الثلاثاء 9 رمضان 1445 هـ الموافق 19 مارس 2024 م
هل مكة محفوظة من الطاعون والأوبئة؟
السبت 11 شعبان 1441 هـ الموافق 4 أبريل 2020 م
عدد الزيارات : 46126
هل مكة محفوظة من الطاعون والأوبئة؟

 

 

هل مكة محفوظة من الطاعون والأوبئة؟

 

الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأفضلُ الصَّلاة وأتمُّ التسليم على نبينا محمَّدٍ خاتمِ النَّبيين وإمام المرسلين، المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

ذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ مكة -حرسها الله تعالى- محفوظةٌ من الطاعون.

وعمدتهم في ذلك: ما رواه الإمام أحمد في مسنده، قال: حدثنا سُريج، قال: حدثنا فُليح، عن عمر بن العلاء الثقفي، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نقبٍ منها ملك لا يدخلها الدجال ولا الطاعون)([1]).

وهذا القول ليس بصحيح، وفيما يلي بيان ذلك:

 

أولاً: أن هذا الحديث ضعيفٌ لا حجَّة فيه.

ففي إسناده:

1- عمر بن العلاء بن جارية الثقفي وأبوه، وهما مجهولان.

ذكرهما البخاري وابن أبي حاتم([2])، وسكتا عنهما، وذكرهما ابن حبان في الثقات([3]).

ولم أقف على من وثقهما من أهل العلم.

قال ابن أبي حاتم: "عمر بن العلاء الثقفي مديني، روى عن أبيه عن أبي هريرة، روى عنه فليح بن سليمان، سمعت أبي يقول ذلك".

وقال: "وقلت لأبي: هو أخو الأسود بن العلاء، فقال: لا أدري، هو شيخ مديني"([4]).

2-فُليح بن سليمان المدني، متكلَّم في حفظه وضبطه، وضعَّفه كثير من الأئمة.

فهو وإن أخرج له الأئمة الستة، فقد تُكلم فيه، "فضعفه: النسائي، وابن معين، وأبو حاتم، وأبو داود، ويحيى القطان، والساجي، وقال الدارقطني وابن عدي: لا بأس به"([5]).

وقال الحافظ ابن حجر: "أخرجه عمر بن شبَّة في كتاب مكة، عن شريح([6]) عن فليح عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، ورجاله رجال الصحيح"([7]).

وتعقبه محققو المسند بقولهم: " كذا قال في إسناده (العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه)، وهو وهمٌ، إما من صاحب كتاب مكة([8])، أو من الحافظ ابن حجر، فالحديث لا يُعرف إلا عن عمر بن العلاء، عن أبيه"([9]).

 

ثانياً: أن الحديث رواه الشيخان والإمام مالك في الموطأمن حديث نُعيم بن عبد الله المُجْمِر عن أبي هريرة بلفظ: (على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال)([10]).

ورواه أحمد من حديث ذكوان السمَّان عن أبي هريرة بلفظ: (على أبواب المدينة ملائكة، لا يدخلها الطاعون، ولا الدجال)([11]).

ورواه البخاري من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المدينة يأتيها الدجال، فيجد الملائكة يحرسونها، فلا يقربها الدجال، قال: ولا الطاعون إن شاء الله)([12]).

ولذا قال الحافظ ابن كثير عن رواية أحمد: "هذا غريبٌ جدًا، وذِكْرُ مكة في هذا ليس بمحفوظ، أو ذِكْرُ الطاعون، والله أعلم"([13]).

وقال ابن الملقن: "ورد بإسنادٍ ضعيفٍ أنها لا يدخلها طاعون أيضًا"([14]).

 

ثالثاً: أن الحديث –على فرض ثبوته- ليس صريحًا في نفي دخول الطاعون إلى مكة.

فقد تابع الإمامَ أحمد في روايته عن سريج بن النعمان: ابنُ أبي خيثمة، ولكن بلفظ: (المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، المدينة على كل نقبٍ منها ملك لا يدخلها الدجال ولا الطاعون)([15]).

وهي ظاهرة في أنَّ النفي خاصٌ بالمدينة.

وأما رواية أحمد فمحتملة، ولفظها: (المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نقب منها ملك لا يدخلها الدجال ولا الطاعون)([16]).

فيتحمل أن يكون الضمير عائدًا للمدينة فقط، بدلالة إفراد كلمة (منها) ولم يقل منهما.

قال السمهودي: " كذا هو لا يدخلها بالأفراد، فيحتمل عودها للمدينة فقط"([17]).

 

رابعاً: أن الواقع يؤكد ضعف هذا الحديث، فقد وقع الطاعون في مكة في بعض الأزمنة، خلافًا للمدينة فلم يقع فيها الطاعون قط.

قال ابن تغري بردي: "فيها أعني (سنة تسع وأربعين([18])) كان الوباء العظيم ... وعمّ الدنيا حتى دخل إلى مكّة المشرّفة، ثم عمّ شرق الأرض وغربها، فمات بهذا الطاعون بمصر والشام وغيرهما خلائق لا تحصى([19]).

وقال برهان الدين الحلبي عن المدينة: "ولم يتفق دخول الطاعون بها في زمن من الأزمنة، بخلاف مكة فإنه وجد بها في بعض السنين، وهي سنة تسع وأربعين وسبعمائة"([20]).

