أنزل اللهُ كتابَه تبياناً لكلِّ شيء، وتركَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على المحجّة البيضاء، فمَن كان إمامَه كتابُ الله وسنّةُ رسوله فلن يضلّ أبداً.
والنّصوصُ الشّرعية مِن الكتاب والسنّة يبيّن بعضُها بعضاً، ويشرح بعضُها بعضاً، وبمجموعها اكتمل الدّينُ، وتمّت نعمةُ الله علينا به.
وقد ابتُلي أهلُ الإسلام على مرّ العصور بأناسٍ وطوائفَ لم يستوعبوا الشّرعَ بتمامه، أخذوا بعضه دون بعضٍ، فأنتجوا فقهاً مبتوراً، ليس مِن الفقه في شيءٍ !
والبَتْرُ – كما تعرفه معاجم اللغة-: اسْتِئْصالُ الشيء قطعاً. وبَتَرْتُ الشيءَ بَتْراً: قطعته قبل الإِتمام.
وضررُ هذا البتر لا يقتصر على خطأ النّتيجة وضلالها، بل يصل إلى تشويه الحقِّ، والإساءةِ إلى الدّين.
أرأيت لو أتيتَ رجلاً سوياً حسن الخلقة فبترتَ يدَه عن جسده، أرأيت كم يكون منظرُها مشوهاً، بينما كانت جميلة بهية حين كانت في موضعها مِن الجسد؟ وكذلك بترُ النّصوص يورث أفهاماً خطأً، ويعود على الدّين بالتّشويه.
وبترُ النّصوص له صورٌ عدّة بعضُها أخفى مِن بعضٍ.
فمنها :بترُ النّصّ الواحد، على منوالِ { فويلٌ للمصلّين}، ثمّ يقف !
ومِن أمثلته مَن يعُدُّ قولَ الله تعالى : { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النّساء ولو حرصتم } قاضياً على التعدد، حيث شرط الله التعدد بالعدل حين قال { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة}، وهنا قد نفى استطاعة العدل !! ولو أتمّ الآيةَ { فلا تميلوا كلَّ الميل فتذروها كالمعلَّقة} لانتقض قولُه.
وهذا النوعُ مِن البتر ظاهر البطلان والضلال، وإنّما يأتي مِن العوام وممَن في قلوبهم زيغ، ويحرفون الكلم عن مواضعه عمداً.
ومنها :عزل النّصّ عن النّصوص الأخرى المتعلقة بتوضيح جوانب المسألة ، وهذا مسلكُ أهل الأهواء وديدنهم، ومثاله قولُ الخوارج فيما أنكروا على علي رضي الله عنه: "وحكّم الرجالَ في دين اللهِ، والله يقول { إن الحكمُ إلا لله }"، ففضلاً عن فساد فهمهم للآية فقد تجاهلوا النّصوص الكثيرة التي تنسب الحكمَ إلى الرّجال، لذلك لم يزد ابنُ عباسٍ – رضي الله عنهما – عن سرد بعض تلك النصوص : {يحكم به ذوا عدلٍ منكم }، { فابعثوا حكَماً مِن أهله وحكَماَ مِن أهلها } – فأسكتهم ولم يحيروا جواباً .
وهذا مسلك أهل البدع عموماً؛ فالخوارجُ وقفوا على نصوص الوعيد، وتركوا نصوص الوعد، وقابلتهم المرجئة فوقفوا على نصوص الوعد، وتركوا نصوص الوعيد.
والقدريةُ وقفوا على نصوص إرادة الإنسان، وتركوا النصوصَ الدّالة على عموم الخلق والمشيئة الإلهية، فجعلوا الإنسانَ مستقلاً بفعله عن خلق الله ومشيئته، وقابلتهم الجبرية فأثبتوا نصوصَ مشيئة الله، وعطّلوا نصوصَ اختيار الإنسان، فجعلوه مجبراً على ما يفعل.
أمّا الصّورة الثالثة- وهي أخفاها وأدقّها- فقطع النصّ عن السياق الذي جاء فيه، فيَظنّ الإنسانُ نفسَه عاملاً بالدّليل، متّبعاً للحقّ، وهو ليس كذلك ..
وسأضرب لذلك مثالاً للتوضيح، ثم أنتقل إلى تطبيقين عمليين هما ما سقت المقالَ لأجله.
انظر إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم " يؤمّ القومَ أقرؤهم لكتاب الله "، فإن جاءنا رجلٌ يخلّ بواجبات الصّلاة، أو متلبسٌ بفجور مجاهرٌ به، أو فيه بدعةٌ مغلّظةٌ منكرة، أفنقدّمه للصّلاة على مَن سلم مِن هذه الآفات لأجل تقدّمه عليه في القراءة ؟!
إنّ مَن يقول بهذا قد أخطأ خطأً بيّناً، بل وشوّه مراد الشرع في هذا الأمر؛ إذ أخرجه عن سياقه.
فحديثُ "يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب الله" تضمّن أمراً مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابته، ولأمته مِن بعدهم، ومعلومٌ مِن نصوص الشّريعةِ وقواعدها أنهم لا يقدّمون لصلاتهم إلا مَن يرتضون صلاته ودينه، ولم يكن بين الصّحابة تحديداً مَن يُتّهم في شيء مِن ذلك، لكنّهم يفاوتون فيما أوتوا مِن القرآن، فيرشد الرسول – في هذا السياق- إلى تقديم أقرئهم لكتاب الله .
