ليست هذه المقالة لأحد من أهل سوريا، فإن أي واحد منهم يستطيع أن يكتب مثلها أو أحسن منها. إنها لإخواننا العرب الذين ما يزالون يسألوننا بعد سنة: لماذا ثرتم على نظام الأسد؟ وما هي قصة هذه الثورة؟ فيا أيها السوريون: لا تضيّعوا وقتكم بقراءتها، ولكن أَقْرئوها أولئك السائلين. أما الذين سيقرؤون هذه المقالة من غير السوريين فأرجو أن تساعدهم على تحسين فهمهم لمحنتنا في سوريا، على أني لا أعدهم بأن يفهموها الفهم الكامل، فليس من رأى كمن سمع ولا يُغني بيان عن عِيان.
-1-
يُسمّون سوريا جمهورية، والجمهوريات يُنتخَب رؤساؤها بالاقتراع العام ويتغيرون كل بضع سنوات، فما لرؤساء سوريا يولدون من أرحام زوجات رؤسائها، وما لهم لا يتغيرون؟
استولى حزب البعث على الحكم في سوريا بانقلاب دموي في آذار (مارس) عام 1963م، ولكنه لم يكن انقلابَ حزب على حكومة بمقدار ما كان سطواً قام به فردٌ بمعونة عصابة، ذلك الفرد اسمه حافظ الأسد. لقد كان واحداً من جماعة الانقلابيين في الظاهر، ولكنه كان محرك الانقلاب في الحقيقة، وخلال سنوات قلائل استطاع أن يصفّي رفاقه واحداً بعد واحد، ثم انقلب على رفيق دربه صلاح جديد أواخر عام 1970م، وبعدها بشهور أعلن نفسه حاكماً ورئيساً للبلاد، في آذار (مارس) عام 1971م.
ثلاثون سنة من أعجف سنوات سوريا في تاريخها كله أمضتها تحت حكم حافظ الأسد، وحينما مات بعد ذلك في منتصف عام 2000م ورث ابنه بشار الحكمَ وكأنه ملك يَعْقُب ملكاً، فاقترح بعض الإعلاميين الظرفاء أن تغير سوريا اسمها إلى "الجملوكية العربية السورية"! ولما كان بشار دون السن القانونية التي ينصّ عليها الدستور فقد كان الحل واحداً من اثنين: البحث عن رئيس آخر أو تعديل الدستور، ولأن سوريا ليس فيها -بطولها وعرضها- من يصلح لقيادتها سوى بشار الأسد فقد كان تعديل الدستور هو أهون الحلّين، ولأن مجلس الشعب السوري يضم كوكبة من أفضل الكفاءات الدستورية في الدنيا فقد نجح في تعديل الدستور خلال خمس دقائق. وصار ولي العهد ملكاً!
-2-
منذ انقلاب البعث المشؤوم عام 1963م خضعت سوريا للحكم بقانون الطوارئ. ثمانية وأربعون عاماً عاشها الشعب السوري في ضَنْك وبؤس تحت سلطة ذلك القانون الجائر، ضاعت فيها حريته وضاعت كرامته وعاش في الكرب والهوان. الدولة كلها اختُزِلت في العصابة الحاكمة، العائلةِ وحواشيها: المؤسساتُ في يدها والاقتصادُ في جيبها والأمن والجيش تحت سيطرتها… عدة مئات من الأفراد يملكون البلد وما في البلد ويتحكمون بعشرين مليوناً من الناس. عندما أراد أحد المؤلفين أن يؤرخ لسوريا في ذلك العهد البائس لم يجد لكتابه عنواناً أفضل من "مزرعة الأسد"، وأحسن وأصاب؛ لقد صارت سوريا في عهد الأسد مزرعة، والسوريون فيها أقل قيمةً من البهائم وأقل كرامةً من الحيوانات!
منذ تسعة وأربعين عاماً يولد السوري -حينما يولد- ليزيد عدد الأسرى والمستعبَدين واحداً، يولد ليدخل إلى مملكة الخوف والذل والهوان، حيث لا كرامةَ ولا أمانَ للإنسان. الأمان والكرامة ألفاظ تعرفون معانيها في بلدانكم (بتفاوت بين بلد وبلد)، أما السوري فإنه كان يسمع عنها وكأنه يقرأ قصة من قصص الخيال.
