الثلاثاء 1 جمادى الآخر 1446 هـ الموافق 3 ديسمبر 2024 م
عمل المحاكم ولجان التحكيم عند وقوع الشِّقاق بين الزّوجين
رقم الفتوى : 77
الخميس 23 شوّال 1437 هـ الموافق 28 يوليو 2016 م
عدد الزيارات : 64863

 

عمل المحاكم ولجان التحكيم عند وقوع الشِّقاق بين الزّوجين

 

السؤال: ما الواجب عند وقوع الشقاق بين الزوجين؟ وهل تمتلك المحاكم ولجان الصلح في سورية ودول اللجوء حق التفريق بين الزوجين للشقاق وتعذر الصلح بينهما؟

الجواب:
الحمدُ لله، والصّلاةُ والسّلامُ على رسولِ الله ، أمّا بعدُ:
فالواجبُ عند وقوع الشّقاق بين الزّوجين السّعيُ للإصلاح بينهما بكلّ سبيل، ثمّ تقومُ المحكمةُ بإرسال حكمَين مِن أهلهما، فيحكمان بما يريانه مِن المصلحة، وتفصيلُ ذلك فيما يلي:
أولاً: الشّقاقُ بين الزّوجين هو الخلافُ والعداوةُ وادّعاءُ كلٍّ منهما على الآخر الاساءةَ والتّقصير، قال الماوردي في "الحاوي الكبير" : "وشقاقُهما يكون مِن جهةِ الزّوجة بنشوزها عنه، وتركِ لزومِها لحقّه، ويكون مِن جهة الزّوج بعدوله عن إمساكٍ بمعروفٍ، أو تسريحٍ بإحسانٍ ..".
فإذا وقع الشّقاقُ بين الزّوجين فالواجبُ البدءُ بنُصحهما، وحثّهما على حسن العشرة، ومحاولة الصّلح بينهما قدر المستطاع، قال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128] .


ثانياً: إذا استمرّ الزّوجان على نفرتهما : فيُشرعُ بعثُ حكمَين عدلَين ممّن يَعرف حالَ الزّوجين، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35].
قال الطّاهر بن عاشور في "تفسيره": "الآيةُ دالةٌ على وجوب بعثِ الحكمين عند نزاع الزّوجين النّزاعَ المستمرَّ المعبَّر عنه بالشِّقاق".
ومِن شروط الحكمين: البلوغُ والعقل والإسلام والعدالة، وينبغي أن يكونا مِن أهل الزوجين؛ ليكونا أقربَ إلى إدراك الواقع، وفهمِ حقيقة ما يجري بين الزّوجين، والشّفقة عليهما، والحرص على تحقيق مصلحتهما.
قال ابنُ قدامة في "المغني": "إنّ الحكمين لا يكونان إلا عاقلين بالغين عدلين مسلمين؛ لأنّ هذه مِن شروط العدالة سواء قلنا: هما حاكمان أو وكيلان، والأولى أن يكونا مِن أهلهما؛ لأمرِ الله تعالى بذلك، ولأنهما أشفقُ وأعلمُ بالحال، فإن كانا مِن غير أهلهما جاز؛ لأنَّ القرابةَ ليست شرطاً في الحُكم ولا الوكالة، فكان الأمرُ بذلك إرشاداً واستحباباً ".
ويتوجّب على القاضي أن يبعثَ الحكمين لأجل الإصلاح بين الزّوجين، وذكر بعضُ أهل العلم أنّ بعثَ الحكمين واجبٌ على القاضي حتى لو لم يرتفع الزّوجان إليه، قال اللّخمي المالكي في كتابه "التّبصرة" : " إذا اختلف الزّوجان، وخرجا إلى ما لا يحلُّ مِن المشاتمة والوثوبِ كان على السّلطان أنْ يبعثَ حكمين ينظران في أمرهما، وإن لم يرتفعا يطلبان ذلك منه، ولا يحلُّ أنْ يتركَهما على ما هما عليه مِن المآثم، وفساد الدِّين ".


