الثلاثاء 9 رمضان 1445 هـ الموافق 19 مارس 2024 م
منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في التعامل مع المخالفين
الاثنين 18 شوّال 1439 هـ الموافق 2 يوليو 2018 م
عدد الزيارات : 89336

 

منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في التعامل مع المخالفين

 

من سنة الله الكونية الاختلاف، كما قال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119].

والاختلاف نوعان: نوعٌ محرمٌ مذمومٌ، وهو اختلاف التفرق الذي وقع به أهل الملل والفرق المنحرفة، كما قال تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]، وقال أيضا:{وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ - مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[الروم: 31 - 32].

والنوع الآخر اختلاف سائغٌ، وهو اختلاف أهل الحق فيما يسوغ فيه الخلاف من الأمور العلمية والعملية، وأصحابُه مأجورون على كلّ حالٍ بأجرين أو بواحد، ولكن لا ولاء ولا براء فيه، وإلا  كان التعصب والتحزب المقيت.

وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أئمة الإصلاح في زمانه، وما زالت كتاباته إماماً لأهل الإصلاح في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.

وقد خالف وخالفه عديدٌ من أهل عصره في المسائل العلمية والعملية، مما يسوغ فيه الخلاف ومما لا يسوغ، وقد تمادى بعضُ مخالفيه فتجاوز الحدَّ فيه بالتكفير والدعوة إلى قتله، وباشر بعضهم الضرب، وسعوا في سجنه، فسجن عدة مرات حتى مات في سجنه صابراً محتسباً.

ومع ذلك كان الشيخُ متميزاً في تعامله مع مخالفيه، وكان مثالاً يقتدي به كلُّ مصلح على مرِّ الزمان.

ويمكن أن نختصر معالم منهج الشيخ في التعامل مع المخالفين بأصلين عظيمين: بيان الحق ورحمة الخلق.

وإليك بعض هذه المعالم:

أولاً: بيان الحق

بيانُ الحق وردّ الباطل حقٌ واجب على جميع الأمة، وخاصةً من نصبهم الله لذلك وهم العلماء ورثة الأنبياء، والباطلُ مردودٌ حتى لو قال به عالمٌ من الراسخين، أو وليٌّ من الصالحين، فحقُّ الشريعة وجنابُها مقدَّمٌ على الخلق، مع الاعتذار والاحترام للمجتهدين.

أما أهل البدع فيجب ردُّ باطلهم مع بيان حالهم، وخاصةً إذا كانوا من الداعين لبدعهم.

وقد تجلَّى هذا المنهج في كتب شيخ الإسلام ورسائله وفتاويه.

قال في "منهاج السنة النبوية" (5/ 146):" وكذلك بيان أهل العلم لمن غلط في رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تعمّد الكذب عليه، أو على من ينقل عنه العلم، وكذلك بيان من غلط في رأي رآه في أمر الدين من المسائل العلمية والعملية ; فهذا إذا تكَّلم فيه الإنسان بعلم وعدل، وقصد النصيحة، فالله تعالى يثيبه على ذلك، لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعياً إلى بدعة، فهذا يجب بيان أمره للناس، فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق".

وقال في "مجموع الفتاوى" (28/ 231):" ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة؛ فإنَّ بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجبٌ باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل.

فبيَّن أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله؛ إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب؛ فإنَّ هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء".

 

ثانياً: العدلُ والإنصاف

وهذا القانون الإلهي تجده حاضراً في مقالات الشيخ وتعاملاته مع الخصوم، حتى لو تجاوزوا حدَّ الله فيه بالظلم والبهتان والسب.

قال ابن تيمية في" منهاج السنة" 5/157:" فأهل السنة يستعملون معهم -أي المخالفين- العدل والإنصاف، ولا يظلمونهم، فإن الظلم حرام مطلقاً".

ولما صنّف كتاباً في الاستغاثة ردَّ عليه أحدهم فكفَّره وضلله وشتمه، ومع ذلك لم يقابله بالمثل، بل قال كما في "الرد على الإخنائي" (ص: 92):" وهذا الموضع يغلط فيه هذا المعترض وأمثاله، ليس الغلط فيه من خصائصه، ونحن نعدل فيه ونقصد قول الحق والعدل فيه، كما أمر الله تعالى؛ فإنه أمر بالقسط على أعدائنا الكفار، فقال سبحانه وتعالى:{ كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا [المائدة: 8]. فكيف بإخواننا المسلمين، والمسلمون إخوة، والله يغفر له ويسدّده ويوفقه وسائر إخواننا المسلمين".