في كل مكان في الدنيا يرضع الأطفال الحليب، إلا في سوريا، فإنهم يرضعون الخوف والخنوع. يقال للطفل من يوم ينطق الطفل: إياك أن تسأل عن شيء أو تعترض على شيء، إياك أن تشير إلى الأمن أو تتلفظ باسم المخابرات، إياك أن تذكر على لسانك اسم الرئيس إلا مسبوقاً بالتبجيل ومتبوعاً بالتبجيل.
-3-
في سوريا أصنام وصور للرئيس لو وُزّعت على أهل الأرض لكفتهم. تمشي في الطرق فتجد صنماً بين كل صنم وصنم، وصورة فوق كل صورة وتحت كل صورة. لقد اختزل القوم في رئيسهم تاريخَ سوريا كله، فهي لم تكن قبل الأسد إلا هَمَلاً ونَسْياً، وألّهوه أو رفعوه إلى مرتبة قريبة من الآلهة فجعلوه قائد الأبد، وكرسوا آلة الإعلام وجهاز التعليم كله ليزرعوا في عقول الناس تلك الفِرْية العظيمة: الأسدان -الابن والأب- أعظم العظماء وأحكم الحكماء على مر الزمان، وهما هبة الله لسوريا، آثرها بهما من دون العالمين.
وإنهم لَيُجيزون لمن شاء أن يهجو الله -تبارك الله في عليائه- ولا يجيزون أن يُذكَر إلهُهم المزيف بسوء. ذلك ما كان قبل أن ينكشف الستر ويظهر الخَبيء، فلما انكشف ظهر ما كانوا يُخْفون، وإذا بهم يسجدون لصوره ويرغمون أسرى الثورة على السجود، بل إنهم ليعذبونهم ويستنطقونهم حتى ينطق المعذَّبون بالكفر البواح: "لا إله إلا بشار". تعالى الله عمّا يفترون، ولعنة الله على بشار وعلى عَبَدة بشار وزبانية بشار أجمعين.
لقد كان أول ما هتف به شبابُ ثورة الغضب: "حرية، حرية" و"الشعب السوري لا يُذَل". لن يعرف شعبٌ عربي أبداً ما معنى هذا الهُتاف لأن أيّ شعب عربي لم يفقد حريته ولم يفقد كرامته كما فقدها الشعب السوري، ولا حتى الشعب الفلسطيني. أقسم بالله إن الفلسطيني عاش تحت الاحتلال اليهودي الصهيوني أكثرَ حريةً وأوفرَ كرامةً من السوري الذي عاش تحت الاحتلال البعثي الأسدي في سوريا في السنوات الأربعين الماضيات.
-4-
في سوريا كل عنصر مخابرات مَلِكٌ ومالِك، وكل أفراد الشعب رعايا ومماليك. لمّا سطا الأسد الأب على البلد أباحها لمَلَئه وأعوانه، قال لهم: هذه سوريا مباحة لكم فافعلوا فيها ما تشاؤون، على أن لا يقترب مني أحد أو ينافسني في السلطان فإني لا أرحمه وأذيقه أشدّ العذاب. منذ تلك اللحظة ملكت أجهزةُ الأمن البلادَ بصك الاستعباد، وصار الناس مُلكاً لها تتصرف فيهم كما تشاء: تنتزع ممن تشاء منهم حرّيتَه ولا يسألها أحد، وكرامتَه فلا يحاسبها أحد، وحياتَه فلا يعاقبها أحد. الكبار والصغار، والرجال والنساء، والعرب والكرد، والمسلمون والمسيحيون، كل واحد حمل هويةً سوريةً فكأنما حمل صكّ عبودية، وصار الكل مماليكَ وأجهزةُ الأمن هم المالكون. ويا ليتهم يتصرفون في مماليكهم كما يتصرف راعي البهائم في البهائم، بل هم أذل وأهون، وهم أدنى قيمةً من البهائم والحيوانات.
