السبت 11 شوّال 1445 هـ الموافق 20 أبريل 2024 م
ماذا يفعل ‌بعد صلاة ودعاء ‌الاستخارة ؟
رقم الفتوى : 321
الخميس 26 صفر 1444 هـ الموافق 22 سبتمبر 2022 م
عدد الزيارات : 40087

السؤال: ما هي حقيقة الاستخارة؟ وما الذي أفعله بعد صلاة الاستخارة؟ وهل هناك إشارات محددة ينبغي انتظارها بعد صلاتي ودعائي؟ وهل أجزم بأن ما يحصل لي بعد الاستخارة هو الخير؟ وماذا لو استخرت ووقع ما هو شر لي؟

الجواب:

الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلامُ على رسول الله، وبعد:

الاستخارةُ دعاءٌ من الأدعية التي يفوِّض فيها العبدُ أمره لله، وهي مظنَّة الاستجابة؛ لوقوعها بعد الصَّلاة، ولا يوجد علامات يشترطُ تحققها بعد الصَّلاة والدُّعاء، بل يعزم ويُقدم على العمل ويرجو أن يكون هو الخير، وتفصيل ذلك فيما يلي:

أولًا:

ينبغي للعبد المؤمن أن يردَّ الأمور كلَّها إلى اللَّه تعالى، وأن يتبرَّأ من الحول والقوَّة إليه، وأن يسأل ربَّه في الأمور كلِّها؛ لأنَّه العالمُ بكلِّ الأشياء، وبما يصلح لعبده منها، وهو القادر على تهيئة ذلك، وتيسيره له.

فمن قصد أمرًا من الأمور وهو مترددٌ في عاقبته أخيرٌ هي أم شر، فقد وجَّهه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بأن يصلي ركعتين من غير الفريضة، يقرأ فيهما فاتحة الكتاب وما يشاء من القرآن، ثم بعد السلام: يحمد الله ويصلي على نبيه، ثم يدعو ويسأل الله تعالى الخيرة من أمره، وإن دعا دعاء الاستخارة قبل السلام من الصلاة فلا حرج.

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: (إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ.

اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي: فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ.

وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي: فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي به) أخرجه البخاري.

قال ابن بطَّال في شرحه على صحيح البخاري: "وينبغي له أن لا يروم شيئًا من دقيق الأمور وجليلها، حتَّى يستخير الله فيه، ويسأله أن يحمله فيه على الخير، ويصرف عنه الشَّر؛ إذعانًا بالافتقار إليه في كلِّ أمر، والتزامًا لذلَّة العبودية له، وتبركًا باتِّباع سُنّة نبيّه صلَّى الله عليه وسلَّم في الاستخارة".

وقال القسطلاني في إرشاد الساري: "(إذا هم أحدكم بالأمر) أي قصد أمرًا مما لا يعلم وجه الصواب فيه، أما ما هو معروف خيره: كالعبادات وصنائع المعروف، فلا، نعم، قد يفعل ذلك لأجل وقتها المخصوص، كالحج في هذه السنة لاحتمال عدو أو فتنة أو نحوهما".

فالاستخارة تكون في كافة الأمور التي قصد الإنسان فعلها، وهو لا يدري وجه الصواب فيها،ولا ينبغي له أن يحتقر أمرًا لصغره وعدم الاهتمام به فيترك الاستخارة فيه، فرب أمرٍ يستخفُّ به فيكون في الإقدام عليه أو تركه ضرر عظيم، كما ذكر العيني في عمدة القاري.

ثانيًا:

الاستخارة في حقيقتها: دعاء وطلب من الله الخيرة في الشَّيء؛ لأنّه الأعلم والأحكم سبحانه، فهي استسلام وتفويض لله تعالى.

وإنَّما شرعت الصَّلاة قبل دعاء الاستخارة؛ لأنَّه أرجى في قبول الدُّعاء، "وقد مضت الحكمة أن من الأدب قرع باب من تريد حاجتك منه، وقرع باب المولى سبحانه وتعالى إنما هو بالصلاة"، كما قال ابن الحاج في المدخل.

وقال ابن أبي جمرة: "الحكمة في تقديم الصَّلاة على الدُّعاء أنَّ المراد بالاستخارة حصول الجمع بين خيري الدُّنيا والآخرة فيحتاج إلى قرع باب الملك، ولا شيء لذلك أنجع ولا أنجح من الصَّلاة؛ لما فيها من تعظيم الله والثناء عليه والافتقار إليه مآلًا وحالًا".