وقال في "مجموع الفتاوى" (3/245):"هذا وأنا في سعة صَدْرٍ لمن يخالفني، فإنه وإن تعدَّى حدود الله فيّ بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبية جاهلية، فأنا لا أتعدى حدود الله فيه، بل أضبط ما أقوله وأفعله، وأزنه بميزان العدل، وأجعله مؤتماً بالكتاب الذي أنزله الله، وجعله هدى للناس، حاكماً فيما اختلفوا فيه..."انتهى.

 

ثالثاً: البعدُ عن التكفير

منهج الشيخ في التكفير واضحٌ بيّنٌ، فقد أصَّل فيه وفصَّل، وكان له القدح المعلَّى في بيان قواعد التكفير وضوابطه وشروطه وموانعه، وكان من أبعد الناس عن تكفير الأعيان .

فقد بيَّن أنَّ التكفيرَ حكمٌ شرعيٌ لا يخضع للأهواء وردود الأفعال.

قال شيخُ الإسلام في "الرد على البكري" (2/ 492):" فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله، لأن الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق لله فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله".

وكان شيخ الإسلام رحمه الله شديد التحذير من تكفير الأعيان وأن ينسب مسلمٌ إلى كفر من غير حجة بينة واضحة، قال في "مجموع الفتاوى" (3/ 229):" هذا مع أني دائماً ومن جالسني يعلم ذلك مني، أني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا عُلم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية، التي من خالفها كان كافراً تارة وفاسقاً أخرى وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العلمية".

وكان يحذر الجهال أن يلجوا هذا الباب الخطير، ويعتبر ذلك من أعظم المنكرات، قال في "مجموع الفتاوى" (35/ 100):" فإنَّ تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمة المسلمين لما يعتقدون أنهم اخطئوا فيه من الدين، وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله، وليس كل من يترك بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق بل ولا يأثم".

قال الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (15/88)، نقلاً عن زاهر السرخسي أنه قال :"  لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد، دعاني فأتيته، فقال : اشهد عليّ أني لا أكفر أحداً من أهل القبلة، لأنَّ الكلَّ يشيرون إلى معبودٍ واحدٍ، وإنما هذا كله اختلاف العبارات".

قلت - أي الذهبي - : وبنحو هذا أدين، وكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفر أحداً من الأمة، ويقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم".

 

رابعاً: العذر

والشيخ واسع العذر مع الأعيان، وكان من منهجه إذا ذكر المناهجَ أصَّل، وإذا ذكر الأعيان فصَّل، فهو يأتي على المناهج الباطلة فينسفها نسفاً بالحجج النقلية والعقلية البرهانية، ولما يأتي إلى الأشخاص الذين يلتزمون هذه المناهج يفصل في حالهم، فمنهم الزنديق المعاند الذي لا يعذر، ومنهم المجتهد المعذور.

والشيخ رحمه الله يبين دقة بعض العلم وخفائه على كثير من هؤلاء مما يجعلهم يقعون في الغلط، قال رحمه الله في "بيان تلبيس الجهمية" (1/ 9):" وأكثر الطالبين للعلم والدين، ليس لهم قصد من غير الحق المبين، لكن كثرتْ في هذا الباب الشبه والمقالات، واستولت على القلوب أنواع الضلالات، حتى صار القول الذي لا يشك من أوتي العلم والإيمان، أنه مخالف للقرآن والبرهان، بل لا يشك في أنه كفر بما جاء به الرسول من رب العالمين، قد جهله كثير من أعيان الفضلاء، فظنوا أنه من محض العلم والإيمان، بل لا يشكـون في أنه مقتضى صريح العقل والعيان، ولا يظنون أنه مخالف لقواطع البرهان، ولهذا كنت أقول لأكابرهم: لو وافقتكم على ما تقولونه لكنت كافرًا مريدًا -لعلمي بأن هذا كفر مبين- وأنتم لا تكفرون لأنكم من أهل الجهل بحقائق الدين، ولهذا كان السلف والأئمة يكفرون الجهمية في الإطلاق والتعميم، وأما المعين منهم فقد يدعون له ويستغفرون له، لكونه غير عالم بالصراط المستقيم" انتهى.