في سوريا يحق لعناصر الأمن أن يقتحموا بيتك في أي وقت من ليل أو نهار، ويجرّوك أو يجرّوا ولدك أو زوجتك إلى حيث يريدون. لا يحق لك أن تعترض ولا يحق لأحد من أهل بيتك أن يسأل، ولن يعرف المعتقَل في أي شيء يُعتقَل، وربما قُتل من بعد ولا يعرف في أي شيء يُقتَل، أما أهله فقد تمضي السنوات ولا يعرفون أين مكانه ولا يعرفون مصيره. إنهم يتمنّون أولاً أن يعود، ثم يتمنون أن يزوروه، ثم يتمنّون أن يَرَوه ولو خمس دقائق، ثم يتمنون أن يسمعوا عنه خبراً، أي خبر… وما تزال أمانيّهم تتضاءل حتى تُختزَل في أُمنيّة واحدة: أن يعرفوا أفي الأحياء هو أم في الأموات!
لقد اعتاد أهل سوريا أن يفقدوا أبناءهم صامتين، وأن ييأسوا من معتقَليهم صامتين، وأن يدفنوا موتاهم صامتين. هل أتاكم خبر سجن تدمر، "باستيل" سوريا الرهيب؟ استنطِقوا الصحراء الممتدة خلفه تُنْبِئكم كم غُيِّبَ في بطنها من أبرياء كانوا من أفضل الناس وأطهر الناس، لن تَعُدّوهم -لو عددتموهم- عشرات ومئات، بل ألوفاً وعشرات ألوف، عليهم رحمة الله.
-5-
فجأة تفجر العالم العربي بالثورات؛ لقد بدأ "الربيع". خرج التونسيون إلى الشوارع (17 /12 /2010)، ثم المصريون (25 /1 /2011)، ثم اليمنيون (11 /2 /2011) والليبيون (17 /2 /2011)، وبدأ الناس يتساءلون: إن السوريين أَولى العرب بالثورة لسوء حالهم ولمبلغ إجرام نظامهم، فهل تراهم يثورون؟ اختلف الناس، ولكن الأكثرين حسموا الأمر: لا يمكن أن يثور السوريون، فإنهم وإن يكونوا الأحوجَ إلى الحرية إلا أنهم الأقلّ قدرة على المطالبة بها، لأن نظامهم هو الأسوأ والأكثر إجراماً على ظهر الأرض.
مع بداية شهر شباط (فبراير) ظهرت بعض الدعوات الخجولة للتظاهر في حلب ودمشق، وحُدّدت عدة مواعيد لم تلقَ تجاوباً كافياً، فأحسّ منظّموها بالفشل والإحباط. لكن الناس يريدون والله يريد، والله يقضي ما يريد. لقد قدّرَ الله ودبّرَ ما عجز عن تقديره وتدبيره البشر، ففي السابع عشر من شباط اعتدى شرطي من شرطة العاصمة على أحد تجارها في سوق "الحريقة" العريق وأهانه وضربه، فاشتعل السوق في مظاهرة عفوية وتجمعت -بلا سابق تدبير ولا تخطيط- أولُ مظاهرة في سوريا خلال نصف قرن إلا سنتين! وسرعان ما تجمع الآلاف وبدؤوا بالهتاف الشهير: "الشعب السوري لا يُذَل"، حتى وصل وزير الداخلية بنفسه لاحتواء الموقف، وانتشر "الشبّيحة" والأمن فاخترقوا المظاهرة وسرقوها من أصحابها وراحوا يهتفون: "الله، سوريا، بشار وبَس".
مع أن المظاهرة لم تكن ذات شأن بالقياس إلى ما رأيناه في الشهور اللاحقة، إلا أنها كانت حادثة هائلة في نظر السوريين، فلأول مرة اجتمع عدد كبير منهم في تجمع غاضب ضد رمز من رموز النظام، ولأول مرة تحدثوا عن الذل وعن الكرامة وعن الشعب، وهي كلها ألفاظ لا يعرفونها لأنهم فقدوا الإحساس بأنفسهم منذ دهر، وسُلِبوا الكرامة حتى نَسُوا أن من حقهم أن يعيشوا بشراً مكرَّمين. ورُفع مقطع مصوَّر للمظاهرة على اليوتيوب وانتشرت أخبارها انتشار النار في مستودع أخشاب، فما مرّ أسبوع حتى تجاوزت مشاهداته مئةَ ألف أو تزيد.