ثالثاً: يجب على الحكمين أنْ يستقصيا أسبابَ الخلاف، ويحاولا رأبَ الصّدع، وتذليلَ العقبات والصّعوبات في ذلك، ولهما أنْ يحكما بما يظهرُ لهما مِن حقوقٍ وواجباتٍ.
جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما -كما في تفسير الطبري- أنه قال: "فهذا الرّجلُ والمرأةُ إذا تفاسد الذي بينهما, فأمر اللهُ سبحانه أنْ يبعثوا رجلاً صالحاً مِن أهل الرّجل, ومثلَه مِن أهل المرأة, فينظران أيّهما المسيء، فإن كان الرجلُ هو المسيءَ حجبوا عنه امرأتَه، وقصروه على النّفقة, وإن كانت المرأةُ هي المسيئةَ قصروها على زوجِها, ومنعوها النفقةَ..".
فإذا تمكّن الحكمان مِن إزالة ما طرأ بين الزوجين مِن الفساد فالأمرُ على ما توصلا إليه، ويجب على القاضي إنفاذُ ما حكما به مِن حقوقٍ، أو نفقةٍ، ونحو ذلك.


رابعا: هل للحكمين التفريق بين الزوجين إذا لم يتمكنا من الصلح بينهما؟
ذهب كثيرٌ مِن أهل العلم إلى أنّه ليس للحكمَين أنْ يُفرّقا بين الزّوجين إلا برضا الزّوج بالطّلاق، أو رضا المرأة بالخُلع وبذل العوض؛ لأنَّ الزوجين إنما وكّلا الحكمين، أو رفعا أمرهما للقاضي للإصلاح بينهما في شقاقهما، لا للتّفريق، وفي ذلك فرصةٌ للزوجين لمراجعة أمرهما، والنّظر في حالهما، وقد يوفقهما الله، أو يوفق الحكمين للتوفيق ورفع الشّقاق بينهما، كما قال تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35].
فعن الحسن، وقتادة -كما في تفسير الطبري- أنهما قالا: " إنّما يُبعث الحكمان؛ ليصلحا ويشهدا على الظّالم بظلمه؛ وأمّا الفرقةُ فليست في أيديهما, ولم يملكا ذلك ".
وقال أبو إسحاق الشيرازي في "المهذب": "هما وكيلان فلا يملكان التّفريقَ إلا بإذنهما؛ لأنّ الطّلاقَ إلى الزّوج، وبذل المال إلى الزّوجة، فلا يجوز إلا بإذنهما".
وعليه: إن رأى الحكمان التفريق بين الزوجين  فيَعرضان الأمر عليهما: بأنْ يقوم الزّوجُ بتطليقها بإحسان، أو أن تخالعه المرأةُ على حقوقها أو بعضها مِن مهرٍ أو نفقةٍ مقابلَ الفراق، فإن تراضيا على ذلك فيصحُّ تفريقُ الحكمين حينئذٍ؛ ويقتصر عملُ القاضي على توثيق الاتفاق، والإلزام به.
أما إن استمرّ الشّقاق، وتعذَّرت محاولات الإصلاح بين الزوجين أو إيجاد حلول لشقاقهما: فقد ذهب جمعٌ مِن أهل العلم إلى أنّ للحكمين سلطةَ التّفريق بين الزّوجين ولو دون رضاهما، بطلاقٍ خالٍ مِن العوض إذا كانت الإساءةُ مِن جهة الزوج، أو بعوضٍ تبذله المرأةُ إذا كانت الإساءةُ مِن جهتها، ويجب على القاضي أنْ يقوم بتوثيق ذلك، وإخبار الزوج بلزوم طلاقها، أو مخالعتها بحسب حكم الحكمين .
وقد صحّ هذا القولُ عن كثيرٍ مِن الصّحابة والتابعين رضي الله عنهم، واختاره جمعٌ مِن المحققين مِن أهل العلم قديمًا وحديثًا، وبه أخذ عددٌ مِن هيئات الفتوى، ومدوّنات أحوال الأسرة.
فعن علي بن أبي طالب -رضي الله- أنّه قال للحكمين: "أتدريان ما عليكما؟ إنْ رأيتما أن تفرّقا فرّقتُما، وإنْ رأيتُما أن تجمعا جمعتُما" أخرجه عبد الرزاق في المصنف.
وعن ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله- عنه قال: "بُعثْتُ أنا ومعاويةُ حكَمَين، فقيل لنا: إنْ رأيتما أن تجمعا جمعتُما، وإن رأيتما أن تفرّقا فرّقتما" أخرجه عبد الرزاق في المصنف.
وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "فإنْ رأيا المصلحةَ أن يجمعا بين الزّوجين جمعا، وإن رأيا المصلحة أنْ يفرّقا بينهما فرّقا: إمّا بعوضٍ تبذله المرأةُ فتكون الفرقةُ خُلعاً إن كانت هي الظالمة، وإن كان الزوجُ هو الظالم فُرّق بينهما بغير اختياره، وأكثرُ العلماء على أنّ هذين حكمان كما سماهما الله حكمين يحكمان بغير توكيل الزّوجين".
وقال الشيخ سيد سابق في "فقه السنة": "ويجب عليهما تعرّف أسباب الشِّقاق بين الزّوجين، والإصلاح بينهما بقدر الإمكان، فإن عجزا عن الإصلاح وكانت الإساءة مِن الزّوجين، أو مِن الزوج، أو لم تتبين الحقائق، قرّرا التفريق بينهما بطلقةٍ بائنةٍ، وإن كانت الاساءةُ مِن الزّوجة فلا يُفرّق بينهما بالطلاق. وإنّما يُفرّق بينهما بالخلع".
وقال د. مصطفى السباعي مبينًا سبب الأخذ بهذا القول في كتابه "المرأة بين الفقه والقانون": "فإنّ الحياة الزوجية لا تستقيم مع الشّقاق والنّزاع، عدا ما في ذلك مِن ضررٍ بالغٍ بتربية الأولاد وسلوكهم. ولا خير في اجتماعٍ بين متباغضين، ومهما يكن أسبابُ هذا النزاع خطيراً أو تافهاً فإنّ مِن الخير أن تنتهي العلاقةُ الزوجية بين هذين الزّوجين لعل الله يهيئ لكلِّ واحدٍ منهما شريكاً آخر لحياته يجد معه الطمأنينةَ والاستقرار".


