السُّؤالُ:
تكرّر في سنواتٍ سابقةٍ اختلافُ المصلّين في بعضِ المساجدِ في أمورٍ تتعلقُ بصلاةِ التّراويحِ، وحصل فيها اتهامٌ بالبدعةِ، ومخالفةِ السّنّةِ، وربّما أدّى ذلك إلى انفصالِ بعضِهم ليصلّوا وحدَهم، وهذه الأمورُ هي:
- الزّيادةُ في صلاةِ التّراويح على إحدى عشرةَ ركعةً .
- الرّجوعُ للصّلاةِ في النّصفِ الثّاني مِن اللّيل بعد الانتهاءِ مِن التّراويحِ .
- ختمُ القرآنِ في التّراويحِ، والدّعاءُ بختم القرآنِ فيها .
الجوابُ:
الحمدُ لله، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ الله، أمّا بعدُ:
فصلاةُ قيامِ اللّيلِ مِن سُنن الهدى التي ينبغي المحافظةُ عليها، وليس لعددِها قدْرٌ محدَّدٌ لازمٌ عندَ علماءِ السّلفِ، وفقهاءِ الأمّةِ، على خلافٍ بينهم في الأفضل؛ فلا يجوزُ جعلُ العددِ سبباً للتّفريقِ بين المسلمين، أو الاتهامِ بالابتداع، ولا بأسَ بالرّجوعِ إلى الصّلاةِ في النّصفِ الثّاني مِن الليل، كما يستحبُّ ختمُ القرآنِ كاملاً في صلاةِ التّراويحِ، وبيانُ ذلك فيما يلي:
أولاً: قيامُ اللّيلِ مِن السُّننِ الثّابتةِ عن النّبي صلى الله عليه وسلم، والتي واظب عليها، ورغَّب فيها، ومنه قيامُ رمضانَ الذي سُمّي بعدَ ذلك بالتّراويحِ.
وكان يصليها إحدى عشرةَ ركعةً في الغالبِ مِن أحوالِه، بل كان إذا شغله عن قيامِ اللّيلِ نومٌ، أو وجعٌ، أو مرضٌ صلّى مِن النّهار اثنتي عشرة ركعةً، كما في سنن النّسائي، وقد يزيدُ في صلاةِ اللّيلِ فيصلّيها ثلاثَ عشرةَ ركعةً، وربّما صلّى بأقلَّ مِن ذلك، وكلُّ هذا سنّةٌ.
قالت عائشةُ رضي الله عنها :(ما كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يزيدُ في رمضانَ، ولا في غيرِه على إحدى عشرةَ ركعةً) متفقٌ عليه.
وفي الصّحيحين عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال :(كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يصلّي مِن اللّيلِ ثلاثَ عشرةَ ركعةً).
وعن زيدِ بنِ خالدٍ الجهني رضي الله عنه قال:(لأرمقنَّ صلاةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم اللّيلةَ، فصلّى ركعتين خفيفتين، ثم صلّى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلّى ركعتين، وهما دون اللّتين قبلَهما، ثمّ صلّى ركعتين، وهما دون اللّتين قبلَهما، ثمّ صلّى ركعتين، وهما دون اللّتين قبلَهما، ثمّ صلّى ركعتين وهما دون اللّتين قبلَهما، ثمّ أوتر، فذلك ثلاثَ عشرةَ ركعةً)رواه مسلم.
قال النّووي في "شرح مسلم": "قال العلماءُ : في هذه الأحاديثِ إخبارُ كلِّ واحدٍ مِن ابن عباسٍ، وزيدِ بن خالدٍ، وعائشةَ رضي الله عنهم بما شاهده...، وذلك لما كان يتّفقُ مِن اتّساعِ الوقتِ له، أو ضيقِه، إمّا بتطويل قراءتِه في بعضِها كما جاء، أو طولِ نومِه، أو لعذرٍ مِن مرضٍ، أو كبَرِ سِنٍّ".