-6-
لقد اشتعلت النار في الفتيل. لم يرَ المراقبون فوق الأرض الكثير، ولكن الفتيل مضى يشتعل تحت الأرض وتمتد شعلته يوماً بعد يوم. بعد خمسة أيام اجتمعت مظاهرةٌ صغيرة أمام السفارة الليبية تنديداً بالقمع الدموي الذي يلقاه أهلنا في ليبيا في ثورتهم العظيمة على مجرمها الكبير، القذافي (البائد). لم تصمد المظاهرة الصغيرة طويلاً فقد فرّقها الأمن بعنف، وعندما تكررت في اليوم التالي تعرض المشاركون فيها إلى الضرب والسحل والاعتقال.
قبل انتهاء الشهر بأيام وقعت الحادثة التي قُدِّر لها أن تصبح مَعْلماً من معالم الثورة وواحدة من حوادث التاريخ. خطّ صبيةٌ في درعا على الحيطان عبارات تعلّموها من جيرانهم الذين عاشوا ربيع العرب؛ كتبوا: "الشعب يريد إسقاط النظام". هل علمتم ما درعا؟ عاصمة حوران، أرض البطولات والمَكرُمات التي أنجبت بعضاً من أكابر علماء الأمة، كالنووي وابن كثير، وعلى أرضها تفجرت الثورة السورية الكبرى أيام الفرنسيين.
تلك الحادثة الصغيرة وَلّدت ثورة. بضعة عشر صبياً لم يبلغ أكبرهم الخامسة عشرة جُمعوا من بيوتهم بليل وسيقوا إلى الاعتقال وتعرضوا لتعذيب يعجز عن تحمله الكبار، حُرقت أجسامهم وقُلعت أظافرهم وضُربوا وعُذّبوا أشدّ العذاب، ولمّا ألَحّ آباؤهم على مسؤول الأمن السياسي في درعا أن يطلقهم أجابهم بالجواب البذيء الذي انتشر واشتهر وصار معروفاً في كل مكان، قال: انسوهم وأنجبوا غيرهم، أو أرسلوا نساءكم نحمّلهنّ بالنيابة عنكم إن كنتم عاجزين!
إن الحر يصبر على الضيم زماناً ولكنه لا يصبر صبر الأبد، ولقد صبر هذا الشعب الأبيّ الكريم حتى جَفّ بحر الصبر، والبارود إذا مسّته النار كان الانفجار. لقد كانت هِمَم رجال درعا وقلوبهم باروداً وكانت كلمات ذلك المسؤول الفاجر هي النار، فثَمّ كان الانفجار.
-7-
انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية دعوةٌ إلى التظاهر في المدن السورية يوم الثلاثاء الخامس عشر من آذار (مارس). خرجت في ذلك اليوم مظاهرات صغيرة في دمشق وحلب ودرعا ودير الزور، وهتف المتظاهرون: "وينك يا سوري وينك؟"، واقتبسوا من إخوانهم الذين سبقوهم في مصر الهتافَ الأشهر: "سلميّة، سلمية". في اليوم التالي تظاهر نحو مئتَي شاب وفتاة في وسط دمشق واعتصموا أمام وزارة الداخلية مطالبين بالحرية وبإجراء إصلاحات سياسية والإفراج عن المعتقلين السياسيين، وانتهت المظاهرة الصغيرة حينما هاجمها مئات من عناصر الأمن فضربوا المشاركين بالهراوات واعتقلوا عدداً منهم، وسحلوا البنات من شعورهن إلى حافلات الاعتقال!
يوم الجمعة، الثامن عشر من آذار، خرجت المظاهرات في عدة مدن في سوريا، وكانت أكبرها تلك التي خرجت في درعا. لقد كانت درعا فوق بركان تغلي حِمَمُه ويشرف على الانفجار، كان الغضب قد بلغ غايته بعد اعتقال الأطفال وبعدما كان من مسؤول الأمن السياسي ما كان. كانت النار توشك أن تندلع لا ينقصها إلا الزيت، وقد قدم النظام هذه الخدمة فصبّ الزيتَ على النار؛ استقبل المظاهرات بالرصاص الحي فسقط أربعة شهداء، ذلك كان الزيت وقد صُبَّ على النار فاندلعت وبدأت بالانتشار، اشتعلت درعا ومعها حوران.
