أحكام القتل الخطأ في العمليات الجهادية
السؤال:
في بعض المعارك والاقتحامات تقع بعض الأخطاء التي تؤدّي لقتلِ مجاهدين أو مدنيين دون تعمُّد، فماذا يترتّب على هذا القتل؟
الجواب:
العملُ الجهاديُّ كغيره مِن الأعمال البشرية: يعتريه النقصُ، ويقع فيه الخطأُ، وقد ينجم عن ذلك قتلٌ لبعض المجاهدين، أو المدنيين دون قصدٍ، فما وقع مِن ذلك فهو مِن قبيل "القتل الخطأ" الذي لا إثمَ فيه، ولا قِصاصَ، لكن تجب فيه الكفّارةُ والدِّية، وتفصيلُ ذلك كما يلي:
أولاً: القتلُ الخطأ هو الذي ليس فيه تعمُّدٌ ولا تقصُّدٌ لقتل المجني عليه.
وصورُ القتل الخطأ عديدةٌ، يجمعُها أمران: الخطأُ في الفعل، والخطأُ في القَصد.
فمِن الخطأ في الفعل: انفلاتُ الرَّصاص مِن السّلاح أثناءَ تنظيفِه، أو صيانتِه وإصابتُه أحدَ المجاهدين، وتفجيرُ العبوات في الوقت غير المناسب بحيثُ تؤدّي لمقتل مَن يكون قريبًا منها مِن المجاهدين، وانحرافُ القذائف وسقوطُها على بعض المدنيين.
ومِن الخطأ في القَصد: أنْ يظنَّ شخصًا مِن الأعداء، فيرميَ عليه الرّصاصَ، ثم يتبيَّنَ أنّه مِن المجاهدين، وكذا مَن صوّب سلاحَه نحو العدوِّ فأخطأ الهدفَ، وأصاب أحدَ المجاهدين، أو المدنيين .
قال ابنُ عبد البَرِّ في "الكافي ": " كلُّ ما وقع مِن فاعله مِن غير قصدٍ ولا إرادةٍ: فهو خطأٌ، ووجوهُ الخطأ كثيرةٌ جدًا ... كالرَّجُلِ يرمي غَرَضًا [هدفًا] فيصيبُ إنسانًا، أو يرمي المشركين بمَنْجَنيق وغيرِه فيصيبُ مسلمًا".
والقتل الخطأُ لا إثمَ فيه، ولا قِصاصَ على القاتل، ويدلُّ على ذلك قولُه تعالى : {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].
وقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ تجاوزَ عَنْ أُمَّتي الخطأَ، والنِّسيانَ، وما اسْتُكرهوا عليه) رواه ابن ماجه.
قال ابنُ تيمية في "الفتاوى": "أَمّا القاتلُ خَطَأً : فلا يُؤْخَذُ مِنْهُ قِصاصٌ؛ لا فِي الدُّنْيا، ولا في الآخرةِ".
ثانيًا: يترتّبُ على القتلِ الخطأ أمران: الكفّارةُ، والدِّيةُ.
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا.. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [النساء:92].
فالكفّارةُ: واجبةٌ على القاتل، وهي عِتقُ رقبةٍ مؤمنةٍ، فإنْ لم يجد صام شهرين متتابعين، كما في الآية.
ولا يقطع صومَ الشهرين إلا لعذرٍ يُجيز الفِطرَ، فإنْ قطعه لغير عذرٍ استأنف مِن جديدٍ.
وعند العجز عن الصّيامِ فإنّه لا ينتقل إلى الإطعامِ، بل يبقى الصّيامُ في ذمّةِ القاتلِ، متى استطاعه وجب عليه عند جمهور الفقهاء، وإن كان عجزُه دائمًا سقط عنه الصّومُ، ولم يلزمه شيءٌ.
وأما الدِّيةُ: فهي واجبةُ في قتلِ الخطأ على عاقِلة القاتل، وهم عصبته، أي: أقاربُه الذُّكور مِن جهة الأب: الإخوة وبنوهم، والأعمام وبنوهم، وأعمام الأب وبنوهم، وأعمام الجد وبنوهم، سواء كانوا وارثين، أم غير وارثين.
قال ابن المنذر في " الإشراف": "ثبتت الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنّه قضى بدية الخطأ على العاقلة، وأجمع أهلُ العلم على القول به".
