حقيقة التشبه بالكفار وضابطه
أولا: إنَّ المسلمَ متميزٌ باعتقاده وسلوكه، فلا يجوزُ له أن يشابه المغضوبَ عليهم ولا الضالّين في خصائص دينهم، وكيف لا؟! وقد جاءت النصوص الكثيرة والمتواترة في الكتاب والسنة بالنهي عن التشبه بغير المسلمين مما هو من خصائصهم وما يتميزون به، ومن هذه الأدلة:
- قوله تعالى:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].
قال ابن كثير في" تفسيره":" وفيه تهديدٌ ووعيدٌ شديدٌ للأمة على اتباع طرائق اليهود والنصارى بعد ما علموا من القرآن والسنة ـ عياذاً بالله من ذلك ـ فإن الخطاب للرسول والأمر لأمته".
- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: "من تشبَّه بقومٍ فهو منهم".أخرجه أبو داود، وأحمد، وإسناده جيد.
قال شيخ الإسلام في"اقتضاء الصراط المستقيم"(1/ 270):" وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[المائدة: 51]"انتهى.
- وفي الصحيحين عن ابن عمر أيضاً قال: قال صلى الله عليه وسلم: "خالفوا المشركين احفوا الشوارب ووافوا اللحى".
- وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في"اقتضاء الصراط" (1/ 185):" أمر بمخالفتهم؛ وذلك يقتضي أن يكون جنس مخالفتهم أمرا مقصودا للشارع؛ لأنه: إن كان الأمر بجنس المخالفة حصل المقصود، وإن كان الأمر بالمخالفة في تغيير الشعر فقط، فهو لأجل ما فيه من المخالفة" انتهى.
- وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود".
أخرجه الترمذي،والنسائي،وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قال شيخ الإسلام في" اقتضاء الصراط المستقيم" (1/176):" وهذا اللفظ دلَّ على الأمر بمخالفتهم والنهي عن مشابهتهم، فإنه إذا نهى عن التشبه بهم في بقاء بياض الشيب، الذي ليس من فعلنا؛ فلأن ينهى عن إحداث التشبه بهم أولى"انتهى.
ثانيا: وفيما سبق من الأدلة وغيرها، يتبين لنا أن جنس المخالفة للكافرين ونحوهم، أمر مقصود للشارع، وأن التشبه بهم منهي عنه في الجملة، في عامة أمورهم الدينية والدنيوية.
وأنَّ هناك أمورًا خصت بالنهي، ووردت بها السنة بعينها، كالبناء على القبور، واتخاذها مساجد، وحلق اللحى وإعفاء الشوارب، والأكل والشرب بالشمال، ونحو ذلك.
وأن مخالفتهم في عامة أمورهم أصلح لنا- نحن المسلمين- في دنيانا وآخرتنا، وأنه ليس شيء من أمور الكفار، في دينهم ودنياهم، إلا وهو: إما فاسد وإما ناقص في عاقبته.
ثالثا: والتشبه الممنوع له آثاره السيئة على الفرد والمجتمع، وعلى العقيدة والسلوك، وذلك أن المشابهة الظاهرية لا بد أن تورث بينهما شعورًا واضحًا بالتقارب، والتعاطف، والتوادّ.
فإذا حدث أن مسلمًا تشبه بكافر، في مظهره وعاداته، وسلوكه، ولغته، أو شيء من ذلك، فإنه لا بد أن يورث بينهما شعورًا بالتقارب، والمودة، وهذا ما شهد به الواقع، فضلًا عن بيان الشرع، وموافقة العقل.
قال شيخ الإسلام في"اقتضاء الصراط المستقيم" (1/ 93):" أن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبا وتشاكلا بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس؛ فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس لثياب الجند المقاتلة - مثلا - يجد من نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضيا لذلك، إلا أن يمنعه مانع" انتهى.
وأمر آخر خطير أيضًا على المسلمين، وهو أنه لا يقتصر التشابه بين المسلم والكافر على المودة الظاهرة بينهما، بل قد يصل إلى الأمور الاعتقادية والفكرية الباطنة، فإن المسلم الذي يقلد الكفار في الهدي الظاهر، يقوده ذلك على وجه المساوقة والتدرج الخفي إلى التأثر باعتقاداتهم الباطلة.
وهذا الأمر كذلك ندركه الآن بين المتفرنجين، الذين يعشقون الحياة الغربية، فأكثرهم يحمل أفكارًا واعتقادات غريبة عن الإسلام، بل قد تكون هدامة تنافي العقيدة الإسلامية الصحيحة.