 

ثالثًا:

 

للعلماء قولان فيما يفعل بعد الاستخارة:

 

فقيل: يفعل ‌بعد ‌الاستخارة ما ينشرح له صدره  وما يسبق إلى قلبه، وهو اختيار الإمام النووي في "الأذكار"، وتبعه عليه كثير من العلماء، واستثنى الحافظ ابن حجر الانشراح الذي يكون لأمرٍ له فيه هوى قبل الاستخارة، فلا عبرة به.

واستدلوا بحديث: (يَا أَنَسُ، إِذَا هَمَمْتَ بِأَمْرٍ فَاسْتَخِرْ رَبَّكَ فِيهِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ انْظُرْ إِلَى الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى قَلْبِكَ، فَإِنَّ الْخَيْرَ فِيهِ) أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة.

وهو حديث ضعيف جدًّا كما قال الحافظ في الفتح، ولا يصحُّ عن النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم في ذلك شيء مرفوع.

وقيل: يفعل بعد الاستخارة ما عزم عليه، سواء انشرح له صدره أم لا.

ذكر تاج الدين السُّبكي في طبقات الشَّافعية الكبرى عَن ابن الزَّملكانيِّ: "إِذا صلَّى الإنسان ركعتي الاستخارة لأمر، فَليفعَل بعدهَا ما بدا له، سواء انشرحت نَفسه له أم لا؛ فإنَّ فيه الخير وإن لم تَنْشَرِح له نفسه، قَالَ: وليس فِي الحديث اشتِرَاط انشِرَاح النَّفس".

وقال القسطلاني في "إرشاد الساري": "وليشرع في حاجته فإن كان له فيها خيرة يسّر الله له أسبابها وكانت عاقبتها محمودة."

وقال العز بن عبد السلام: "يفعل بعد الاستخارة ما أراد، وما وقع بعد الاستخارة فهو الخير"، نقله عنه السيوطي في "قوت المغتذي على جامع الترمذي".

والذي يظهر:

أنَّ الذَّي همَّ بأمر وأراده أو تردَّد بين أمور، فعليه التَّحري حول ذلك جيدًا، والسُّؤال عنه وعن عواقبه،

واستشارة أهل الحكمة والخبرة فيه، ثم يصلي ويدعو دعاء الاستخارة، ثم يقدم على فِعْلِ ما يريد، والمرجو من الله أن يستجيب دُعاءه؛ فإن كان خيرًا يسَّر أمره فيه، وإن كان شرًّا صرفه عنه.

وقد يُصرف المستخير عن الأمر بتعسُّره، أو انقباض صدرٍ، أو عدم تحقق طلبه -كالخطبة مثلا-، أو رؤية منام، أو غير ذلك.

وقد يتيسر الأمر بانشراح صدر، أو رؤية صالحة، أو زوال العقبات التي تحول دون تحقُّق الأمر، أو غير ذلك.

وهذه قرائن قد تقع وقد لا تقع؛ فلا يتوقف عليها الإقدام على العمل أو تركه.

فلا ينبغي للمستخير أن يتوقَّف ليرى علامة أو إشارة تدله على ما يفعل؛

 فليس ثمة علامة وإشارة تُنتظر بعد صلاة الاستخارة ويتوقَّف عليها الإقدام على العمل،

كما قد يتوهَّم بعض النَّاس فيعتقدون أنَّ الاستخارة لابدَّ أن تكون قبل النَّوم ليرى أو يُهتف له بما يدلُّه على الخير.

قال ابن الحاج المالكيِّ في "المدخل":

"وبعضهم يستخير الاستخارة الشَّرعية ويتوقَّف بعدها حتَّى يرى منامًا يفهم منه فعل ما استخار فيه أو تركه، أو يراه غيره له، وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ صاحب العصمة صلَّى الله عليه وسلَّم قد أمر بالاستخارة والاستشارة لا بما يُرى في المنام".

وقال الشيخ أحمد بن عبد الرحمن البنا الساعاتي في "الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني":

"وقد ابتدع الناس عمل ‌الاستخارة بأنواع شتى لم يرد شئ منها في كتاب الله ولا في سنة رسوله، ولم يقل به أحد من علماء السلف ولا الخلف، وإنما هي بدع شيطانية سرت واشتهرت بين عامة الناس.

فمن تلك الأنواع: ما يقال له ‌استخارة السبحة، ومنها ‌استخارة كأس القهوة، ومنها ‌استخارة لعبة الورق المشهورة باسم "الكوتشينة"، ومنها ‌استخارة المصحف.

