الثلاثاء 1 جمادى الآخر 1446 هـ الموافق 3 ديسمبر 2024 م
حكم الجهاد مع الفصائل والكتائب التي لديها مخالفات شرعية
رقم الفتوى : 75
الأربعاء 11 شعبان 1437 هـ الموافق 18 مايو 2016 م
عدد الزيارات : 68950

 

 حكم الجهاد مع الفصائل والكتائب التي لديها مخالفات شرعية

 

السؤال: أودُّ الالتحاق بإحدى الفصائل للجهاد، ولكن يمنعني مِن ذلك ما عُلم مِن تساهل العديد مِن الفصائل أو المجموعات المقاتلة في أموال النّاس وأرواحهم، وذلك باستخدام ممتلكاتهم وبيوتهم بغير إذنهم، أو تعريضها للقصف، أو التّسبُّب في استهداف المناطق السّكنية، ووجودُ بعضِ المنكراتِ والمعاصي من بعض الجنود والقادة، وأخاف مِن التّسبّب أو المشاركة في هذه التّجاوزات، فهل يجوز لي أن أخرج مع تلك الفصائل مع وقوع ذلك منها؟

الجواب:
الحمد لله، والصّلاةُ والسلام على رسول الله، أما بعد :
فإقامةُ الجهاد في سبيل الله لا يمنع منه جورُ الولاة وظلمُ القادة، ولا وقوعُ الفسق مِن بعضِ الجنود، أو حصول التعدّي على بعض الممتلكات، ولكن على المجاهد أن يجتهدَ في اجتناب المنكرِ، والعمل على تخفيفه وإنكاره، وألا يعينَهم على فعله قدرَ المستطاع وتفصيلُ ذلك فيما يلي :
أولًا : لا شكّ أنّ دفعَ النّظام المجرم، وكفَّ شرّه مِن الجهاد في سبيل الله، وهو مِن الواجبات الشّرعية التي يجب أن تُقام بحسب القدرة، وقد سبق بيانُ ذلك في عدّة فتاوى سابقةٍ للمكتب، منها :
(هل يسمى المقتول على أيدي النظام السوري شهيدًا ؟)، و (حكم استهداف المنتسبين للأجهزة الأمنية بمختلف قطاعاتها)، و (حكم عقد الهُدن والمصالحات مع النظام السوري) .
كما أنّ دفعَ عادية الغلاة والخوارج في تنظيم (الدّولة) مِن القتال المشروع الذي دلّت عليه الأدلةُ الشرعية، وقد تمّ توضيحُ ذلك في فتوى: (هل القتال القائم بين الكتائب المجاهدة وتنظيم (الدولة) قتال فتنة؟) .

ثانياً: ما يقع أثناءَ الجهادِ مِن إضرارٍ بالمباني أو الممتلكات بسبب العمليات العسكرية منه ما هو مشروعٌ مأذونٌ فيه، ومنه ما هو ممنوعٌ محرّم.
فما يُضطر إليه المجاهدون، ولا يمكنهم الامتناعُ عنه، كتدمير بيتٍ تحصّن به الأعداءُ، أو ضربِ العدوِّ لمكانٍ تحصّن فيه المجاهدون، ونحو ذلك: فهذا لا لومَ على المجاهدين فيه، وليس هو مِن المحرّمات عليهم، ولا مِن الإفساد المنهي عنه.
كما يجوز استخدامُ البيوت والممتلكات الخاصّة إذا اضطُر إليها المجاهدون، في الإيواء، أو الاحتماء، أو غير ذلك مِن ضرورات المعارك،  ويجوز لهم استخدامُها لغير الضرورة إذا أذن لهم أصحابُها.
وأمّا استخدامُ تلك الممتلكات دون إذن مالكيها فيما لا ضرورةَ فيه، أو التّسبّب في الإضرار بها بطريقةٍ غير مشروعة: كالوجود في مناطقَ سكانيةٍ لا تتطلبها ضرورةُ الحرب، أو إتلافِ بعض الممتلكات عمدًا، أو إساءة استخدامها، أو أخذ ما فيها مِن ممتلكاتٍ دون ضرورة: فذلك محرّمٌ لا يجوز، وعليهم ضمان كلّ ما أتلفوه أو تلِف بسببهم.
وقد سبق بيان ذلك في فتوى (حكم الاستفادة من البيوت والمزارع الخالية لإيواء النازحين والمهجرين).
ويمكن الرجوعُ لأهل العلم لمعرفة ما يُشكل مِن حالات الجواز أو التّحريم، وما يلزم فيه الضّمانُ، وما لا يلزم.


