّ في البناية شرح الهداية: "ويباح لها لبس الأسود عند الأئمة الأربعة؛ لأنه لا يُقصد به الزِّينة، بل أبلغ في الحدادة".
وجاء في الموسوعة الفقهية: "اتَّفق الفقهاء على أنَّه يجوز للمتوفى عنها زوجها لبس السَّواد من الثِّياب".
فإذا لم يكن محظورًا في حقِّ الـمُحِدّة لم يكن محظورًا في حقّ غيرِها إلا أنّ غيرَ الـمُحِدّة ليس لها أن تفعل ذلك أكثر من ثلاثة أيام للحديث المتفق عليه: (لاَ يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا).
7-جاء في حديث أسماء بنت عميس رضي الله عنها أنها قال: لما أُصيب جعفر أتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (تَسَلَّبِي ثَلَاثًا، ثُمَّ اصْنَعِي مَا شِئْتِ)، رواه أحمد، وقوَّى إسناده بعض العلماء، وضعفه آخرون.
قال أبو عبيد في غريب الحديث شارحا معنى السَّلَب: "الثِّيَاب السود الَّتِي تلبسها النِّسَاء فِي المأتم".
وقال أبو منصور الأزهري في تهذيب اللغة: "تسلّبي، أَي: البسي ثِيَاب الْحداد السود".
وقد حكم بشذوذ الحديث بعض الأئمة لمخالفته أحاديث الحداد وتقديرها بأربعة أشهر وعشر.
بينما حمل الطبري الحديث على أنه رخَّص لها بلبس السِّلَاب عند الحزن ثلاثة أيام فقط، ولا علاقة له بمدة حداد المرأة على زوجها، فقال في تفسيره: "فإنَّه غيرُ دالٍ على أن لا إحداد على المرأة، بل إنما دلَّ على أمر النبي صلى الله عليه وسلم إياها بالتسلّب ثلاثًا، ثم العمل بما بدا لها من لبس ما شاءت من الثياب مما يحوز للمعتدَّة لُبسه مما لم يكن زينةً ولا تطيبًا".
والحاصل:
أنّ تخصيصَ لونٍ معيّنٍ مِن اللباس كاللَّون الأسود أو الأبيض عند حصول الموت أو الذهاب لمجالس العزاء ليس فيه سنَّة متبعة، ولا يُندب النَّاس إلى فعله، بل تركه أولى، فقد كرهه كثير من أهل العلم، ولكن لا ينكر على من فعله، فالأمر فيه واسع إن شاء الله تعالى ما لم يقصدْ صاحبُه التسنُّن والتقرُّب بذلك أو التَّسخُّطَ على قدر الله؛ فيحرم.
ويُقاس على ما سبق: تغيير الصُّورة في وسائل التَّواصل الاجتماعي؛ لأنَّها داخلة في نفس المعنى السابق.
وليحرص المسلم على الصَّبر، وليحذرْ من كلِّ فعلٍ يَنقُصُ أو يُبطِلُ أجرَه عند المصيبة،ويحتسب في ذلك الأجر عند الله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ) رواه مسلم مِن حديث صهيب رضي الله عنه.
والله أعلم