هل ينفسخ عقد النكاح بردة أحد الزوجين ؟
السؤال: يرتكب بعضُ الأزواج أو الزوجات أمورًا كفرية مثل اعتقاد بعض العقائد المخالفة للدين، وقد يترك بعضُهم الإسلام بالكلية، فهل يبقى الزواج مستمراً مع ذلك؟
الجواب:
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فالرِّدةُ عن الإسلام مِن أسباب انفساخ عقد النكاح إذا صدرت مِن أحد الزوجين، وتحرم العشرةُ بينهما مالم يرجع إلى الإسلام، وتفصيلُ ذلك فيما يلي:
أولا: الرّدةُ عن الإسلام تكون بالاعتقاد والقول والعمل.
قال النووي في "منهاج الطالبين": "الردةُ هي قطعُ الإسلام، بنيةٍ، أو قولِ كفرٍ، أو فعلٍ، سواء قاله استهزاءً، أو عنادًا، أو اعتقادًا".
وموجباتُ الرّدة، ونواقض الإيمان كثيرةٌ جداً، ونحن نورد بعض الأمثلة الظاهرة:
فمِن أمثلة الرّدة بالاعتقاد: إنكارُ وجود الله أو الشكّ فيه، أو اعتقاد أنّ الله حلّ في بعض خلقِه، أو أنّ له شريكاً في الخلق، أو التكذيب برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، أو الشكّ في صدقه، أو التصديق بمّن يدّعي النبوة بعده، أو اعتقاد عدم صلاحية الإسلام لهذا الزمان، ونحو ذلك.
ومِن أمثلة الردة بالقول: سبُّ الله تعالى، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دين الإسلام، أو التنقص والاستخفاف بذلك.
ومِن أمثلة الردة بالعمل: امتهان المصحف بإلقائه في القاذورات، وسجود العبادة للصنم، ونحو ذلك.
ومَن صدر عنه شيءٌ مِن موجبات الكفر بالقول أو الفعل أو الاعتقاد فلا يُحكم بكفره وردّته إلا بعد نظر أهل العلم المختصين في حقيقة ما وقع فيه، وحال مرتكبها، والتأكد مِن توفر شروط التكفير وانتفاء موانعه.
وإقامة حد الردَّة عليه من اختصاص الحاكم ونوابه، فليس لغير الحكام والقضاة أن يحكموا به، قال برهان الدين ابن مفلح في "المبدع" عن المرتد: "ولا يَقتلهُ إلّا الإِمامُ أو نائبُه في قولِ عامّةِ العلماء".
ومَن لم يصدر حكمٌ بردَّته لتعذُّر القيام بذلك، أو تخلُّفِ بعض الشروط أو الموانع فإنّ مرتكبها على خطرٍ عظيمٍ، وقد يكون كافرًا في الحقيقة.
والواجبُ على المسلم أن يحفظ لسانه مِن كلِّ قولٍ منكرٍ وباطلٍ، وخاصةً ما يوهم الكفر بالله العظيم ، فقد يكون سببَ هلاكه وعذابه، والعياذ بالله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ العبدَ ليتكلّم بالكلمةِ، ما يتبيّن ما فيها، يهوي بها في النّار أبعدَ ما بين المشرق والمغرب) رواه البخاري ومسلم.
ومَن وقع في شيء مِن ذلك فليبادر إلى التوبة لله تعالى.
ثانياً: إذا كان أحدُ المتقدِّمَين للزواج مرتدّاً عن الإسلام فلا يجوز عقدُ نكاحه، وإذا عُقد النكاحُ فهو باطلٌ لا أثرَ له في شيء مِن الأحكام باتفاق العلماء.
قال تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10].
قال الجويني في "نهاية المطلب": "المرتدّ لا ينكح أبداً مسلمة... والمرتدةُ لا ينكحها أحدٌ".
ومَن وقع منه ما يحتمل الكفرَ قولاً أو فعلاً -وإن لم يكن كفراً في الحقيقة أو لم يُحكم بكفره- فلا يستحقّ أن يُزوّج حتى يتوب وينخلع مِن هذا المنكر الشنيع؛ لأنه على خطرٍ من الكفر، وليس كفؤًا للصالح.
قال صلى الله عليه وسلم: (إِذا جاءكم مَن ترضَون دينَه وخلقَه فأنكحوه) رواه الترمذي، وقال : حديث حسن غريب.
قال ابن القيم فقال في "زاد المعاد": "فالذي يقتضيه حُكمُه صلى الله عليه وسلم اعتبارُ الكفاءة في الدّين أصلاً وكمالاً، فلا تُزوج مسلمةٌ بكافر، ولا عفيفةٌ بفاجر".
ثالثاً: إذا صدر مِن أحد الزوجين ما يوجب الكفرَ والرِّدةَ عن الإسلام، فلا يخلو مِن حالين:
1- أن يصدر هذا الكفر بعد عقد النّكاح وقبل الدخول، وحينئذٍ فإنّ العقد ينفسخ مباشرة، ولا تحلُّ العشرة بينهما إلا بعد العودة للإسلام وبعَقدِ نكاحٍ جديد.
قال ابن قدامة رحمه الله في "المغني": "إذا ارتدّ أحدُ الزوجين قبل الدخول: انفسخ النكاح في قول عامة أهل العلم".