وكان النّاسُ في عهد النّبيِّ صلى الله عليه وسلم يصلّون قيامَ رمضانَ أوزاعاً متفرّقين، ثمّ صلّى النّبيُّ صلى الله عليه وسلم في المسجدِ، فاجتمع النّاسُ على الصّلاةِ معه عدّةَ ليالٍ، ثمّ تركها خشيةَ أنْ تُفرضَ عليهم، وبقي الأمرُ على ذلك في خلافةِ أبي بكر، وصدرًا مِن خلافة عمر رضي الله عنهما، ثم جمع عمرُ رضي الله عنه النّاسَ على القيامِ في رمضانَ في جماعةٍ واحدةٍ.
قال عبدُ الرّحمن بن عبدٍ القاريُّ: "خرجتُ مع عمرَ بنِ الخطّاب رضي الله عنه، ليلةً في رمضانَ إلى المسجدِ، فإذا النّاسُ أوزاعٌ متفرّقون، يصلّي الرجّلُ لنفسِه، ويصلّي الرّجلُ فيصلّي بصلاتِه الرّهطُ، فقال عمرُ رضي الله عنه: إنّي أرى لو جمعتُ هؤلاء على قارئٍ واحدٍ، لكان أمثلَ، ثمَّ عزم، فجمعهم على أبيِّ بنِ كعبٍ رضي الله عنه " رواه البخاري.
ثانيًا: تعدَّدت الرواياتُ في عددِ الرّكعات التي جمع عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه النّاسَ عليها.
والعمدةُ في هذا الباب: ما رواه الصّحابي السائب بن يزيد رضي الله عنه، وقد اختلفت الرّواياتُ عنه في عدد الركعات:
* فروى عنه محمد بن يوسف -كما في "موطأ الإمام مالك- أنّه قال :" أمر عمرُ بنُ الخطابِ أبيَّ بنَ كعبٍ، وتميماً الدّاريَّ أنْ يقوما للنّاس بإحدى عشرةَ ركعةً، وقد كان القارئُ يقرأ بالمئينَ، حتى كنّا نعتمدُ على العِصيّ مِن طولِ القِيام، وما كنّا ننصرفُ إلا في فروعِ الفجرِ ".
* وروى عنه يزيدُ بن خُصيفة -كما في "مسند علي بن الجعد"، وأخرجه مِن طريقِه البيهقيُّ في "السنن الكبرى" - أنّه قال : " كانوا يقومون على عهدِ عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه في شهرِ رمضانَ بعشرين ركعةً" .
وقد صحّح كثيرٌ مِن أهلِ العلمِ كلتا الرّوايتين، وحملوا كلَّ روايةٍ على حالٍ مختلفة، منهم: البيهقيُّ، والنّوويّ، والزيلعي، وابنُ تيمية، والعراقي، وابنُ حجر، والعيني، والسّيوطي.
وقالوا : كانت صلاتُهم أوّلَ الأمرِ إحدى عشرةَ ركعةً، وكانوا يطيلون القيامَ جداً، فشقَّ ذلك على كثيرٍ مِن المأمومين، فخفّفوا القيامَ، وزادوا في الركعات، فأصبحت عشرين ركعةً دون الوترِ، ولفظُ الأثرين يساعدُ على هذا الجمعِ؛ ففي الأثر الأول أنَّ عمر رضي الله عنه جمعهم على إحدى عشرة ركعة، وفي الثاني أنهم كانوا يصلون في عهد عمر رضي الله عنه، وليس فيه أنه جمعهم.
قال البيهقي: "ويمكن الجمعُ بين الرّوايتين، فإنهم كانوا يقومون بإحدى عشرةَ، ثم كانوا يقومون بعشرين، ويوترون بثلاثٍ".
وقال الحافظ ابنُ حجرٍ في "فتح الباري": "والجمعُ بين هذه الرواياتِ ممكنٌ باختلافِ الأحوالِ، ويحتملُ أنّ ذلك الاختلافَ بحسب تطويلِ القراءةِ وتخفيفِها، فحيثُ يُطيلُ القراءةَ تقل الرّكعاتُ، وبالعكس" .
