الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأصلي وأسلمُ على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد :
الدعوةُ إلى الله هي وظيفة الرسل وأتباعهم إلى يوم القيامة، وفيها الأجر العظيم والدائم، وهي أحسن القول إذا اقترنت مع العمل الصالح، والدعوة إلى الله من أسباب حصول الخيرية لهذه الأمة، وهي من أعظم الجهاد في سبيل الله.
قال ابن القيم في "مفتاح دار السعادة"(1 /70):" فقوام الدين بالعلم والجهاد، ولهذا كان الجهاد نوعين :جهادٌ باليد والسنان وهذا المشارك فيه كثير، والثاني :الجهادُ بالحجة والبيان، وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة وهو أفضل الجهادين لعظم منفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه ".
والدعوة إلى الله لها معالمها وأصولها التي بيَّنها الله عزَّ وجلَّ في كتابه ،والنبي صلى الله عليه وسلم في سنته وسيرته، وبالتالي ليست خاضعة لأذواق الناس وأهوائهم وتجاربهم ومصالحهم غير المعتبرة .
قال تعالى : {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].
فإليك بعض المعالم أيها الداعي إلى الله والتي ينبغي الوقوف عندما تأملاً وتفهماً وتطبيقاً حتى تؤتي الدعوة ثمارها المرجوة منها:
1- كلُّ دعوة سواء قام بها الفرد أو الجماعة، لا تقوم على أصل الأصول، والكلمة الطيبة، كلمة لا إله إلا الله، هي دعوة باطلةٌ فاشلةٌ، لأنَّ التوحيد هو أول واجب وآخر واجب، ولا ينفك المسلم في لحظة من حياته عن التوحيد، والتوحيد هو أساس دعوة الأنبياء كلهم، قال تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
قال ابن القيم في "الصواعق المرسلة" (1/151- 152):" فأساس دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم معرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله ثم يتبع ذلك أصلان عظيمان:
أحدهما : تعريف الطريق الموصلة إليه وهي شريعته المتضمنة لأمره ونهيه.
الثاني : تعريف السالكين ما لهم بعد الوصول إليه من النعيم الذي لا ينفد ،وقرة العين التي لا تنقطع.
وهذان الأصلان تابعان للأصل الأول ومبنيان عليه، فأعرف الناس بالله أتبعهم للطريق الموصل إليه وأعرفهم بحال السالكين عند القدوم عليه ".
ولما كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم مرتكزة على هذا الأصل العظيم أثمرت، وما زالت تُثمر على أيدي أتباعهم من الطائفة المنصورة، بخلاف الدعوات التي لم تقم على هذا الأصل قديما وحديثا فإنها عقيمة، وإن أثمرت لا تُثمر إلا الضلال والانحراف والشقاق والنفاق، ثم الانتكاسات .
2- وينبني على ذلك أن كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة، لأنَّ توحيد الكلمة هو ثمرة لكلمة التوحيد، وليس المراد هو تجميع الناس وحسب، فقد ذمَّ الله اليهود المجتمعين بأجسادهم المتفرقين بقلوبهم، كما في قوله تعالى:{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14].
وإنما أمر الله بالتجمع على التوحيد كما قال تعالى : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } [آل عمران: 103].
3- أهمية الإخلاص في الدعوة إلى الله، لأنَّ بعض الداعين قد يدعو لنفسه أو حزبه أو فصيله أوبلده. ولأهمية الإخلاص ذكره الله في مقام الدعوة إليه ، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [يوسف: 108] , وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [فصلت: 33].
4- أهمية البصيرة في الدعوة إلى الله، والبصيرة هي الحجة الواضحة والبرهان المتيقن، بالأدلة والبراهين الساطعة، قال ابن القيم رحمه الله في"مدارج السالكين"(2/482) : " والبصيرة هي أعلى درجات العلم التي تكون نسبة العلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر، وهذه الخصيصة التي اختص بها الصحابة عن سائر الأمة ثم المخلصين من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أعلى درجات العلماء".