ولا بدّ مِن تثبيت ذلك في المحكمة إن كان في دولة مسلمة، أو المراكز الإسلامية في الدول غير الإسلامية، ولا تتزوج المرأةُ رجلاً آخر إلا بعد صدور حكمٍ بفسخ نكاحها.
2- أن يصدر الكفرُ بعد عقد النكاح والدخول، ففي هذه الحال يُفرَّق بينهما، ويكون العقد موقوفاً حتى تتبين حاله:
- فإن عاد المرتدُّ منهما للإسلام قبل انتهاء العدة، فإنّ عقدَ الزواج على حاله، ولا يُحكم بفسخه.
- وإن انتهت العدةُ قبل توبته وعودته للإسلام، فإنّ العقدَ مفسوخ، ولا يحلّ له أن يرجع للآخر إلا بعد توبته، وبعقد نكاح جديد.
قال الإمام الشافعي في "الأم" : "فإن ارتدّ الزوجُ بعد الوطء حيل بينه وبين الزوجة، فإن انقضت عدّتُها قبل أن يرجع الزوج إلى الإسلام انفسخ النكاح، وإن ارتدّت المرأةُ أو ارتدّا جميعاً أو أحدُهما بعد الآخر فهكذا أنْظُرُ أبداً إلى العدة: فإن انقضت قبل أن يصيرا مسلمَين فسختها، وإذا أسلما قبل أن تنقضي العدة فهي ثابتة".
ومِن أهل العلم مَن ذكر أنّ العقد ينفسخ مباشرة بمجرّدِ الرّدةِ مطلقاً، سواء قبل الدخول أو بعده، رجع في العدة أو لم يرجع؛ لذا ينبغي أن يكون الإنسان على حذر شديد في هذا الأمر الخطير.
رابعاً: مِن آثار فسخ النّكاح بالرّدة:
1- أنّ هذا الفسخ لا يُعدّ طلاقاً عند جمهور الفقهاء، فإذا عاد الزوجان إلى بعضهما بعقد نكاح جديد، لم يُحسب عليهما –بهذه الردة- شيء مِن الطلاق.
قال الإمام الشافعي في "الأم": "والبينونةُ فسخٌ بلا طلاقٍ، وإن رجع إلى الإسلام فخطبها لم يكن هذا طلاقاً ".
2-إذا كانت الردة بعد الدخول: فإنّ المرأةَ تستحقُّ مهرَها كاملاً سواء كانت هي المرتدة أو الرجل؛ لأنّ استحقاق المهر ثبت بما استحلّ منها.
وأما قبل الدخول:
فإن كانت المرأة هي المرتدّة: فلا مهر لها؛ لأنّ الفسخَ حصل بسببها. وإن كان الرجل هو المرتدّ فيلزمه نصف المهر.
قال في "مختصر القدوري": "فإن كان الزوج هو المرتدَّ وقد دخل بها: فلها كمال المهر، وإن كان لم يدخل بها فلها نصفُ المهر.
وإن كانت المرأة هي المرتدّة: فإن كان قبل الدُّخول فلا مهرَ لها، وإن كانت الرّدة بعد الدّخول فلها المهر".
خامساً: مَن صدرت منه الرّدةُ فلا يخلو مِن حالين:
الأولى: أن يعلن الردةَ عن الإسلام صراحةً، باعتناقه الإلحاد، أو تحوله إلى دينٍ آخر، فإنّ نكاحه ينفسخ وفق التفصيل السابق ذكره (بالتفريق بين حكم الردة قبل الدخول وبعده، والتوبة في العدة أو بعدها ).
قال الزيلعي في تبيين الحقائق: " الردّةُ تنافي النكاحَ ابتداءً، فكذا تنافيه بقاءً، ولهذا لا يُحتاج فيه إلى حكم الحاكم".
وينبغي على المرأة مراجعة المحكمة لتثبيت فسخ النكاح.
الثانية: أن يصدر منه شيءٌ مِن الأقوال والأفعال الكفرية مع ادعائه الإسلام.
ففي هذه الحال لا يُحكم بفسخ النكاح إلا بعد رفع أمره للقضاء الشرعي للنظر في حاله، والتأكد مِن تحقّق وقوعه في الكفر، وخلوّه مِن الأعذار والموانع، فقد يكون لما صدر منه محمَلٌ يمنع مِن تكفيره، أو له فيه شبهة وعذر، أو في الحكم بكفره خلاف بين العلماء.
فإذا حكم القاضي الشرعي بردته فإن النكاح ينفسخ وفق التفصيل السابق.
وأخيرًا:
فالواجبُ على الزوجين أن يتقيا الله تعالى، وإذا صدر مِن أحدهما ما يحتمل الردة فيجب على الآخر النصح والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة إلى التوبة والتراجع عما بدر منه، فإن لم يرجع فلا يجوز الاستمرار بالمعاشرة بينهما؛ لاحتمال وقوعه في الكفر، وتنبغي المسارعة إلى عرض الأمر على القضاء للفصل في الموضوع، قال تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10].
قال الطبري: " يقول: لا المؤمنات حلٌّ للكفار، ولا الكفار يحلّون للمؤمنات".
نسأل اللهَ أن يردّ المسلمين إليه ردًا جميلاً، ويوفقهم للتمسّك بدينه، ويثبّتهم عليه، ويجنبهم الفتن والشبهات، ويسلّمهم مِن الشرّ وأهله .
والله أعلم