خامساً: إذا اختلف الحكمان، أو لم يستطيعا الوصولَ إلى رفع الشّقاق، أو لم يتبين لهما طريقُ الحلّ فيمكن بعثُ حكمين آخرين ما دام احتمالُ الإصلاح قائماً، ورفعُ الشّقاق ممكناً ، وإلا حَكم القاضي بما يراه مِن التّفريق بعوضٍ أو بغير عوض.
كما يمكن لأحد الزّوجين أن يرفع إلى القاضي دعوى بالتّفريق مشفوعًا ببيان الأسباب الموجبة لذلك مِن ضررٍ، أو عيبٍ، أو فجورٍ، أو إعسارٍ بالنّفقة أو غير ذلك، وحينها يحكم القاضي وفق أحكام التّفريق بين الزّوجين، ولا يُشترط حينها رضا كلا الزّوجين بحكم القاضي.
جاء في قرار هيئة كبار العلماء بالسعودية: "فإن لم يتفق الحكمان، أو لم يوجدا وتعذّرت العشرةُ بالمعروف بين الزوجين نظر القاضي في أمرهما، وفسخ النكاح حسبما يراه شرعاً بعوض أو بغير عوض".


سادسًا: إن لم يكن هناك قاضٍ ولا محكمة: فيقتصر عملُ الحكمين على الإصلاح بين الزّوجين وإرشادهما، وليس لهما حقُّ التّفريق بينهما إلا إذا فوَّضهما الزوجان بذلك، لذلك نرى للزّوجين في هذه الحال -وفي جميع الأحوال السابقة- تفويضَ الحكمين ابتداءً بما يريانه لإنهاء الشّقاق.
فإن وافق الزوجان على ذلك: فيصحُّ تفريقُ الحكمين؛ لكونِهما مفوَّضَين بذلك، ويجب الأخذ بما اتفق عليه الحكمان شرعًا.


وختامًا:
نوصي الزوجين بأن يلين كل منهما للآخر، ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيراً منه، وأن يذكر كل منهما محاسن شريكه عند الشقاق، امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم (لا يَفْرَكْ [أي: لا يُبغضْ] مؤمنٌ مؤمنةً، إن كره منها خُلُقاً رضي منها آخر) رواه مسلم.

ونوصي الحكمين بتقوى الله، وأن يخلصا النية، وينصحا للزوجين، ويستفرغا الوسع في الإصلاح، وأن يستعينا عليه بالدعاء.
والحمد لله رب العالمين.