فمَن بتر الحديث عن سياقه، وأراد أن يقدّم الأقرأ للقرآن على عُجره وبُجره في صلاته وعقيدته فلم يفهم مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإنّ تغير السياق يغير حقيقة المسألة فيتغير حكمها. أرأيتم كيف لم يطبّق عمرُ – رضي الله عنه - حدّ السّرقة في عام الرمادة، حين اختلف السياق الذي شرع فيه القطع؟
وكيف أسقط سهم المؤلفة قلوبهم عند ظهور الإسلام، كما روى البيهقي في السنن الكبرى أنّ عمر رضي الله عنه قال لعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس: " إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألّفكما والإسلامُ يومئذ ذليلٌ، وإنّ الله قد أعزّ الإسلام فاذهبا.."، فانظر كيف استدل عمر على فعله بتغير السياق!
حضرتني هذه الأمثلة وأنا أتأمل مسألتين دار حولهما الجدل في الساحة العلمية السورية، وكانتا سبباً للشقاق والفرقة.
الأولى :تقنين الأحكام القضائية:
فالخلاف في تقنين الأحكام القضائية بين مَن يجيزه ومَن يمنعه ليس وليدَ اليوم، بل هو قديم .
وليس المقال في ذكر أدلّة الطرفين والترجيح بينهما، ولكن في توضيح أنّ سياق هذا الخلاف لا يشبه سياقَ الحالة السورية.
فالعلماءُ يتناظرون في هذه المسألة وهم يفترضون وجودَ قضاةٍ أكفاء مؤهّلين تتحقّق فيهم الشروط المعتبرة في القاضي، فيأتي الخلافُ هل يُترك الأمر لهم في الرجوع إلى مصادر الشريعة الأصلية، وتوظيف كفاءتهم وأهليتهم لإصدار الأحكام القضائية، أم تجعل لهم قواعد وقوانين تعزز الاطّراد والانسجام بين أحكام القضاة؟ وهذا خلاف سائغٌ، ولكلِّ طرف حجتُه.
أمّا حين لا يكون هناك قضاةٌ مؤهلون، وإنما قضاةُ " طوارئ"، هم في أحسن أحوالهم مِن خريجي الشّريعة الذين انتدبوا أنفسَهم لسدّ هذا الواجب الكفائي بحسب الوسع، فحتى مانعو التّقنين لا يجري قولهم، ولا ينسحب على هذا السّياق؛ إذ لا شكّ أنّ إلزام هؤلاء بموادّ مقننة – مستمدّة مِن الشريعة- أسلمُ وأصوبُ مِن أن يُترك كلٌّ لاجتهاده، وهو لا يملك أداةَ الاجتهاد، والقدرة على الاستنباط.
بل لا نكون قد أبعدنا عن الصّواب إنْ قلنا : هو الواجبُ الذي لا يجوز غيره.
واستصحابُ الخلاف في هذه المسألة في الحالة السورية الراهنة بترٌ للمسألة عن سياقها الذي عُدَّت فيه خلافية.
المسألة الثانية :هل الشّورى ملزمة أو معلمة؟
والخلافُ في هذه المسألة مشهور، ولكل فريق أدلته. لكن ما هو السياق الذي يبحث فيه حُكم الشورى؟
السياق هو في مشاورة ولي الأمر لغيره، ولعل القارئ يعلم أنّ اختيارَ وليّ الأمر في الإسلام يتمّ وفق منظومةٍ متكاملةٍ تراعى فيها الصّفات والشّروط المعتبرة في الحاكم، واتفاق أهل الحلّ والعقد عليه، وبيعة الناس له، حتى جعلوه أهلاً للاجتهاد في أمور العامة، ولذلك كان أقوى ما احتج به مَن يرى الشّورى معلمة بأنّه لا يجوز إلزامُ المجتهد باجتهاد غيره.
أما حين تختلّ هذه المنظومة، فيتأمّر على المسلمين مَن جاءت به الظّروف لا الاختيار، وليس فيه شروط الوالي، ولم يأت به أهل الحل والعقد، ولا عن بيعة، وليس من أهل الاجتهاد، فضلاً عن تعقّد الاختصاصات في العصر الراهن حتى لا يستطيع أحدٌ أن يحيط بها، ولا يقدر الحاكم بمفرده على القيام بالواجب الشرعي مِن اتخاذ القرار المحقّق لمصلحة الأمة، فهل هذا هو السياق الذي اختلف فيه أهلُ العلم بين الإلزام والإعلام؟!
فكيف لو كان هذا الرئيس أو الزعيم ليس في مقام ولي الأمر ابتداء؟ إن عدم الإلزام بالشورى حينها لن يكون مآله إلا انفراط عقد الجماعة وتفرقها وتشظيها.
فبتر النصوص على أي وجه كان، لا يورث إلا الخطأ والضلال.
وإذا كان هذا أثر الفقه المبتور على الأفهام والعقول، فأثره على القلوب أشد، يقول تعالى{ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلى يوم القيامة}، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية معلقاً على الآية: "فَمَتَى تَرَكَ النَّاسُ بَعْضَ مَاأَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ وَقَعَتْ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ".