السؤال: ما حكم ما يتعامل به الناس في سورية وغيرها مِن تضمين الأراضي والزروع والمحاصيل الزراعية؟
الجواب:
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإنّ مِن المعاملات المالية الشائعة بين الناس في سورية ما يعرف بـ " تضمين الأرض"، وهي معاملة تتضمّن تأجير الأرض للزراعة، أو إعطاء المحصول الزراعي لمن يعتني به لقاء أجرة معلومة أو جزء مِن الثمر، وتشتمل هذه المعاملة على صورٍ كثيرةٍ، منها ما هو مباح ومنها ما هو محرم، وفيما يلي تفصيل ذلك.
1- تأجير الأرض الزراعية الخالية (البُور أو البيضاء) لمن يريد أن يزرعها أو يغرسها ويعتني بها مدةً معينةً قد تكون موسماً زراعياً أو عدّة سنوات، مقابل أجرة محدّدة معلومة مِن النقود أو غيرها، ثم تعاد الأرض لصاحبها بعد انتهاء مدة العقد.
قال ابن المنذر: "أجمع عوامّ أهل العلم على أنّ اكتراء الأرض -يعني استئجارها- وقتاً معلوماً: جائز ".
2- أن يدفع الأرض الخالية لمن يزرعها ويقوم عليها مدةً معينة مقابل نسبة معلومة مشاعة كالنصف أو الثلث أو الربع مِن الحب أو الزرع الذي يخرج منها. وتُسمى هذه الصورة عند الفقهاء بالمزارعة.
3- شراء المحصول الزراعي بعد نضجه وبدوِّ صلاحِه بمبلغ نقدي يُدفع حالاً أو مقسَّطاً، أو مؤجَّلاً إلى موسم الحصاد.
ويجوز للمشتري إبقاء الثمر على الشجر إلى أوان قطفِه عادة، إلا إذا شرط البائع قطعَه في الحال.
4- تضمين الأرض المغروسة مع شجرها لمن يعمل بها سقايةً ورعايةً للشجر الموجود مقابل نسبة مِن المحصول، إما لسنة او عدة سنوات.
وتُسمى هذه الصورة عند الفقهاء بالمساقاة.
روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخلَ خيبر وأرضَها، على أن يعتملوها مِن أموالهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطرُ ثمرها".
وأما ما يُنفَق على الأرض كثمن البذر وتكاليف الحرث والسقي والحصاد ... ونحو ذلك فيُرجَع فيه إلى ما يتفقان عليه، ولهما أن يتفقا على أن تكون التكاليف على صاحب الأرض أو على العامل، كما يجوز أن تكون بعض هذه التكاليف على أحدهما وسائرها على الآخر، وإذا لم يتم الاتفاق على هذه الأشياء أو بعضها فالمرجع في ذلك إلى العرف .
1- دفع الأرض الخالية (البور أو البيضاء) لمن يريد أن يزرعها أو يغرسها ، بشرط أن يكون لأحدهما قَدْرٌ محدّد مِن محصولها كألف كيلو مثلاً؛ لما في ذلك مِن الغرر، فقد لا تُخرج الأرضُ هذا القدر فلا يحصل الآخرُ على شيء، وقد يحصل له أكثر مما يستحقه بكثير، فيُغبن الآخر.
وكذلك لا يجوز أن يُشترط لأحدهما محصول الجزء الشرقي مِن البستان وللآخر الغربي مثلاً، أو ناحية مِن الأرض، أو أشجار محدّدة؛ فقد يصلح جزء مِن الأرض ولا يصلح الجزء الآخر، فيكون أحدهما غانماً والآخر غارماً، وهذا ينافي القصد مِن الشراكة في اشتراك الطرفين في الربح والخسارة .
روى البخاري عن رافع بن خَديج رضي الله عنه قال: "كنا أكثرَ أهل المدينة حقلاً، وكان أحدُنا يُكري أرضه، فيقول: هذه القطعة لي، وهذه لك، فربما أخرجت ذه، ولم تخرج ذه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم".
2- بيعُ ثمرِ ومحصولِ أرضٍ معينةٍ قبل زراعتها ، أو بيع محصول الأرض لأعوام عديدة، والمنعُ منه لأنه بيعٌ لمعدوم قد لا يوجد، وهذا غررٌ كبير.
قال أبو إسحاق الشيرازي: "ولا يجوز بيع المعدوم كالثمرة التي لم تُخلق".
وروى مسلم عن جابر بن عبد الله قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعاومة".