رابعا: والكلام في حكم التشبه يكون من جهتين:
الأولى: معرفة حقيقة التشبه والضابط في ذلك.
الجهة الثانية: الفاعل للتشبه هل هو قاصد للتشبه أو غير قاصد.
أما معرفة حقيقة التشبه فهو :" هو مماثلة الكافرين بشتى أصنافهم، في عقائدهم، أو عباداتهم، أو عاداتهم، أو في أنماط السلوك التي هي من خصائصهم والتي لم يفعلوها بحكم الإنسانية".
ويخرج من دائرة النهي: ما لم يكن من خصائص الكفَّار، ولا من عقائدهم، ولا من عاداتهم، ولا من عباداتهم، ولم يعارض نصًّا أو أصلًا شرعيًا، ولم يترتب عليه مفسدة، فإِنَّه لا يكون من التشبه.
أما ما فعلوه بمقتضى الإنسانية فهذا لا علاقة له بالتشبه لأنه ليس من أهوائهم ولا من خصائصهم، كصناعة السيارات والطائرات والتقنيات العلمية وغيرها من الاختراعات، مما يشترك فيه جميع الناس ولا يختص بقوم دون قوم.
أما إذا كان مما يخصهم، ولكنه انتشر بين المسلمين وتفشى في زمان دون زمان أو مكان دون مكان ولم يكن محرما في ديننا فهذا يخرج من دائرة التشبه.
وقال ابن حجر في"الفتح" (10/272):" وقد كره بعض السلف لبس البُرنُس لأنه كان من لباس الرهبان، وقد سئل مالك عنه فقال: لا بأس به، قيل: فإنه من لبوس النصارى قال كان يلبس ههنا"انتهى.
فبيَّن الإمام مالك _ كما نقل عنه ابن حجر _ أنه لم يبح لبسه إلا لأنه كان يلبس ههنا- أي عند المسلمين -ولولا ذاك لحكم عليه بالتحريم ما دام أنه مأخوذ عن النصارى.
وقال ابن حجر أيضا في"الفتح" (10/275)- مبيناً أن ما استفاض عند المسلمين حتى صار من شعارهم لا يعد تشبهاً بالكفار حتى ولو كان مما يفعله الكفار- ، في معرض حديثه عن حكم لبس الطيلسان: "وإنما يصلح الاستدلال بقصة اليهود في الوقت الذي تكون الطيالسة من شعارهم، وقد ارتفع ذلك في هذه الأزمنة فصار داخلاً في عموم المباح، وقد يصير من شعائر قوم فيصير تركه من الإخلال بالمروءة"انتهى.
وقال شيخ الإسلام في"مجموع الفتاوى" (17/ 487):" وكان الصحابة يرمون بالقوس العربية الطويلة التي تشبه قوس الندف وفتح الله لهم بها البلاد، وقد رويت آثار في كراهة الرمي بالقوس الفارسية عن بعض السلف؛ لكونها كانت شعار الكفار، فأما بعد أن اعتادها المسلمون وكثرت فيهم، وهي في أنفسها أنفع في الجهاد من تلك القوس، فلا تكره في أظهر قولي العلماء أو قول أكثرهم" انتهى.
وكما أنه قد يصير الفعل من شعار المسلمين بعد أن كان شعاراً للكفار، فقد يصير الفعل تشبهاً بعد أن لم يكن كذلك، وذلك بأن يصير الفعل من شعار الكفار، يقول الذهبي عن زمنه: "ألا ترى أن العمامة الزرقاء والصفراء كان لبسهما لنا حلالاً قبل اليوم. وفي عام سبعمائة، فلما ألزمهم السلطان الملك الناصر حرمت علينا" "تشبيه الخسيس بأهل الخميس" للذهبي، ص: (25).
ولكن ينبغي أن نعلم أن مجرد انتشار الفعل بين المسلمين لا يصيره جائزا إذا كان من عقائدهم وعباداتهم الضالة.
خامسا: وأما المسلم المتشبه بالكافر فله حالان:
الأولى: أن يقصد التشبه بهم.
الثانية: ألا يكون قاصدا للتشبه.
الأولى: فمن قصد التشبه بالكافرين فهو على خطر عظيم، قد يصل به الحال إلى الكفر، وقد جاء الوعيد في ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم:" من تشبه بقوم فهو منهم".
قال شيخ الإسلام في"اقتضاء الصراط المستقيم"(1/ 270):" وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[المائدة: 51]"انتهى.