ومسلكُ الجمعِ بين الرّوايات مُقدَّم على التّرجيحِ بينها أو تخطئة بعضها.
ثالثًا: اتفق عامّةُ أهلِ العلمِ مِن السّلف والخلفِ على أنَّ صلاةَ التّراويحِ ليس لها عددٌ محدّدٌ بحيث لا يجوز الزّيادةُ عليه أو النقص منه، ويدلُّ على ذلك جملةٌ مِن الأدلةِ الشّرعيةِ:
1- حديثُ ابن عمر رضي الله عنهما : أنَّ رجلاً سأل النّبيَّ صلى الله عليه وسلم : كيف صلاةُ اللّيلِ؟ فقال:(مَثنى مَثنى، فإذا خشيتَ الصُّبحَ فأوتر بواحدةٍ توتر لك ما قد صليتَ)متفق عليه .
فالنبيُّ صلى الله عليه وسلّم لم يحدّد له عدداً مع أنّ السّائلَ لا يعلم عددَها، وتأخيرُ البيانِ عن وقت الحاجةِ لا يجوز، فدلَّ ذلك على جوازِ الزّيادةِ.
2- أنّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلّمَ قام بأصحابِه حتى ذهب شطرُ الليلِ، فقال أبو ذرٍّ : "لو نفَّلْتنا بقيةَ ليلتِنا هذه". [أي: لو زدتنا صلاةَ بقيةِ اللّيلِ]، فقال له النّبي صلى الله عليه وسلم:(إنّ الرّجلَ إذا قام مع الإمامِ حتى ينصرفَ حُسب له قيامُ ليلةٍ)أخرجه أبو داود والنّسائي وابن ماجه.
فقد أقرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أبا ذر رضي الله عنه على طلب الزّيادة في الركعات، ولم يضع لها حدّاَ، ولو كانت الزيادةُ على ما فعله النبيُّ صلى الله عليه وسلم غيرَ جائزةٍ لنهاه عنها، وبيّن له عدمَ جوازِ ذلك.
3- جريانُ العملِ لدى السّلفِ الصّالح منذ عهد الصّحابة رضي الله عنهم على الزّيادةِ عن إحدى عشرة ركعةً، واشتهارُ ذلك بينَهم، دون نكيرٍ، مما يوضِّح فهمَهم لقولِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وفعلِه.
ففي "مصنف ابن أبي شيبة" عن عطاءٍ قال: " أدركتُ النّاسَ وهم يصلّون ثلاثاً وعشرين ركعةً بالوتر".
وفيه عن داودَ بنِ قيسٍ قال: " أدركتُ النّاسَ بالمدينةِ في زمنِ عمرَ بنِ عبدِ العزيز، وأبانَ بنِ عثمانَ يصلّون ستاً وثلاثين ركعةً، ويوترون بثلاثٍ" .
وفي "المدونة الكبرى" قال الإمامُ مالكٌ : "بعث إليَّ الأميرُ، وأراد أنْ يُنقصَ مِن قيامِ رمضانَ الذي يقومه النّاسُ بالمدينةِ - وهي تسع وثلاثون ركعةً بالوتر - فنهيتُه أنْ ينقصَ مِن ذلك شيئاً ، قلتُ له : هذا ما أدركتُ النّاسَ عليه ، وهو الأمرُ القديمُ الذي لم يزل النّاسُ عليه".
وقال الإمامُ الشّافعيُّ: "وليس في شيءٍ مِن هذا ضِيقٌ ولا حدٌّ يُنتهى إليه؛ لأنّه نافلةٌ، (فإنْ أطالوا القيامَ وأقلّوا السّجودَ: فحسنٌ، وهو أحبُّ إليَّ، وإنْ أكثروا الركّوعَ والسجودَ: فحسنٌ"). نقله البيهقي في معرفة السنن والآثار.