وقد اشتكى الألوسي في زمانه الدعاة على غير بصيرة ، فقال في تفسيره "روح المعاني" عند قوله تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108]، قال:" وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي للداعي إلى الله تعالى أن يكون عارفا بطريق الإيصال إليه سبحانه عالما بما يجب له تعالى وما يجوز وما يمتنع عليه جل شأنه، والدعاة إلى الله تعالى اليوم من هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم إلى الإرشاد بزعمهم أجهل من حمار الحكيم توما، وهم لعمري في ضلالة مدلهمة ومهامه(مفازة) يحار فيها الخريت وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ولبئس ما كانوا يصنعون".
والحكيم توما يضربون فيه المثل بالجهل المركب، قال الألوسي في"روح المعاني" (11/ 61):"
فإنَّ الجهل المركب يمنع إدراك الحق ويوجب تكذيب المحق، ومن هنا قالوا: هو شر من الجهل البسيط، وما ألطف ما قيل
قال حمار الحكيم توما .... لو أنصفوني لكنت أركب.
لأنني جاهل بسيط .... وصاحبي جاهلٌ مركب .
5- أهمية العمل الصالح للداعي إلى الله، فإنَّ العمل الصالح سببٌ للتوفيق والتثبيت، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 66 - 68].
ولأهمية العمل الصالح فقد قرنه الله في مقام مدح الدعوة إلى الله وذلك عندما قال : {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] .
قال قتادة :"هذا عبد صدّق قولَه عملُه، ومولَجه مخرجُه، وسرَّه علانيته، وشاهده مغيبه، وإن المنافق عبد خالف قوله عمله، ومولجه مخرجه، وسرَّه علانيته، وشاهده مغيبه".
وترك العمل الصالح يؤدي إلى العداوة والبغضاء، قال شيخ الإسلام في" الفتاوى" 1/14-15
: " فظهر أن سبب الاجتماع والألفة جمع الدين والعمل به كله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما أمر به باطناً وظاهراً، وسبب الفرقة ترك حظ مما أمر العبد به، والبغي بينهم ".
6- أهمية معرفة مراتب الناس في قبولهم للدعوة، قال تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [النحل: 125].
والحكمة هي العلم بالحق والعمل به، قال شيخ الإسلام في"الرد على المنطقيين" ص468 : " فإنَّ الحكمة هي العلم بالحق والعمل به، فالنوع الأكمل من الناس من يعرف الحق ويعمل به، فيدعون بالحكمة، والثاني من يعرف الحق، لكن تخالفه نفسه، فهذا يوعظ بالموعظة الحسنة، ...فإذا عارض الحق معارض جودل بالتي هي أحسن ".
ومن الدعوة بالحكمة صرف الناس إلى ما ينفعهم , وذلك باتباع سيرة وطريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم -رحمه الله- كلمة ذهبية في"فوائد الفوائد" ص64: " فلو سلك الدعاة المسلك الذي دعا الله ورسوله به الناس إليه، لصلح العالم لا فساد معه".
7- أهمية الصبر مع المراجعة، فالدعوة لا بدَّ لها من الصبر على الأذى وطول الطريق، قال تعالى:{يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] , وإذا أُصيب المسلم في طريقه، لا بدّ أن يصبرَ ثم يراجع نفسه، كي يعرف سبب البلاء , لأن المسلم ما يصيبه من مصيبة إلا من خلال تقصيره، فالواجبُ الصبر والسيرُ في الطريق دون يأس ولا قنوطٍ .
8- المسلمُ الحقُّ هو الذي يبينُ الحقَّ ويرحمُ الخلقَ، فبعض الداعين يبينون الحق ولكن بطريقة فظة غليظة مما يؤدي إلى نفور الناس منه كما قال تعالى:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وبعض الداعين يسلكون سبيل الرحمة من غير بيان للحق بل يدعون إلى الباطل، وهذا فيه ضياع لحق الشريعة كما أن الأول قد ضيع حق الناس.
هذا والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.