ويُقسِّم القاضي الدِّيةَ على العاقلة حسب القرابةِ والغنى، فيتحمّل الأقربُ والأغنى أكثرَ مِن غيرهما.
قال ابنُ قدامة في "المغني": "والمعنى في ذلك: أنّ جنايات الخطأ تكثر، وديةُ الآدميِّ كثيرةٌ، فإيجابها على الجاني في مالِه يُجحف به، فاقتضت الحكمةُ إيجابَها على العاقلةِ، على سبيل المواساةِ للقاتل، والإعانةِ له، تخفيفًا عنه؛ إذ كان معذوراً في فعلِه، وينفرد هو بالكفّارة".
ومقدارُ دية الخطأ: مئةٌ مِن الإبل، تؤدَّى إلى ورثة المقتول، تُدفع مؤجلةً في ثلاثِ سنينَ، قال التّرمذيُّ في "سننه": "وقد أجمع أهلُ العلم على أنَّ الدّيةَ تؤخذ في ثلاثِ سنينَ، في كلِّ سنةٍ ثلثُ الدّيةِ".
وقال ابنُ قدامة في "المغني": "ولا خلافَ بينهم في أنّها مؤجّلةٌ في ثلاثِ سنين؛ فإنّ عمرَ وعليًّا رضي الله عنهما جعلا ديةَ الخطأ على العاقلةِ في ثلاث سنين، ولا نعرف لهم مِن الصّحابة مخالفًا، فاتّبعهم على ذلك أهلُ العلم".
ويُنظر فتوى: ما الحكمُ فيما لو قتَل المجاهدُ أخاه خطأً؟
وإذا اشترك في القتلِ الخطأ جماعةٌ: فيشتركون في دفعِ الدّية، بحيث تُقسم عليهم جميعًا، وأمّا الكفّارةُ فتجب كاملةً على كلِّ واحدٍ منهم، فيصوم شهرين متتابعين.
قال ابنُ قدامة في "المغني": "ومَن شارك في قتلٍ يوجب الكفّارةَ لزمتْه كفارةٌ، ويلزم كلَّ واحدٍ مِن شركائه كفارةٌ، هذا قولُ أكثر أهل العلم".
ثالثًا: تقوم الكتيبةُ والفصائلُ الجهادية مَقام العاقلة في تحمُّل الدّية؛ وذلك لأنّ المعنى الذي مِن أجله جُعلت الدّيةُ على العاقلة هو "التّناصر" الموجود بين أفراد القبيلة، أو العائلة الواحدة، وهذا المعنى متحقّقٌ في هذه الفصائل والكتائب.
فكلُّ جماعةٍ يربط بينهم تنظيمٌ واحدٌ بحيثُ يكونون ممّن ينصرُ بعضُهم بعضًا، فلهم حكمُ العاقلة، وهذا يشمل أهلَ الحرفةِ الواحدة، وأهلَ التنظيمِ والحزب الواحد.
وقد نصَّ بعضُ الفقهاء على أنّ أهلِ الدِّيوان -وهم الجيشُ، أو العسكر الذين كُتبت أسماؤهم في الدِّيوان- يتحمّل بعضُهم ديةَ بعضٍ.
قال القرافي في " الذّخيرة": " ونكتةُ المسألةِ أنَّ التّعاقلَ مبنيٌّ على التّناصرِ، ولذلك اختصّ العاقلة العصبةَ [الأقارب من جهة الأب]، وسقطت عن النّساء والصّبيان والمجانين بعدم النُّصرةِ مع وجود القرابةِ فيهم، فقد دار العَقلُ [أي الدّية] مع النُّصرةِ وجوداً وعدمًا".
وقال السّرخسيُّ في "المبسوط": "ولهذا التّناصرِ أسبابٌ، منها ما يكون بين أهلِ الدّيوانِ باجتماعهم في الدّيوان، ومنها ما يكون بين العشائرِ، وأهل الـمَحالّ، وأهلِ الحِرَفِ".
قال ابنُ تيمية في "الفتاوى": " فلمّا وضع عمرُ الدّيوانَ كان معلوماً أنَّ جُندَ كلِّ مدينةٍ ينصر بعضُه بعضاً، ويُعين بعضُه بعضاً، وإنْ لم يكونوا أقاربَ، فكانوا هم العاقلةَ، وهذا أصحُّ القولين".