وقد أقر الحافظ ابن حجر بوقوع هذا الطاعون في هذا العام، ونقل عن شهاب الدين بن أبي حجلة قوله: "أن مكة لم يدخلها الطاعون قط، إلا هذه المرة، فمات بها خلق كثير من أهلها والمجاورين بالطاعون، وتواتر النقل بذلك"([21]).

لكنه في الفتح حاول التشكيك في تسميته طاعوناً([22]).

 

خامساً: المنفي في هذه الأحاديث هو دخول الطاعون لا الوباء، والطاعون أخص من الوباء، فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونًا، ولذا فالنصوص الشرعية لا تدل على امتناع دخول الأوبئة إلى المدينة النبوية حفظها الله من كل سوء.

قال الحافظ ابن حجر: "وقد وقع فيها الوباء بالموت الكثير في زمن عمر رضي الله عنه، ففي صحيح البخاري من طريق أبي الأسود الدؤلي قال: (أتيت المدينة وقد وقع بها مرض، وهم يموتون موتا ذريعًا) ...، وأما الطاعون فلم يُنقل قط أنه وقع بها من الزمان النبوي إلى زماننا هذا، ولله الحمد"([23]).

وقال ابن القيم: "الطاعون - من حيث اللغة -: نوعٌ من الوباء، قاله صاحب الصحاح، وهو عند أهل الطب: ورمٌ رديءٌ قتَّال يخرج معه تلهُّبٌ شديدٌ مؤلمٌ جدًا يتجاوز المقدار في ذلك، ويصير ما حوله في الأكثر أسود أو أخضر أو أكمد، ويئول أمره إلى التقرُّح سريعًا، وفي الأكثر يحدث في ثلاثة مواضع: في الإبط، وخلف الأذن والأرنبة، وفي اللحوم الرَّخوة...

قال الأطباء: إذا وقع الخراج في اللحوم الرخوة، والمغابن، وخلف الأذن والأرنبة، وكان من جنس فاسد: سُمِّي طاعونًا...".

ثم قال: " ولما كان الطاعون يكثر في الوباء، وفي البلاد الوبيئة، عُبِّرَ عنه بالوباء، كما قال الخليل: (الوباء: الطاعون، وقيل: هو كل مرض يعم).

والتحقيق:أن بين الوباء والطاعون عمومًا وخصوصًا، فكلُّ طاعونٍ وباءٌ، وليس كلُّ وباءٍ طاعونًا، وكذلك الأمراض العامَّة أعمُّ من الطاعون فإنَّه واحدٌ منها"([24]).

 

والحاصل:

أنَّ الثابت في السنة النبوية الصحيحة: نفي دخول الطاعون إلى المدينة، "فلم تزل محفوظة منه مطلقًا في سائر الأعصار، كما جزم به ابن قتيبة، وتبعه جمعٌ جمٌّ من آخرهم النوويّ"([25]).

وأما الأوبئة فلا يوجد ما يدل على امتناع دخولها للمدينة.

وليس في النصوص الشرعية ما يدل على امتناع دخول الطاعون -فضلا عن الأوبئة- إلى مكة.

نسأل الله أن يحميها وسائر بلاد المسلمين من الطاعون ومن كل وباء.

والله أعلم



([1]) مسند أحمد (10265).

([2]) ينظر: التاريخ الكبير للبخاري (6/180)، (6/510)، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (6/362)، تعجيل المنفعة (2/47).

([3]) ينظر: الثقات لابن حبان (5/249)،  (7/173).

([4]) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (6/125).

([5]) نصب الراية (1/381)، وينظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (7/85)، الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي (8/602)، تهذيب التهذيب (8/303)، تحرير تقريب التهذيب (3/165).

([6]) كذا في المطبوع، والصواب: سُريج.

([7]) فتح الباري (10/191).

([8]) إن كان عمر بن شبة رواه كما ذكر الحافظ فهو خطأ منه بلا شك، فقد خالفه في ذلك: الإمام أحمد، وسعيد بن منصور، وابن أبي خيثمة، وإن لم يكن رواه كذلك، فيكون الحافظ وهم من اسم عمر بن العلاء إلى العلاء بن عبد الرحمن.

([9]) مسند أحمد (16/185).

([10]) موطأ مالك (3320)، صحيح البخاري (1880)، صحيح مسلم (485).

([11]) مسند أحمد (8917).

([12]) صحيح البخاري (7134) .

([13]) البداية والنهاية (19/189).

([14]) التوضيح لشرح الجامع الصحيح (12/531).

([15]) تاريخ ابن أبي خيثمة - السفر الثالث- (1/ 146).

([16]) وكذا رواه سعيد بن منصور عن فليح بن سليمان، كما في تاريخ دمشق لابن عساكر (14/ 308).

([17]) خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى (1/158).

([18]) (749هـ) .

([19]) النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة (10/ 233) .

([20]) السيرة الحلبية (2/ 119).

([21]) بذل الماعون في فضل الطاعون (ص379) .

([22]) فتح الباري (10/ 191).

([23]) بذل الماعون (ص104).

([24]) زاد المعاد في هدي خير العباد (4/35).

([25]) خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى (1/ 155).

المقالات المنشورة هي لأعضاء الهيئة، وتعبر عن آراء كاتبيها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الهيئة