الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
يختلف الناس في تشخيص داء الأمة ودوائها، فمن قائل: إن الذلَّ الذي تعيشه الأمَّةُ إنما سببه أعداء الله من الكفار والطواغيت، فلا بد من التصدي لهما أولا بالقتال والجهاد!! وقال آخرون: بل الذلُّ سببه عدم الأخذ بركب الحضارة الغربية، فينبغي الأخذ بأسباب الحضارة ونختار منها ما هو ملائم لشرعنا!! وقالوا وقالوا!!!
قلنا: لا كلامَ لأحدٍ بعد كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في معرفة داء الأمة ودوائها ، قال تعالى :{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} {الشورى:30} ، فقد بينت هذه الآية أن ما يصيبُ المسلمين من المصائب هو بسبب المخالفات الشرعية ، ولن يحصلَ التغييرُ في حياتهم حتى يُغَيِّروا ما بأنفسهم كما قال تعالى :{إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } {الرعد:11}.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّـهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا، لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ ". أخرجه أبو داود، وأحمد، والبيهقي، وصححه الألباني في الصحيحة رقم11.
وهذا الحديث العظيم فيه فوائد :
الأولى : بَيَّنَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم فيه الداءَ وما ترتب عليه من العقوبة، ثُمَّ وصف الدواء .
فالداءُ هو الانحرافُ عن شريعة الله، وذكر منها الرسول صلى الله عليه وسلم صوراً، منها التعامل بالربا، والركون إلى الدنيا، ثم ترك الجهاد في سبيل الله، فكانت العقوبة من الله عز وجل بتسليط الذُلِّ على هذه الأمة بأيدي أعدائها، ولم ولن يرتفع إلا بالعودة إلى هذا الدين جملةً وتفصيلاً.
الثانية: المسلمون إذا لم يحققوا الانتصار على أنفسهم في ساحات السلم، فإنهم لا يستحقون النصر من الله في ساحات الحرب ، فالمجتمع الذي ينتشر فيه الربا هو مجتمع غير متكافل ومتراحم، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ومن لا يَرْحَمْ لا يُرْحَم"، وقال أيضاً: " الراحمون يَرْحَمُهم الرَّحمن، ارحموا أهلَ الأرضِ يَرْحَمْكم من في السماء". رواه أبو داود،والترمذي،وقال:حسن صحيح.
ونصرُ الله لا يكون إلا لأهل الرحمة، قال تعالى في وصف من استحق النصر من سلف هذه الأمة : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّـهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} {الفتح:29} .
من أجل ذلك فلا تعجب عندما يتحدث الله في القرآن عن غزوة أحد وأحداثها القتالية، فيبتدؤهـا بالحديـث عن الربا قائلاً : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}{آل عمران:130} وهو سبحانه وتعالى يشير إلى هذا المعنى الذي قدمناه، أي إن لم تنصروا الله في ساحات السلم، فلا نصرَ لكم في ساحات الحرب، إنْ لم تتعرفوا على الله في الرخاء، لنْ يَعرفكم في الشدِّة.
ومن العجب أنك تجد المسلمين يصابون في كلِّ يومٍ بقارعةٍ أو تَحِلُّ قريباً منهم، وهم مع ذلك كثيرٌ منهم يُصِرُّون على الربا والزنا والفواحـش ما ظهر منها وما بطن ، ثم يريدون بعد ذلك أن يُنصروا، أو أنْ تَنْـِزلَ على الكفار قارعةٌ من السماء تحسمُ لهم المعركة ، أو يُخرجَ لهم المَهْديَّ المُنْتَظَر ينقذهم مما هم فيه.
ففي كل يوم نحقق الهزائم الكثيرة في ساحات السلم ، هزائمُ في ترك صلاة الجماعة ، بل في ترك الصلاة ، وفي عدم الالتزام بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم ، هزائمُ في حجاب المرأة ، هزائمُ في السياسة والاقتصاد والإعلام ، هزائمُ في قضايا الولاء والبراء.
وصدقَ اللهُ عزَّ وجلَّ إذ يقول:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} {محمد:7}، وإذ يقول:{ إِنَّ اللَّه لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ }{الرعد:11}.
الثالثة : إنَّ مصيبةَ الذُلِّ التي وقعتْ بالمسلمين ليست من أعدائهم، وإنَّما هي من أنفسهم، قال تعالى:{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} {آل عمران:165} وقال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} { الشورى:30}.