وجاء في قرار "مجمع الفقه الإسلامي الدولي" في دورته السادسة عشرة المنعقدة بدبي سنة 1426هـ، الموافق 2005م: "العاقلةُ هي الجهةُ التي تتحمّلُ دفعَ الدّيةِ عن الجاني في غير القتلِ العَمدِ دون أنْ يكون لها حقُّ الرّجوعِ على الجاني بما أدّته، وهي العصبةُ في أصل تشريعِها، وأهلُ ديوانه الذين بينهم النُّصرة والتّضامن".
رابعًا: إذا قَتل المجاهدون رجلاً في صفِّ قتال الأعداء المحاربين، ثم تبيَّن أنه مِن المجاهدين أو المدنيين، ففي وجوب الدّية والكفّارة خلافٌ بين العلماء.
والأقربُ في هذه المسألة التّفصيلُ:
1- إنْ كان معذورًا في وجودِه في صفِّ الأعداء ككونه أسيرًا مثلاً، أو دخل إلى صفِّهم لبعض التّرتيبات العسكرية، ففي هذه الحال يتوجّبُ دفعُ الدّيةِ إلى أهلِه، وتجبُ الكفّارةُ على القاتل.
2- وأمّا إنْ كان غيرَ معذورٍ في وجودِه بينهم: فلا ضمانَ له، وتسقطُ الدّيةُ والكفّارةُ؛ لأنه هو الذي أهدر نفْسَه، وعرّضها للتّلفِ حيثُ صار في صفّ الأعداء.
قال ابنُ تيمية : "فَأَمّا الّذي يَقِفُ فِي صَفِّ قِتالِهم باختيارِه: فلا يُضْمَنُ بِحالٍ" نقله عنه المرداوي في الإنصاف.
وإذا تترّس [تَستّر واحتمى] الأعداءُ بالمسلمين، أو اضطُرَّ المجاهدون لاستهداف الأعداءِ، فوقع بعضُ المسلمين قتلى بفعل المجاهدين، ففي وجوب الدّيةِ والكفارةِ خلافٌ بين العلماء، والأحوطُ : أداءُ الكتيبةِ الدّيةَ إلى أهلِه، إنْ كانت قادرةً على ذلك، أو إعانتُهم بما فيه تعويضٌ لهم، مع صومِ القاتلِ شهرين متتابعين إنْ كان معروفًا، فإنْ لم يكن معروفًا: فلا كفارةَ على أحدٍ.
وهذا التفصيل في حق القاتل الذي يراعي الضوابط الشرعية في جهاده، أما من كان مفرطًا بها فتجب عليه الكفارة والدية لتفريطه، وربما أثم كذلك.
خامسًا: إذا حصل قتلٌ خطأ لأحدِ المجاهدين خلالَ المعركة، ولم يُعلَم قاتلُه على وجه التَّعيينِ، فتكون ديتُه مِن بيت مال المسلمين، وتقوم الكتيبةُ في هذه الحال مَقامَ بيت المال، ولا تجب فيه الكفّارةُ؛ لجهالة القاتل.
فعن محمود بن لبيد رضي الله عنه قال: (اختلفت سيوفُ المسلمين على اليمانِ أبي حذيفةَ يومَ أحدٍ، ولا يعرفونه : فقتلوه، فأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنْ يَدِيَه [يدفع ديته]، فتصدّق حذيفةُ بديتِه على المسلمين) رواه أحمد، ولأنَّ الأصلَ في دم المسلم ألا يذهب هدرًا.
وكذلك لو حصل نزاعٌ بين كتيبتين أو قبيلتين أو طائفتين، ونتج عنه قتلُ رجلٍ لا يُعرف مَن قتله: فيجب على الطائفة الثانية المنازِعة لطائفته دفعُ الدّيةِ لأهله، وإن كان القتيلُ مِن غير الفريقين المتنازعين: فيتحمل كلا الطرفين ديتَه.
قال الإمام مالك في "الموطأ" في جماعةٍ مِن النّاس، اقتتلوا فانكَشفوا، وبينهم قتيلٌ أو جَريحٌ، لا يُدرى مَن فعل ذلك به: " إنَّ أحسنَ ما سُمع في ذلك، أنَّ عليه العَقلَ، وأنَّ عقلَه على القوم الذين نازعوه، وإنْ كان الجريحُ أو القتيلُ مِن غير الفريقين: فعَقلُه على الفريقين جميعًا ".