 

خامساً: لين الخطاب

ومما اتصف به الشيخ رحمه الله لين الخطاب مع المخالفين، وإن أغلظ المخالف عليه بالقول، ممتثلاً قوله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]، وقوله تعالى:{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53].

وذلك لأن الغرض هو بيان الحق، وإزالة الشبهة، ومع هذا ينبه إلى أن مقامات الخطاب للمخالف تختلف فلها أحوال: فقد تنفع المخاطبة بالتي هي أحسن وقد لا تنفع، ولذا يقول رحمه الله في" مجموع الفتاوى" (3/ 232):" ما ذكرتم من لين الكلام والمخاطبة بالتي هي أحسن، فأنتم تعلمون أني من أكثر الناس استعمالاً لهذا، لكن كل شيء في موضعه حسن، وحيث أمر الله ورسوله بالإغلاظ على المتكلم لبغيه وعدوانه على الكتاب والسنة، فنحن مأمورون بمقابلته، لم نكن مأمورين أن نخاطبه بالتي هي أحسن".

 

سادساً: حب الخير للمسلمين

وهو بذلك محقق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يُؤمِنُ أحدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه) أخرجاه في الصحيحين.

وقال في رسالة كتبها وهو في السجن إلى تلاميذه ومحبيه، يتحدث عن خصومه الذين تسببوا في دخوله السجن، وكانوا سبباً في مصادرة كتبه، قال في"مجموع الفتاوى" (28/41): " أنا أحب لهم أن ينالوا من اللذة  والسرور والنعيم ما تقر به أعينهم، وأن يفتح لهم من معرفة الله وطاعته الجهاد في سبيله ما يصلون به إلى أعلى الدرجات".

وقال أيضا في" مجموع الفتاوى" (28 /55): " وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي".

وقال ابن القيم عن ابن تيمية في "مدارج السالكين" (2/329): "  كان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه، وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم".

بل حبه للخير لم يختص بالمسلمين بل تعداه الى جميع الناس ولو كانوا من الكافرين ، فقد قال في رسالة وجهها للملك النصراني (سرجون) حاكم قبرص: "نحن قوم نحب الخير لكل أحد، ونحب أن يجمع الله لكم خير الدنيا والآخرة"، "مجموع الفتاوى" (28/615).

 

سابعاً: الحرص على الاجتماع والائتلاف

وكان الشيخ رحمه حريصاً على اجتماع الأمة وائتلافها بقوله وفعله.

قال رحمه الله في "مجموع الفتاوى" (3/ 227):" والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة ومنافرة، وأنا كنت من أعظم الناس تأليفا لقلوب المسلمين وطلبا لاتفاق كلمتهم واتباعا لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله، وأزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة، وبينتُ لهم أن الأشعري كان من أجلِّ المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد رحمه الله ونحوه، المنتصرين لطريقه، كما يذكر الأشعري ذلك في كتبه" انتهى.

وفي المناظرة في العقيدة الواسطية لما اجتمع مع العلماء والقضاة بدأ ابن تيمية الكلام، وذكر أن الله أمر بالجماعة والائتلاف ونهانا عن الفرقة والاختلاف، ثم قال بأسلوب قوي كما في "الفتاوى" (3/182):" وربنا واحد، وكتابنا واحد، ونبينا واحد، وأصول الدين لا تحتمل التفرق والاختلاف، وأنا أقول ما يوجب الجماعة بين المسلمين وهو متفق عليه بين السلف، فإن وافق الجماعة فالحمد لله، وإلا فمن خالفني بعد ذلك كشفت له الأسرار وهتكت الأستار، وبينت المذاهب الفاسدة، التي أفسدت الملل والدول، وأنا أذهب إلى سلطان الوقت على البريد، وأعرفه من الأمور ما لا أقوله في هذا المجلس، فإنَّ للسلم كلاماً وللحرب كلاماً".

وأرسل ابن تيمية رسالة إلى إخوانه وأصحابه بدمشق، يحثهم فيها على اجتماع الكلمة، وإصلاح ذات البين، ومما قاله فيها كما في" مجموع الفتاوى"  (28/51): " وتعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين: تأليف القلوب واجتماع الكلمة وصلاح ذات البين، فإنَّ الله تعالى يقول:{فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}، ويقول:{واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}،ويقول: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم}، وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف، وتنهى عن الفرقة والاختلاف، وأهل هذا الأصل: هم أهل الجماعة كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة".

 

ثامناً: العفو وعدم الانتقام

أما العفو عمن آذاه، فهذا مما تواتر الخبر عنه، بل تجاوز أمره إلى الإحسان لمن آذاه، ممتثلاً صفات المؤمنين في قوله تعالى:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [آل عمران: 134]، وقوله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].

ومن كلامه رحمه الله فيمن آذوه، في رسالة كتبها لأصحابه، كما في "مجموع الفتاوى" (28/ 55):"

فلا أحبُّ أن ينتصر من أحد بسبب كذبه علي أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا فهم في حلٍّ من جهتي، وأما ما يتعلق بحقوق الله فإن تابوا تاب الله عليهم، وإلا فحكم الله نافذ فيهم".

وكان ممن سعى في إيذائه القاضي زيد الدين ابن مخلوف قاضي المالكية فقال في" مجموع الفتاوى" (3/ 271):" وأنا والله من أعظم الناس معاونةً على إطفاء كل شر فيها وفي غيرها، وإقامة كل خير، وابن مخلوف لو عمل مهما عمل، والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه، ولا أعين عليه عدوه قط، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هذه نيتي وعزمي، مع علمي بجميع الأمور، فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين ولن أكون عونا للشيطان على إخواني المسلمين. ولو كنتُ خارجاً لكنت أعلم بماذا أعاونه، لكن هذه مسألة قد فعلوها زورا والله يختار للمسلمين جميعهم ما فيه الخيرة في دينهم ودنياهم، ولن ينقطع الدور وتزول الحيرة إلا بالإنابة إلى الله والاستغفار والتوبة وصدق الالتجاء، فإنه سبحانه لا ملجأ منه إلا إليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله".

ومن مواقفه لما مات أحد أعدائه، قال ابن القيم في "مدارج السالكين" (2/345):" وكان بعض أصحابه الأكابر يقول : وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه، وما رأيته يدعو على أحد منهم قط وكان يدعو لهم وجئتُ يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال : إني لكم  مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا من الكلام، فسروا به ودعوا له وعظّموا هذه الحال منه فرحمه الله ورضي عنه".

وقد ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" (14/54): أن السلطان الملك الناصر، لما رجع إلى الملك مرة ثانية، كان همُّه في طلب الشيخ ورؤيته، فلما تقابلا اعتنقا هنيهة، ثم أخذ معه ساعة يتحدثان وكان من حديثهما، أن طلب الملك الناصر من ابن تيمية رحمه الله أن يفتي في قتل بعض القضاة بسبب ما تكلموا فيه، وحثه على ذلك، إلا أن ابن تيمية رحمه الله أخذ في تعظيم هؤلاء القضاة والعلماء، وبيان مكانتهم، وينكر أن ينال أحداً منهم بسوء، وقال له: إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم، ومن آذاني فهو في حلٍّ وأنا لا أنتصر لنفسي.

فلذلك قال القاضي ابن مخلوف وقد كان خصما له :"ما رأينا مثل ابن تيمية , حرضنا عليه فلم نقدر عليه , وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا".

وفي اللحظات الأخيرة من حياته –رحمه الله- مرض أياماً في محبسه الأخير في القلعة، فعلم بمرضه أحد وجهاء الدولة وهو شمس الدين الوزير، فجاءه يستأذنه في الدخول عليه لعيادته، فأذن الشيخ له في ذلك، فلما جلس عنده أخذ الوزير يعتذر له عن نفسه، ويلتمس منه أن يحلّه مما عساه أن يكون قد وقع منه في حق الشيخ من تقصير أو غيره. فأجابه ابن تيمية بقوله: إني قد أحللتُك وجميع من عاداني وهو لا يعلم أني على الحق .وقال له أيضاً: إني قد أحللت السلطان الناصر ابن قلاوون من حبسه إياي لكونه فعل ذلك مقلداً غيره معذوراً، ولم يفعله لحظّ نفسه، بل لما بلغهُ مما ظنه حقاً من مُبلِّغه، والله يعلم أنه بخلافه. ثم قال: قد أحللتُ كلَّ واحدٍ مما كان بيني وبينه. كما في "العقود الدرية" ص (282).

والحمد لله رب العالمين

 
المقالات المنشورة هي لأعضاء الهيئة، وتعبر عن آراء كاتبيها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الهيئة