4- الإجماعُ الذي نقله عددٌ مِن العلماءِ على أنّ صلاةَ القيامِ ليس لها عددٌ محدودٌ :
قال ابنُ عبد البر في "التّمهيد": "وكيف كان الأمرُ، فلا خلافَ بين المسلمينَ أنَّ صلاةَ اللّيلِ ليس فيها حدٌّ محدودٌ، وأنها نافلةٌ، وفعلُ خيرٍ، وعملُ برٍّ، فمَن شاء استقلَّ، ومَن شاء استكثر".
وقال القاضي عياض في "إكمال المعلم ": "ولا خلافَ أنّه ليس في ذلك حدٌّ لا يُزادُ عليه ولا يُنقصُ منه، وأنَّ صلاةَ اللّيلِ مِن الفضائل والرّغائب التي كلّما زِيد فيها زِيد في الأجر والفضل".
وقال العراقي في "طرح التثريب": "وقد اتّفق العلماءُ على أنّه ليس له حدٌّ محصور".
وقال ابنُ تيمية في "مجموع الفتاوى" : "كما أنّ نفسَ قيامِ رمضانَ لم يوقّت النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيه عدداً معيّناً...، ومَن ظنَّ أنَّ قيامَ رمضانَ فيه عددٌ موقّتٌ عن النّبي صلى الله عليه وسلم لا يُزاد فيه، ولا يُنقص منه فقد أخطأ" .
وقال السّيوطي في "المصابيح في صلاة التراويح": "الذي وردت به الأحاديثُ الصّحيحةُ والحسانُ الأمرُ بقيام رمضانَ، والترغيبُ فيه مِن غير تخصيصٍ بعددٍ ".
وعليه: فلا وجهَ لاعتبار الزّيادة في عددِ ركعاتِ التّراويحِ مِن الإحداثِ في الدّين، فرميُ المخالفِ في ذلك بالبدعةِ لم يسبق في كلامِ أحدٍ مِن أهل العلم مع تطاول القرون.
ولا يجوز جعلُ مسألةِ العددِ في صلاة التّراويحِ مِن المسائل التي تؤدّي إلى التّنازعِ والافتراقِ، وتنافر القلوبِ، أو الاختلافِ على الإمام، أو الانفصال بجماعةٍ، أو مسجد دون بقية المسلمين، بل هو مِن الابتداعِ في الدّينِ، وتفريقِ جماعة المسلمين.
كما أنه لا يجوز الإنكارُ على مَن اقتصر على إحدى عشرةَ ركعةً، ولا يسوغُ اعتبارُه مِن المحدثات التي تخالف سبيلَ المؤمنين، فكما أنَّ الزيادةَ على إحدى عشرةَ ركعةً جائزةٌ، فكذلك الاقتصارُ عليها، وفي كلٍّ خيرٌ.
وعلى طلبةِ العلمِ، وأئمّةِ المساجد أن يعلّموا النّاسَ سعةَ ذلك بأقوالهم وأفعالِهم، وينوّعوا في صلاتهم أحيانًا بين عدد الرّكعات، وطولِ القراءة؛ ليعلم النّاسُ أنَّ الأمرَ لا حَجرَ فيه.
رابعاً: تنوعت اجتهاداتُ أهلِ العلمِ في الأفضلِ مِن عددِ الرّكعاتِ في قيامِ اللّيلِ، فذهب جمهورُهم إلى أنّ الأفضلَ في ذلك عشرون ركعةً دونَ الوتر؛ لأنّه الأمرُ الذي استقرّ عليه حالُ الصّحابة، وجرى عليه عملُ المسلمين على مرّ السّنين.
وذهب آخرونَ إلى أنّ الأفضلَ إحدى عشرةَ ركعةً مع الوتر؛ لأنّه الذي اختاره النّبيُّ صلى الله عليه وسلم لنفسه في أغلبِ الأوقات.
وذهب غيرُهم إلى أنّ الأفضلَ ستٌّ وثلاثون ركعةً دون الوتر؛ لأنّه الذي استقرّ عليه عملُ أهلِ المدينة في زمن التّابعينَ وبعدَه .