فكلمة "تشبّه" على وزن تفعّل، والتي تفيد حصول الفعل بقصد وتكلف له.
الثانية: أن يقع في التشبه من غير قصد للتشبه بهم، وهذا عند بعض الناس ليس بتشبه ما لم يقصد.
والصحيح أنه لايشترط القصد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن التشبه مطلقا ولو لم يقصد الفاعل التشبه.
فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة حين طلوع الشمس وحين غروبها، فقال كما في صحيح مسلم:" صلِّ صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع ؛ فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس؛ فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار".
قال شيخ الإسلام في"اقتضاء الصراط المستقيم"(1/ 218):" ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله تعالى، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان، ولا أن الكفار يسجدون لها، ثم إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في هذا الوقت؛ حسماً لمادة المشابهة بكل طريق"انتهى.
وكذلك في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال:" رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم علَيَّ ثوبين مُعَصْفَرَيْن، فقال:" أمُّك أمَرَتْكَ بهذا"؟ قلتُ: أغْسلُهما يا رسول الله؟ قال:" بل أحرِقْهما"، زاد في رواية:" إنَّ هذه من ثياب الكفار، فلا تَلْبَسها".
فلم يقل عبد الله أنا لم أقصد التشبه، ولم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم هل قصدت التشبه أم لم تقصد؟! فدلَّ ذلك كله على تحريم التشبه مطلقا سواء قصد الفاعل التشبه أو لم يقصد.
قال شيخ الإسلام في"اقتضاء الصراط المستقيم"(1/473):" وقد تقدم بيان أن ما أمرنا الله ورسوله به من مخالفتهم مشروع سواء كان ذلك الفعل مما قصد فاعله التشبه بهم أو لم يقصد، وكذلك ما نهى عنه من مشابهتهم يعم ما إذا قُصدت مشابهتهم أو لم تقصد فإن عامة هذه الأعمال لم يكن المسلمون يقصدون المشابهة فيها، وفيها مالا يُتصور قصد المشابهة فيه كبياض الشعر وطول الشارب ونحو ذلك" انتهى.
وعلى هذا فإنه لا عبرة بادعاء عدم القصد؛ فإن من فعل ما هو تشبه بالمشركين، وهو يعلم حكمه فإنه قد وقع في التشبه المنهي عنه، ولو كان لا يقصد مشابهتهم فيه.
سادسا: وينبغي أن يعلم أن المفاصلة في كل شئ تكون حين عزة الإسلام وظهوره، أما المسلم الذي يعيش بين ظهراني الكفار اختيارا أو اضطرارا فليتق الله ما استطاع في عدم التشبه، وخاصة بما يتعلق بالعقيدة والعبادة، أما ما يتعلق بالهدي الظاهر فيفعل ما فيه المصلحة.
والشريعة الإسلامية جاءت بما فيه صلاح الناس وإصلاحهم وتميزت باليسر والسماحة، وتقدير المصالح، ودفع المضار، فإن فيها للضرورات أحكامًا، تخرج المسلم من الحرج حينما يقع فيه.
ولما أصّلَ شيخُ الإسلام لمسألة التشبه في كتابه المميز" اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم"، ذكر ضابطا مهما في ذلك، فقال في"اقتضاء الصراط المستقيم"(1/ 471):" ومما يوضح ذلك: أن كل ما جاء من التشبه بهم، إنما كان في صدر الهجرة، ثم نسخ؛ ذلك أن اليهود إذ ذاك، كانوا لا يتميزون عن المسلمين لا في شعور، ولا في لباس، لا بعلامة، ولا غيرها.
ثم إنه ثبت بعد ذلك في الكتاب والسنة والإجماع، الذي كمل ظهوره في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ما شرعه الله من مخالفة الكافرين ومفارقتهم في الشعار والهدي.
وسبب ذلك: أن المخالفة لهم لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه كالجهاد، وإلزامهم بالجزية والصغار، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء؛ لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا؛ شرع بذلك.
ومثل ذلك اليوم: لو أن المسلم بدار حرب، أو دار كفر غير حرب؛ لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر بل قد يستحب للرجل، أو يجب عليه، أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية: من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة.
فأما في دار الإسلام والهجرة، التي أعز الله فيها دينه، وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية، ففيها شرعت المخالفة. وإذا ظهر أن الموافقة والمخالفة تختلف لهم باختلاف الزمان والمكان؛ ظهرت حقيقية الأحاديث في هذا"انتهى.