ومنها: ‌استخارة التبييت، إلى غير ذلك من الأمور التى ليس لها أصل فى الدين، فتراهم اذا أهمهم أمر من أمور الدنيا أسرعوا الى من يتوسمون فيه الصلاح، أو من يكون من حفظة القرآن، أو من يدعى علم الغيب ويسألونه عمل ‌الاستخارة فيوافقهم على اعتقادهم ويعمل لهم ‌الاستخارة ويخبرهم بالنتيجة في المستقبل رجما بالغيب، ولم يرشدهم الى ‌الاستخارة الشرعية التى نحن بصددها إما لجهله بها، وإما لأجل منفعة تعود عليه منهم.

وكان ‌يتردد عليَّ كثير من هؤلاء الناس فى بعض الأحيان يطلبون منى عمل ‌الاستخارة بالسبحة أو المصحف أو غير ذلك حسب اعتقادهم، فكنت أزجرهم عن هذه الأمور وأنفّرهم منها وأرشدهم الى ‌الاستخارة الشرعية وكيفية العمل بها ".

رابعًا:

 

دعاء الاستخارة من جملة الدعاء الذي وعد الله بإجابته إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع.

 

قال ابن القيم في الجواب الكافي: "والأدعية والتَّعوذات بمنزلة السِّلاح، والسِّلاح بضاربه، لا بحدِّه فقط، فمتى كان السِّلاح سلاحًا تامًا لا آفة به، والسَّاعد ساعد قوي، والمانع مفقود؛ حصلت به النِّكاية في العدوِّ، ومتى تخلَّف واحد من هذه الثَّلاثة تخلَّف التَّأثير، فإن كان الدُّعاء في نفسه غير صالح، أو الدَّاعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدُّعاء، أو كان ثمَّ مانع من الإجابة، لم يحصل الأثر".

فإن لم يتحقق مطلوبه، أو حصل له مكروه من خسارة في التجارة أو حادث في السفر؛ فعليه ألّا يستعجل الأمور، وأن يسلّم أمره لله، ويعتقد أن الخيرة فيما اختاره سبحانه، وأنّ ما أصابه لحكمة يريدها الله قد لا تنكشف له الآن وقد تظهر له بعد حين، ولم تكن لتتحقق إلَّا بما أصابه ووقع له أو صرف عنه بعد الاستخارة.

قال العينيُّ في عمدة القاري: "وربَّما قُدِّر ما هو خير ويراه شرًا "نحو قوله تعالى:{وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}" [البقرة: ٢١٦].

أخرج ابن أبي الدُّنيا في "الرِّضا عن الله بقضائه" عن ابن عمر قال:

"إنَّ الرَّجل ليستخير الله فيختار له فيتسخَّط على ربِّه فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خِيرَ له".

ولو تدبَّر المرء في نفسه كم من أمر ظنَّه شرًا ومصيبة ثمَّ ما لبث أن انجلى واتَّضح له -ولو بعد سنوات- أنَّه الخير والنِّعمة والتَّوفيق؛ فلولاه لما تحقَّق له هذا الخير العظيم الذي ينعم به الآن،

وقد قيل: "العبرة بكمال النِّهايات لا في نقص البدايات".

وقد لا تنفع الاستخارة؛ لأنّ المستخير قد اتبع هواه وعمل ما ترغب به نفسه، أو قصَّر في الاستشارة وتبيّنِ العواقب.

قال الرَّازيُّ في تفسيره: "الإنسان قد يبالغ في الدُّعاء طلبًا لشيء يعتقد أنَّ خيره فيه، مع أنَّ ذلك الشَّيء يكون منبع شرِّه وضرره، وهو يبالغ في طلبه لجهله بحال ذلك الشيء، وإنَّما يُقدِم على مثل هذا العمل لكونه عجولًا مغترًا بظواهر الأمور غير متفحِّص عن حقائقها وأسرارها".

وأخيراً:

ينبغي على المؤمن بعد أن استشار وبذل الأسباب واستخار الله سبحانه وتعالى أن يعمل بحقيقة الاستخارة فيسلِّم لأمره سبحانه ويرضى بقضائه وقدره؛ فهو العليم بعواقب الأمور ومآلها والنَّافع منها والضَّار، وفي ذلك الرَّاحة والسَّعادة في الدُّنيا والآخرة.

وقد رُوي في الأثر: (مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ: اسْتِخَارَتُهُ رَبَّهُ، وَرِضَاهُ بِمَا قَضَى، وَمِنْ شَقَاءِ الْمَرْءِ: تَرْكُهُ الِاسْتِخَارَةَ، وَسَخَطُهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ).

 

والله أعلم.