ولعلّ الأقربَ أنّ ذلك يختلف بحسبِ طولِ القراءةِ وقِصَرها، فصلاةُ النبيّ صلى الله عليه وسلّم كانت إحدى عشرةَ ركعةً مع التّطويل في القراءة، كما قالت عائشةُ رضي الله عنها:(يصلّي أربعاً، فلا تسلْ عن حسنِهنّ وطولهنّ، ثمّ يصلّي أربعاً، فلا تسل عن حسنهنّ وطولِهنّ، ثم يصلّي ثلاثاً)، متفق عليه ، وفي رواية للبخاري .(ويسجدُ بقدْرِ ما يقرأُ أحدُكم خمسين آيةً قبل أن يرفعَ رأسَه)، وكذلك كانت صلاةُ الصّحابةِ حينما كانوا يصلّون إحدى عشرة ركعةً، كانوا يقرأون بالمئين، ولا ينصرفون إلا قربَ الفجرِ.
فمَن استطاعَ أن يصلّي إحدى عشرةَ ركعةً مع التّطويلِ والخشوعِ فهو الأفضلُ في حقّه.
وأمّا مع التّخفيف في القراءة والصّلاةِ، فالأفضلُ ما كان أطولَ زمناً؛ لأنّ الصّحابةَ انتقلوا إلى العشرين حين لم يُطقِ النّاسُ طولَ القيامِ بالإحدى عشرةَ، فخفّفوا القراءةَ، وأكثروا مِن الركعاتِ؛ تعويضاً عن طولِ القيامِ.
قال ابنُ تيمية في "مجموع الفتاوى" : "والأفضلُ يختلف باختلافِ أحوالِ المصلّين، فإن كان فيهم احتمالٌ لطولِ القيامِ فالقيامُ بعشرِ ركعاتٍ وثلاثٍ بعدَها- كما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه في رمضانَ وغيره - هو الأفضلُ. وإن كانوا لا يحتملونه فالقيامُ بعشرين هو الأفضلُ، وهو الذي يعمل به أكثرُ المسلمين؛ فإنه وسطٌ بين العشرِ، وبين الأربعينَ، وإن قام بأربعينَ وغيرِها جاز ذلك، ولا يُكره شيءٌ مِن ذلك، وقد نصَّ على ذلك غيرُ واحدٍ مِن الأئمّةِ، كأحمدَ وغيرِه".
وأمّا الإسراعُ في صلاةِ التّراويحِ إلى حدٍّ يُخلُّ بسلامة القراءة، وطمأنينة الأركان، والأذكار المشروعة: فهو محرّمٌ مذمومٌ، ومِن العبث الذي قد يؤدّي لبطلان الصلاة،
والحرصُ على عددٍ معيّنٍ مِن الرّكعاتِ ليس عذراً لهذا الإخلال، فصلاة ركعتين، أو أربعاً بتؤدةٍ وتمهّلٍ وتفكّرٍ فيما يقرأ خيرٌ مِن ركعاتٍ كثيرةٍ يُخلُّ فيها بالواجبِ، ويفوّتُ فيها المقصودَ مِن الصّلاة.
خامسًا: ما جرى عليه عملُ النّاسِ اليومَ في المساجدِ، لا سيما في العشر الأواخرِ مِن العودةِ للصّلاةِ آخرَ اللّيلِ جماعةً، بعدَ أداءِ صلاةِ التّراويحِ في أوّلِ الليلِ: لا بأسَ به، وكانوا يسمّيه بعضُهم بــ(التَّعقيب)، ويُطلق عليه الآن (التّهجّد).
وإنْ لم يَعُد للصّلاة، أو صلّى في بيتِه وحدَه، أو بأهل بيته فهو خيرٌ أيضاً، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهدُ في غيرها .
والزيادةُ في ركعاتِ قيامِ اللّيل في العشرِ الأواخرِ مِن رمضانَ معروفٌ مِن عصورٍ متقدّمةٍ دون إنكارٍ مِن أهل العلم، فقد روى ابنُ أبي شيبةَ عن سعيد بن جبير : أنه كان يصلّي مِن أوّل الشهرِ إلى عشرين ليلةً ستَّ ترويحاتٍ، فإذا دخل العشرُ زاد ترويحةً. والترويحةُ عندهم أربعُ ركعاتٍ.