ثالثاً: القيامُ بجهاد العدوّ الصّائل واجبٌ شرعي، ومطلبٌ ديني، وإنكارُ المنكر واجبٌ آخر، فإذا أمكن المسلمَ أن يقومَ بالجهاد مع إنكار المنكر، فقد اجتمع في حقِّه واجبان، وهو في جهادَين، جهادٍ للكفار، وجهادٍ للمنكر، كما قال صلى الله عليه وسلم: (مَن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان) رواه مسلم، فوجودُ أحدِهما لا يمنعُ مِن الآخر .
والواجبُ على مَن يجاهد مع فصيلٍ تقع منهم بعضُ المخالفات أو التّجاوزات أمران :
أولهما: إنكارُ المنكرات بقدر الوسع والطاقة، ونصيحتُهم بتركها، وتحقيقِ أسباب النصر بإصلاح الحال، وترك المعاصي، وقد روى البخاري من حديث عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: (بايعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصّلاة، وإيتاء الزكاة، والنّصح لكلِّ مسلم).
وقال صلى الله عليه وسلم: (الدينُ النصيحة) قلنا: لمن؟ قال: (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم .
وثانيهما: أن لا يعينَهم على الباطل، ويتجنّب مخالفاتهم قدر المستطاع ؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
وقد قال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: (إذا أحسن الناسُ، فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم) رواه البخاري.


رابعاً: إذا أراد المجاهدُ النّفيرَ للجهاد فعليه أنْ يتحرّى أفضلَ الكتائب وأكثرَها التزامًا بالشّرع، فيلتحق بها، ثم لا يضرّه بعد ذلك ما قد يقع فيه ذلك الفصيلُ، أو بعضُ جنوده مِن بعض المخالفات الشّرعية؛ فوجودُ شيءٍ مِن الجور أو الظلم أو الفسق في بعض القادة أو المجاهدين لا يمنع مِن القيام بشعيرة الجهاد في سبيل الله، وإلا لتعطّل الجهادُ، وفاتت المصالح العظيمة المترتبة عليه، ووقعت المفاسد الجسيمة التي تندفع به، ولذلك قرّر أهلُ السنة والجماعة في عقائدهم أنّ الجهادَ في سبيل الله ماضٍ إلى يوم القيامة مع كلٍّ  بَرٍّ وفاجر.
قال الإمام الأشعري –رحمه الله- في "رسالة إلى أهل الثغر": "وأجمعوا -أي السّلف ومَن اتبعهم- على السّمع والطّاعة لأئمة المسلمين، وعلى أنَّ كلَّ مَن وَلِي شيئًا مِن أمورهم عن رضًا أو غلبةٍ، وامتدت طاعتُه مِن بَرٍّ وفاجرٍ لا يلزم الخروجُ عليهم بالسَّيف جار أو عدل، وعلى أن يغزوا معهم العدو، ويُحجَّ معهم البيت، وتُدفع إليهم الصّدقات إذا طلبوها، ويُصلى خلفهم الجُمعُ والأعياد".
وقال أبو بكر الإسماعيلي - رحمه الله - في "اعتقاد أئمة الحديث": "ويرون جهادَ الكفارِ معهم، وإن كانوا جَوَرة".
وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" عن قتال التتار: "فإن اتفق مَن يقاتلهم على الوجه الكامل فهو الغايةُ في رضوان اللهِ، وإعزاز كلمته، وإقامة دينه، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. وإن كان فيهم مَن فيه فجورٌ وفسادُ نيةٍ بأن يكون يقاتل على الرِّياسة، أو يتعدّى عليهم في بعض الأمور، وكانت مفسدةُ ترك قتالهم [أي التتار] أعظمَ على الدِّين مِن مفسدة قتالهم على هذا الوجه: كان الواجبُ أيضًا قتالَـهم؛ دفعًا لأعظم المفسدتين بالتزام أدناهما؛ فإنّ هذا مِن أصول الإسلام التي ينبغي مراعاتها، ولهذا كان مِن أصول أهل السنة والجماعة الغزوُ مع كلِّ بَرٍّ وفاجر؛ فإنّ الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا لم يتفق الغزو إلا مع الأمراء الفجار، أو مع عسكرٍ كثير الفجور، فإنه لا بدّ مِن أحد أمرين: إما تركُ الغزو معهم، فيلزم مِن ذلك استيلاءُ الآخرين الذين هم أعظم ضررًا في الدين والدنيا، وإما الغزو مع الأمير الفاجر فيحصل بذلك دفعُ الأفجرَين، وإقامةُ أكثر شرائع الإسلام، وإن لم يمكن إقامة جميعها. فهذا هو الواجب في هذه الصورة وكلِّ ما أشبهها، بل كثيرٌ مِن الغزو الحاصل بعد الخلفاء الراشدين لم يقع إلا على هذا الوجه".
بل إن التعاون مع من تلبَّس ببدعةٍ في دفع العدو الصائل أمر مشروع، قال ابن تيمية - رحمه الله - في "الفتاوى": "إذا تعذَّر إقامةُ الواجباتِ مِن العلم والجهاد وغيرِ ذلك إلَّا بمَن فيه بدعةٌ مَضَرَّتُها دون مَضَرَّةِ تركِ ذلك الواجبِ؛ كان تحصيلُ مصلحةِ الواجبِ مع مفسدةٍ مرجوحةٍ معه خيرًا مِن العكس".
نسأل الله تعالى أن يصلح أحوال الأمة عمومًا، وأحوال المجاهدين خصوصًا، وأن يبصّرهم بالطريق المستقيم في جهادهم، ويعينهم على إخلاص النية لله سبحانه، وعلى تجريد الاتباع للنّبي صلى الله عليه وسلم في القول والعمل، وأن يعجل لهم النصر والتّمكين .
والله أعلم .