الرابعة : الاعتقادُ بأنَّ اللهَ هـو الذي سَلَّطَ الذُلَّ، يُعطي المؤمن يقيناً واطمئناناً أنَّ الأمورَ كُلُّهـا بيد الله، مِمَّا يبعثُ الرجاء عند المسلمين في تغيير أَحوالهم إيماناً بوعدِ الله، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} {النور:55}.
وبهذا يكون المؤمن بين الرجاء والخوف، الرجاء بارتفاع الذلِّ عن الأمة، والخوف من بقائه بسبب أفعالنا المخالفة للشرع، مما يدعو المسلمين إلى ترك المخالفات.
الخامسة: في قوله صلى الله عليه وسلم: " حتى ترجعوا إلى دينكـم "، ولم يقل إلى صلاتكم، أو إلى حجكم وجهادكم، … فهذا كلُّه من الدين، وليس هو كلُّ الدين، فالدواءُ أعمُّ من أنْ يختصَّ بواحدٍ من ذلك.
فإن قيل: إنَّ الجهاد يرفع الذُلَّ عن الأمة، قلنا: نعم، ولكن ليس كلُّ قتالٍ، فالله عـز وجل لـم يُرِدْ مِنَّا قتالاً مطلقاً من غير قيدٍ أو وصفٍ أو شرطٍ ، وإنما طلب منا جهاداً شرعياً، ترتفـع به رايةُ التوحيد، جهاداً يُعَبِّدُ به الناس لرب العالمين، لا من أجل مصلحة دنيويـة أو عرقية أو قومية، أو للشجاعة والحمية .
عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ قَالَ :جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَالَ:" مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ "متفق عليه.
السادسة: هذا الرجوع إلى الدين يجب أن يكون شاملاً على جميع الجهات، عقيدةً وشريعةً، ومنهجاً وسلوكاً، من أعلى شُعَب الإيمان وهي التوحيد، إلى أدناها وهي إماطة الأذى عن الطريق، فالدين كلُّهُ لُبابٌ لا قشورَ فيه.
السابعة:يجب إعداد الأمة الإسلامية أفراداً وشعوباً للجهاد في سبيل الله، علماً وعملاً، لأنَّ الجهادَ هو ذروةُ سنام الإسلام.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله"، رواه الترمذي ،وقال:هذا حديث حسن صحيح.
فإذا قُطِعَ الرأسُ فلا حياةَ، وإذا كُسِرَ العمودُ فلا بناء، وإذا عُدِمَ السنامُ أو نقصَ فالجمل لا يموت، ولكنَّه يبقى باركاً في الأرض ضعيفاً هزيلاً ينتظرُ السباعَ العاديةَ أو سكينَ الجزَّار.
وههنا لفتةٌ في الحديث، وهو أنَّ ذروةَ السنام هي منتهى ما يكون من الجَمَل، وذلك بعد المرور بالرأس والقوائم والجسد، فلا بُدَّ من الإعداد الإيماني أولاً، ثم المادي ثانياً، لتحقيق الجهاد كما يحبه الله ورسوله ، فينبغي تكثيف الحلقات والدروس لإعداد هذه الأمة جهادياً علماً وعملاً، ويكون ذلك في الهواء الطلق ظاهراً للجميع من غير سرية ، لأنَّ أمتَنا أمةُ جهاد ، فنحن الآن لم نحقق الجهاد الدفاعي فضلاً عن الجهاد الطلبي، فيجب علينا التعاون في دفع العدو الذي صال وجال على أرضنا الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، مؤكدين قبل كل شي على العلم الذي هو أساس كل تغيير.
قال البقاعي في"نظم الدرر"12/128:" ذكرَ قصة موسى مع الخضر التي حاصلها أنها طواف في الأرض لطلب العلم عقبها بقصة من طاف الأرض لطلب الجهاد، وقدّم الأولى إشارة إلى علو درجة العلم لأنه أساس كل سعادة وقوام كل أمر". والذي طاف الأرض من أجل الجهاد هو ذو القرنين.
ويغلط من يقول: إن الحل لهذه الأمة هو الجهاد القتالي وحسب، بل لابد من العودة إلى الدين كلِّهِ تصفيةً وتربيةً، ومنه الجهاد في سبيل الله.
قال ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ في "صيد الخاطر"( ص54 ):" من أحب تصفية الأحوال فليجتهد في تصفية الأعمال، قال الله عز وجل :{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا } [الجن: 16]".