وقد أخرج ابنُ أبي شيبةَ في باب التّعقيب في رمضانَ: عن أنسٍ رضي الله عنه قال: "لا بأسَ به، إنّما يَرجعون إلى خيرٍ يرجونه، ويبرءون مِن شرٍّ يخافونه".
قال ابنُ قدامةَ في "المغني": "فأمّا التعقيب -وهو أنْ يصلّي بعدَ التّراويحِ نافلةً أخرى جماعةً، أو يصلي التراويحَ في جماعةٍ أخرى- فعن أحمدَ : أنه لا بأسَ به..، ونقل محمد بن الحكم عنه الكراهةَ، إلا أنّه قولٌ قديمٌ، والعملُ على ما رواه الجماعةُ ".
لكنْ إن عزم على القيامِ مِن آخر اللّيلِ فلا يصلّي الوترَ في القيامِ الأوّلِ؛ لحديث ابنِ عمر رضي الله عنهما :(اجعلوا آخرَ صلاتِكم باللّيلِ وتراً ) متفق عليه، وإنْ صلَّى الوترَ في القيامِ الأوّلِ فلا يُعيدُه في القيامِ الثّاني؛ لحديث طلق بن علي رضي الله عنه :(لا وِترانِ في ليلةٍ ) رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي .
سادسًا: يُجزئ في صلاةِ اللَّيلِ مِن القراءةِ ما يُجزئ في سائرِ الصّلوات باتّفاقِ الفقهاءِ، ويُستحب ختمُ القرآنِ في صلاةِ التّراويح في قولِ عامّة أهل العلم؛ لما ثبت في الصّحيحين مِن معارضة النبي صلى الله عليه وسلم لجبريلَ بالقرآن في رمضانَ .
وفي "مصنف ابن أبي شيبة" عن أبي عثمانَ النّهدي قال: "دعا عمرُ رضي الله عنه القرّاءَ في رمضانَ، فأمر أسرَعهم قراءةً أنْ يقرأ ثلاثين آيةً، والوسطَ خمساً وعشرين آية، والبطيءَ عشرين آيةً" ».
قال الكاسانيُّ في "بدائع الصنائع": " السّنةُ أنْ يختمَ القرآنَ مرّةً في التراويحِ، وذلك فيما قاله أبو حنيفةَ، وما أمر به عمرُ رضي الله عنه فهو مِن باب الفضيلة، وهو أنْ يختمَ القرآنَ مرّتين أو ثلاثاً ، وهذا في زمانهم. وأمّا في زماننا فالأفضلُ أنْ يقرأ الإمامُ على حسب حالِ القومِ مِن الرّغبة والكسلِ، فيقرأ قدْرَ ما لا يوجبُ تنفيرَ القومِ عن الجماعةِ؛ لأنّ تكثيرَ الجماعةِ أفضلُ مِن تطويلِ القراءةِ".
وقال البهوتي في "كشّاف القناع": " ويُستحبُّ أنْ لا يَنقصَ عن ختمةٍ في التراويحِ؛ ليُسمعَ النّاسَ جميعَ القرآنِ، ولا يُستحبُّ أنْ يزيدَ الإمامُ على ختمةٍ كراهيةَ المشقّةِ على مَن خلفَه".
فعلى الإمامِ أنْ يراعيَ حالَ المأمومين، ولا يجوز أنْ يكون الإمامُ منفِّراً للنّاسِ، فيُطيلَ بهم الصّلاةَ حتى يشقَّ عليهم، ويظنَّ أنه إنْ لم يفعل ذلك فقد أساء! بل الأولى له أنْ يرغّبَ النّاسَ في الصّلاةِ، ولو بتخفيفِها بشرطِ أنْ تكونَ تامّةً، فلَأنْ يصليَ النّاسُ صلاةً خفيفةً تامَّةً خيرٌ مِن تركِ كثيرٍ منهم للصّلاةِ مع الإمامِ .