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: " أما النهي عن بيع المعاومة وهو بيع السنين، فمعناه أن يبيع ثمرَ الشجرة عامين أو ثلاثة أو أكثر ، فيسمى بيع المعاومة وبيع السنين، وهو باطل بالإجماع، نقل الإجماعَ فيه ابنُ المنذر وغيرُه؛ لهذه الأحاديث، ولأنه بيعُ غرر؛ لأنه بيعُ معدومٍ ومجهولٍ غيرِ مقدور على تسليمه وغيرِ مملوك للعاقد ".
قال ابن رشد الحفيد: " فجميع العلماء مطبقون على منع ذلك، لأنه من باب النهي عن بيع ما لم يخلق".
3- بيعُ محصول الأرض الزراعية وثمرها قبل نضجه.
لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم : ( نَهى عن بَيعِ الثَّمارِ حَتّى يَبدُوَ صَلاحُها ، نَهى البائِعَ وَالمـُبتاعَ - أي المشتري -) متفق عليه.
فلا يجوز بيع الزرع أو الثمر ما لم يبدُ صلاحُه، ويكون ذلك بظهور مبادئ النضج والطِّيب في الثمر والذي مِن شأنه أمنُ العاهات التي تصيب الزروع، وذلك إما بالتلون باللون الأحمر والأصفر ونحوه، أو بتحقق ما يُقصد من الثمر كالحموضة والحلاوة والاشتداد ونحوه
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع الثمرة حتى تُشْقِح" فقيل: وما تشقح؟ قال: "تحمارُّ وتصفارُّ ويُؤكل منها) رواه البخاري.
وعن أنس رضي الله عنه: (أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد) رواه أبو داود والترمذي.
وسبب المنع ما في هذا البيع من غرر؛ لأن احتمال فساد الزرع قبل نضجه احتمال كبير، إذ قد تأتي آفة من الآفات كالصقيع أو المرض أو غير ذلك فيفسد الثمر ولا ينضج.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وكان إذا سئل عن صلاحها قال: "حَتَّى تَذْهَبَ عَاهَتُهُ"رواه البخاري.
ويُستثنى مِن عدم جواز البيع قبل بدوّ الصلاح صورٌ يجوز البيع فيها:
أ- إذا اشترى الثمار والزروع مَن ينتفع بها على حالها كمَن يريد أن يستفيد مِن الزرع بجعله مرعىً للبهائم ترعى فيه وتأكل منه، أو أراد الثمرة على حالها بقطعها مباشرة قبل نضجها ليستفيد منها بأحد وجوه الانتفاع من صناعة وغيرها، فهذا جائز بغير خلاف.
قال ابن قدامة: " أن يبيعها بشرط القطع في الحال، فيصح بالإجماع؛ لأنّ المنع إنما كان خوفًا مِن تلف الثمرة، وحدوث العاهة عليها قبل أخذها".
وقال ابن رشد الحفيد: "فأما بيعُها قبل الزهو بشرط القطع فلا خلاف في جوازه ".
ب- إذا بيع الثمر تابعاً للشجر، والزرع تابعاً للأرض؛ لأنه يثبت تبعاً ما يثبت استقلالاً، فيكون الغرر مغتفراً.
جاء في "الشرح الكبير" من كتب الحنابلة : "أن يبيعها مع الأصل، فيجوز بالإجماع".
ويدلّ ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (مَن ابتاع نخلاً بعد أن تؤبَّر -أي تُلّقَّح- فثمرتها للذي باعها، إلا أن يشترط المبتاع) متفق عليه. ويُفهم منه أنّ مَن باع نخلاً قبل أن تؤبّر فثمرتُها للمشتري، مما يدلُّ على جواز بيعها في هذه الصورة.
ج- إذا بيع الثمرُ لمالك الشجر، والزرعُ لمالك الأرض.
قال ابن قدامة : " نحو أن تكون للبائع ولا يشترطها المبتاع، فيبيعها له بعد ذلك، أو يوصي لرجل بثمرة نخلته، فيبيعها لورثة الموصي..، يصح البيع..؛ لأنه يجتمع الأصل والثمرة للمشتري، فيصح، كما لو اشتراهما معاً. ولأنه إذا باعها لمالك الأصل حصل التسليم إلى المشتري على الكمال؛ لكونه مالكاً لأصولها وقرارها، فصح كبيعها مع أصلها".
نذكّر الإخوة في المناطق المحررة التي يفد إليها المهجّرون قسراً ، بما ورد من النصوص الشرعية في حث مَن يملك أرضاً خصبةً لا يستفيد منها على منحها لإخوانه للاستفادة منها وزراعتها، واحتساب الأجر والمثوبة عند الله.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان لرجالٍ فضولُ أرَضينَ مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مَن كانت له فضلُ أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، فإن أبى فليُمسِك أرضه)، متفق عليه.
وروى مسلم عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت له أرض فإنه أن يمنحها أخاه خيرٌ).
والله تعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.