كثر الحديث عن النظام السياسي في الإسلام، وتتواصى جملة من الأطروحات الحديثة بفكرة مفادها أن النصوص الواردة في النظام السياسي الإسلامي نزر يسير، وأنها من قبيل القواعد العامة، وأن التفاصيل متروكة للناس يجتهدون فيها بحسب الزمان والمكان، وأن أنظمة الحكم في الإسلام هي في معظمها اجتهادات بشرية، وأن ما عمل به في عصر من العصور ليس ملزماً لمن بعده.
وتقارن بعض هذه الأطروحات بين مجال العبادات في الإسلام كالصلاة مثلاً، وبين المجال السياسي، وكيف جاءت النصوص بأدق التفاصيل عن شروط الصلاة وهيئاتها وأحكامها ونواقضها، بينما لا نجد في المجال السياسي ومجال الدولة والحكم إلا قواعد عامة كبرى.
ولي مع هذه الأطروحات وقفات:
1- قد لا نختلف في هذه المقدمة "العامة"، والفرق بين قدر التفصيل في نصوص العبادات ونصوص الدولة والشأن العام بيّن، والحكمة في ذلك ظاهرة، فلا إشكال في هذا الطرح العام، ولكن الخلاف يكمن في التفاصيل.
يبدأ حديث "النظام السياسي" عن طرق اختيار الولاة، وتداول السلطة، وآليات الشورى، والفصل بين السلطات، وأشباهها من المسائل التي لا يكاد يختلف أهل العلم في مرونتها وتكيفها مع الزمان والمكان والظرف. لكن لا يطول الأمر كثيراً حتى تُحشر تحت عباءة "النظام السياسي الذي يسع الاجتهاد فيه" مسائل ثابتةً بالنص، مثل فرض الجزية، وحد الردة، والولاية العامة للمرأة، وولاية الكافر على المسلم، وأمثالها!
والخوض في هذه المسائل ليس بحثاً في مسائل مسكوت عنها، ولكنه اجتهاد مع النص!
وليس مقصود هذا المقال أن ينصر حكماً معيناً في هذه المسائل، ولكن لأبين أن الجدل حولها لا علاقة له بالمقدمة، فالقول بأن النظام السياسي في الإسلام قليل التفاصيل كيف يفضي إلى أن نناقش عين المسائل التفصيلية القليلة التي جاءت بها النصوص!
2- يحملنا حسن الظن على الاعتقاد أن النتيجة التي يريد أصحاب هذه الأطروحات أن يصلوا إليها إنما حملهم عليها غيرتهم على حال الأمة، وتألمهم على مصابها، فكأنهم أرادوا أن يخذّلوا عنها بعض أعدائها بحذف هذه المسائل "المستفزة" لهم، وأن يمدوا الجسور ويقربوا المسافات مع شركاء الوطن ممن لا يدينون بدين الإسلام من الطوائف وأهل الملل الأخرى، أو لا يقرون بمرجعيته في التشريع وحركة المجتمع كالعلمانيين.
وغيرتهم هذه مشكورة، ولكن "كم من مريد للخير لا يصيبه". إن تخذيل الأعداء ومد الجسور مع أبناء الوطن الواحد لا يلزم -بل لا يجوز- أن يكون على حساب تبديل المعتقدات والأصول، وإنما تكون بالتوافق معهم على أمور عملية إجرائية تنصف جميع الأطراف. وفي ديننا والحمد لله - من خلال فقه الاستطاعة والموازنة بين المصالح والمفاسد- بحبوحة وسَعة لتحقيق التعايش مع الآخرين دون ظلم أو بغي أو إجحاف، والمسلمون إذا أعطوا العهود والمواثيق فهم أوفى الناس بها، لأن الوفاء بالعهد عندهم دين، فليهنأ حليفهم، ولا يخش غدراً، ولا يخف ظلماً ولا هضماً .
لقد عقد الرسول صلى الله عليه وسلم مع المشركين صلح الحديبية -وفيه شروط قد تبدو مجحفة بالمسلمين- فالتزم بها، وكان المشركون هم من نكث العهد، ولم يبدل-صلى الله عليه وسلم- لأجل الصلح معهم شيئاً من دينه، ولم يطلب منهم أن يغيّروا شيئاً من عقائدهم، بل حين رفضوا أن يكتب " محمد رسول الله" لأنهم لا يؤمنون بذلك، أجابهم رسماً في صحيفة الصلح، وقال لهم " إني رسول الله وإن كذبتموني".
إن محاولة "تأصيل" ما تمليه الظروف الواقعية من رخص وموازنات على أنه "الأصل" في الإسلام خطير جداً، لأن هذه الظروف كما أنها لم تكن موجودة في عصر سابق، فستزول في عصر لاحق، فهل نجعل أصول ديننا تبعاً للظرف والواقع، أم نحفظه ناصعاً صافياً كما أنزل، ويعمل الناس به في كل عصر على قدر وسعهم واستطاعتهم؟
3- أما إذا أصر أصحاب هذه الأطروحات على "تأصيل" آرائهم في مسائل الدولة والنظام السياسي على خلاف ما هو مستقر و مشتهر في مدارس الفقه الإسلامي، فليُعلم:
4- قد يزيًّن للبعض أنهم بهذا الخطاب يحسنون إلى " الأقليات والطوائف" ولا يستعدون العالم، وهم في ذلك واهمون، فالإسلاميون في بعض البلدان قدموا مثل هذا الخطاب "اللين المعتدل"، فهل رضي عنهم أولئك؟
ثم لنفرض جدلاً أن هذا قد حصل، أليس ذات " الخطاب المعتدل" الذي يرضي أولئك يثير سواد الأمة، فينفضوا عن أصحابه؟
فهل من السياسة والواقعية أن نتبنى خطاباً يقرب إلينا القليل من الأباعد ويبعد عنا الكثير من الأقارب؟ أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ بل إنه لو قيل إن هذا هو مراد خصومنا: دك الأسفين بين النخب وسواد الأمة، لما كان بعيداً ....