قال أبو داودَ : "سُئل أحمدُ بن حنبل عن الرجلِ يقرأ القرآنَ مرّتين في رمضانَ يؤمُّ النّاسَ؟ قال : هذا عندي على قدْرِ نشاط القومِ ، وإنَّ فيهم العمَّالَ" .
سابعًا: لم يثبت في دعاءِ ختم القرآنِ شيءٌ مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكنّه صحَّ مِن فعل أنسِ بن مالك رضي الله عنه، فكان إذا ختم القرآنَ جمع أهلَه وولدَه، ودعا لهم. أخرجه سعيد بن منصور.
وتبعه على ذلك جماعةٌ مِن التابعين، وعددٌ مِن أهل العلم المعتبرين:
فقد أخرج الدّارميُّ عن مجاهدٍ: أنّه قال لرجلٍ: "إنما دعوناك أنّا أردنا أنْ نختمَ القرآنَ، وإنه بلغنا أنّ الدعاءَ يُستجابُ عند ختمِ القرآنِ" ، فدَعوا بدعواتٍ.
وقال ابنُ القيم في "جِلاء الأفهام": "وقد نصَّ الإِمامُ أَحمدَ رحمه على الدُّعَاء عقيب الختمةِ ...قال في روايةِ حربٍ : أستحبُّ إِذا ختم الرّجلُ القُرآنَ أَن يجمعَ أَهلَه ويدعو".
وعلى ذلك فلا بأسَ بالدّعاء عند ختمِ القرآنِ خارج الصلاة، مِن غير أن يُلتزم في ذلك بدعاءٍ معيّنٍ، أو طريقةٍ محدّدة.
وأمّا داخلَ الصّلاةِ: فلم يرد فيه شيءٌ عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحدٍ مِن صحابتِه، ولا عن أحد مِن التّابعين، غير أنّه منقولٌ عن عددٍ مِن أهل العلم، كالإمام أحمد، وسفيانَ بنِ عيينةَ، وجرى عليه عملُ أهلِ مكةَ، وأهلِ البصرةِ .
والذي نختارُه في ذلك أنْ لا يَجعلَ لختم القرآنِ في الصّلاةِ دعاءً خاصاً، بل يؤخّره إلى ما بعدَ الصلاةِ، وإن شاءَ جعله في دعاء القنوت، وزاد فيه لختم القرآن، دون أن يلتزم في ذلك دعاءً معينًا، كالدّعاء المنسوب إلى بعض الأئمة .
ويحرصُ على اختيار الأدعية المأثورة مِن القرآن أو السنة، أو غيرها مِن الأدعية النّافعة كطلبِ المغفرةِ، والاستعاذة مِن الفتن، وطلبِ التّوفيقِ لفهم القرآن الكريم، وحِفظه والعمل به، ونحو ذلك، ويتجنّب التكلّفَ في الدّعاء، والإطالة المبالغَ فيها.
ومَن رأى دعاءَ ختمِ القرآنِ مشروعاً فليس له الإنكارُ على الإمامِ الذي لا يدعو به، ولا أن يُلزمه بالإتيان به، ومَن لم يرَه مشروعاً فلا يترك الصّلاةَ خلفَ الإمام الذي يدعو به؛ لأنَّ هذا الدعاءَ مِن المسائل التي اختلف فيها أهلُ الاجتهادِ، وعدم الصلاة خلف الأئمة بسببِ الخلافِ الفقهي في بعض أفعال الصّلاة مخالف لهدي السّلفِ الصّالح، كما أنَّ تركَ الصّلاةِ مما يورث في النّفوسِ الضّغائنَ، ويفرّق الجماعاتِ، فلا ينبغي المصير إليه.
نسأله سبحانه وتعالى أنْ يتقبلَ مِن الصّائمين صيامَهم، ومِن القائمين قيامَهم، وأنْ ينصر المجاهدين في سبيلِه، إنّه وليُّ ذلك والقادرُ عليه، والحمد لله ربِّ العالمين.