سادسًا: إذا كان القتلُ الخطأ نتيجةَ فعلٍ لا يمكن للقاتلِ التحرُّز منه، وكان المقتولُ متسبّبًا فيما حصل له، ولا وجودَ للتّفريط أو التّقصير مِن القاتل: فلا ضمانَ ولا كفّارة.
ومِن ذلك: أنْ يعترض المقتولُ خطَّ النّارِ بشكلٍ مفاجئٍ لا يُمكنُ معه للرّامي أنْ يحترزَ عنه، أو أنْ يَهجُمَ عليه فجأةً، ولا طريقةَ لدَفعِه دونَ القتلِ، فيقتلَه دفاعًا عن نفسِه، ففي هذه الحال لا ضمانَ على القاتل؛ لأنّ المقتولَ هو مَن فرَّط في نفسِه، وعرّضها للخطر.
والقاعدةُ الفقهيةُ: "أنّ "ما لا يمكن التّحرزُ منه: لا ضمانَ فيه".
ومما قرّره مجمع الفقه الإسلامي في مؤتمره الثامن المنعقد في (بروناي دار السلام) سنة 1414هـ الموافق 1993م ما يلي: "الحوادثُ التي تنتج عن تسيير المركبات تُطبّق عليها أحكامُ الجنايات المقرّرة في الشريعة الإسلامية ، ..... ولا يُعفى مِن المسؤولية إلا في الحالات التالية:
1- إذا كان الحادثُ نتيجةً لقوّةٍ قاهرةٍ لا يستطيع دفعَها، وتعذَّر عليه الاحترازُ منها، وهي كلُّ أمرٍ عارضٍ خارجٍ عن تدخّل الإنسان.
2- إذا كان بسبب فعلِ المتضرّرِ المؤثّرِ تأثيراً قوياً في إحداث النّتيجة.
3- إذا كان الحادثُ بسبب خطأِ الغير أو تعدِّيه، فيتحملُ الغيرُ المسؤوليةَ".
سابعًا: إذا كان القتلُ ناتجًا عن تصرّفٍ خاطئٍ مِن المجاهد أدّى إلى قتلِ نفسِه، فهو شهيدٌ، وله أجرُ الشُّهداء إنْ شاء الله، لكنْ ليس لأهلِه ديةٌ، لا مِن بيت مالِ المسلمين، ولا مِن غيره.
ففي الصّحيحين: أنّ عامر بن الأكوع رضي الله عنه في غزوة خيبرَ أراد قتلَ يهوديٍّ، فارتدَّ السيفُ إليه، فقتلَ نفسَه، فقال بعضُ النّاس: حبط عملُه ؛ لأنه قتل نفسَه.
فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: (كَذَبَ مَنْ قَالَهُ، إِنَّ لَهُ لَأَجْرَيْنِ -وَجَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ- إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ) رواه البخاري.
وقد بوّب عليه البخاريُّ في صحيحِه: "بابٌ إذا قتل نفسَه خطأً فلا ديةَ له".
وقال ابنُ الملقّن في "التّوضيح": "لم يوجب الشارعُ لعامرٍ ديةً على عاقلةٍ، ولا غيرِها، ولو وجب عليها شيءٌ لبيّنه؛ لأنه مكانٌ يُحتاج فيه إلى البيان، بل شهد له بأنّ له أجرين، والنظرُ ممتنعٌ أنْ يجب للمرء على نفسِه شيءٌ؛ بدليل الأطرافِ، وكذا النفس".
ولكن هذا لا يمنعُ أنْ تقوم الكتيبةُ التي ينتسب لها هذا المجاهدُ بمساعدة عائلته؛ تخفيفًا عنهم، وجبرًا لمصابهم، وعملاً بما قرّرته الشريعة مِن التّكفُّل بذوي المجاهدين والشّهداء حتى لا يُتركوا يتكفَّفون الناس، ويكون ذلك صيانةً لهم، وإعانةً على مواصلة طريق الجهاد.
نسأل الله -تعالى- أن يلهم المجاهدين الحكمة وحسن الرأي، وأن يرحم الشهداء.
والحمد لله رب العالمين.