السؤال:
الإخوة في المكتب العلمي لهيئة الشام الإسلامية، بدأنا نرى في الفترة الأخيرة بعض التعليقات على المجازر مثل (أين الله مما يحصل؟)، بل وصل ظاهر بعضها إلى التشكيك بوجود الله أو برؤيته لما يحدث ... فما توجيهكم لمن يتلفظ بمثل ذلك ؟
________________________________________
الجواب:
الحمد لله، الصبور الشكور، العليّ الكبير، السميع البصير، العليم القدير، الذي شملت قدرته كل مخلوق وجرت مشيئته في خلقه بتصاريف الأمور... ونشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
لا شك أن فيما نزل ببلاد الشام الحبيبة هذه الأيام العصيبة من قتل وتشريد وبلاء ليحز في نفوس المؤمنين، مما يرى ويشاهد من تكالب الأعداء وقلّة الناصر وعجز الأصدقاء!
ولكن المؤمن الذي ينظر لما يجري بعين البصيرة والاستسلام، ويستحضر في هذا المقام قول ربنا الملك العلام:"أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ". البقرة:214، وقوله تعالى:"إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا".الأحزاب:10-12. وقوله تعالى:"وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ".آل عمران: 139-140.
وليعلم أهلنا في بلاد الشام أنه قد وقع مثل هذا لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أقبلوا عليه طالبين منه الدعاء والتضرع إلى الله ليكشف عنهم مصابهم، إلا أنهم -رضي الله عنهم- ما زادوا على أن قالوا: "متى نصر الله؟"، وقالوا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ فحثهم -عليه الصلاة والسلام- على التحلِّي بالصبر، وعدم استعجال النصر، وقصَّ عليهم مثلاً مما أصاب مَن قبلهم، فقال: "كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض، فيُجعل فيه، فيُجاء بالمنشار، فيوضَع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه. ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظمٍ أو عصبٍ، وما يصدُّه ذلك عن دينه، والله لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون". رواه البخاري.
واقرأ معي أيها المبارك قوله تعالى:"وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ *فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ".آل عمران: 46.
وتأمل كيف يحثُّنا ربُّنا -عز وجل- على الاقتداء بمن سلف من أتباع الرسل الذين صبروا في المواقف الصعبة، ولهجت ألسنتهم بالتوبة والاستغفار وطلب النصر والتثبيت.
فالابتلاء من الله بالمصائب والشدائد والقتل للمؤمنين إنما يجري لحكمٍ جليلة،منها:
- محبة منه -جل جلاله- لعباده؛ وذلك طهارة لهم من الذنوب، ورفعة لهم في الدرجات؛ فعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء ؟ قال:" الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
- ومنها: معرفة المجاهدين المؤمنين المحتسبين المستسلمين لقضاء الله وقدره من غيرهم:" وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ". محمد: 47.
- ومنها: اختبار إيمان الناس، ورضاهم بما قدر الله، وتصديقهم بوعد الله:" وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ". البقرة: 155-157.
- ومنها: أن سنَّة الله في عباده المؤمنين اقتضت أن لا يمكنوا إلا بعد الابتلاء والتمحيص الشديد:" أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ". البقرة:214. ومنها وهو أعظمها: اتخاذ الشُّهداء:"وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ". آل عمران:140.
فكم لله سبحانه على عباده الأحياء والأموات في الموت من نعمةٍ لا تحصى! فكيف إذا كان فيه طهرة للمقتول؟! وقد جاء في حديث أبي داود الذي صححه بعض العلماء عن أبي موسى-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:" أمتي هذه أمة مرحومة، ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل".
جزى الله عنّـا الموتَ خيراً فإنّه... أبرُّ بنا مـن كل شيء وأرأف
يعجِّل تخليصَ النُّفوس من الأذى... ويدني من الدَّار التي هي أشرفُ
وليعلم الأخ السائل أن الابتلاء يقتضي استخراج ما عند المبتلى من الطّاعة والمعصية، واختبار إيمانه واستسلامه لأمر الله سبحانه، فكان لا بدَّ من هذا الابتلاء الظاهر المكشوف لكل الناس، كي يعز الدِّين على النفوس بمقدار ما أدوا في سبيله من تكاليف وصبر، فكلَّما تألموا في سبيله كلما بذلوا من أجله، وكلما بذلوا من أجله كان أعزَّ عليهم من كل شيء.
وكذلك لن يُدرك الآخرون قيمة الدِّين وعظمته إلا حينما يرون ابتلاء أهله وصبرهم على البلاء من أجله، وحينئذٍ سيقولون: لو لم يكن عند هؤلاء من الخير أكبر وأعظم مما ابتلوا به ما قبلوا هذا البلاء، ولا صبروا عليه.
كما أن من طبيعة الابتلاء بالشدَّة أن يوقِظ الفطرة التي ما يزال فيها خير يرجى، وأن يرقق القلوب التي طال عليها الأمد، وأن يتجه بالبشر الضِّعاف الغافلين إلى خالقهم القهَّار، يتضرعون إليه، ويطلبون رحمته وعفوه، ويعلنون بهذا التضرُّع عن عبوديتهم له.
ولا بد أن نعلم جميعاً، ويعلم كل مبتلى: أن الخلق كلّهم راجعون بعد الموت إلى الله، محشورون إليه على كل حال، سواء ماتوا على فرشهم، أو ماتوا وهم يضربون في الأرض، أو قتلوا وهم يجاهدون في الميدان، وما لهم مصير سوى هذا، والتفاوت إنما يكون في النية والعمل الصالح، أما النهاية فواحدة.
وبهذا اليقين تستقرُّ في القلوب حقيقة الموت والحياة، وحقيقة قدر الله، وبذلك تطمئن القلوب إلى ما كان من ابتلاءٍ جرى به القدر، وإلى ما وراء القدر من حكمة، وما وراء الابتلاء من جزاء:" وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ". المنافقون: 11.
ثم نوصي أنفسنا وأهلنا بالرجوع إلى الله جل وعلا، والاعتصام بحبله، وكثرة الاستغفار؛ لأنه ما ينزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا يرفع إلا بتوبة، كما قال سلفنا.
فالمؤمن شاكر على النعم، صابرٌ على المحن، راضٍ بما قدر الله عليه من البلاء، حافظ لسانه عن التسخُّط وما لا يجوز من الكلام، وبهذا يحظى بالخير والعطاء من الرب الكريم، فعن صهيب-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيراً له". رواه مسلم.
ونبشِّر أهلنا أنَّ عظم البلاء مع عظم الجزاء، وكلما اشتدّ الكرب اقترب الفرج والنصر:" حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ". البقرة: 214.
اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، وانصرنا على من عادانا وبغى علينا، اللهم ارحم شهداءنا، وعاف مرضانا، وداو جرحانا، وبلغنا اللهم مما يرضيك آمالنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.