يوم السبت شيّعت درعا الشهداء وثار البركان الحوراني. وجّه الشيخ أحمد الصياصنة من درعا نداء للشعب السوري: "صار التظاهر منذ اليوم فرض عين على كل سوري قادر، وأيّ خذلان هو خيانة لدماء الشهداء". هدّد مجرمو الأمن الشيخَ وطلبوا منه تهدئة المتظاهرين، ولمّا رفض ضربوه وأهانوه. لم يدركوا أن البركان المتفجّر لا يقدر على وقف انفجاره الشيخُ ولا غيرُه من الناس؛ متى كان لإنسان أن يمنع ثورة البركان؟
في اليوم التالي، الأحد 20 آذار (مارس) تدفقت جموع هائلة من مدن وقرى حوران على درعا وهي تنادي: "الفزعة الفزعة يا حوران"، وحاول بعض المسؤولين تهدئة الجموع بلا فائدة، وارتفعت أصوات المتظاهرين الثائرين مطالِبةً بإعدام مدير الأمن السياسي. لأول مرة منذ زمن طويل طالبت الجماهير علناً بإعدام مسؤول فاسد، ولأول مرة منذ أربعين عاماً هتفت الجماهير باسم الرئيس، ليس "قائداً إلى الأبد" ولا "نفديك بالروح والدم" وأمثالها من هاتيك الترّهات؛ لقد كان الهتاف الذي زلزل أرض حوران وارتفع عالياً في جوّ السماء هو: "بشار بَرّة بَرّة، سوريا حُرّة حرّة". لقد انكسر الوهم أخيراً وخرج المارد من القمقم!
في ذلك اليوم المشهود انكسر أيضاً واحدٌ من أكبر الأصنام في العالم العربي والإسلامي. خطب الأمين العام لما يسمى "حزب الله"، حسن نصر الله، فقال: "الأنظمة التي على شاكلة نظام حسني مبارك إذا ثارت عليها شعوبها فنحن معها، لكن عندما يكون هناك نظام ممانع ويحصل فيه مشاكل فالموضوع مختلف، سنقف معهم ونقول عالجوا أموركم بينكم". بعد خطاب حسن نصر الله أحرق المتظاهرون في درعا صوره وهم يهتفون: "نحن أيضاً مضطهدون ومظلومون". سقط نصر الله وسقط حزب الله، ويوشك أن تسقط إيران وراءهما بعد أسابيع قلائل؛ لقد احترق المشروع الكبير الذي أنفقت إيران في بنائه ثلث قرن، احترق وزال إلى الأبد.
-8-
كان يمكن أن تقف الأمور عند ذلك الحد. ماذا طلب المتظاهرون الغاضبون؟ عزل ومحاكمة مسؤول أمني، وتغيير محافظ فاسد، وإعادة بضعة عشر طفلاً إلى أُسَرهم، وإطلاق سراح بعض معتقلي الرأي الذين لم يتجاوزوا في أي يوم الدعوةَ إلى الإصلاح العام. ثم أضافوا بعد قليل طلباً آخر: رفع قانون الطوارئ الذي أذلّ العباد لنصف قرن من الزمان… أما إسقاط النظام أو تغييره فكان حلماً من الأحلام. لماذا لم يستجب النظام لتلك المطالب الهيّنة؟ ولو أنه قرر أن لا يستجيب، أكان ينبغي أن يواجه المظاهرات بالرصاص؟
بسرعة تحول الحراك الثوري باتجاه الاعتصامات، وبدأتها درعا باعتصام الجامع العمري الشهير. لكن ظهر سريعاً أن اعتصام الثوار في الساحات والأماكن العامة من المحرّمات الكبرى في رأي النظام، ولو أنه نجح في درعا فربما ينتشر في غيرها من المدن والمحافظات. هزّت الانفجارات درعا فجر الأربعاء 23 آذار (مارس)؛ لقد بدأ الهجوم الكبير على الجامع العمري. رفض المعتصمون الاستسلام وثبتوا في مواقعهم، ففتح عليهم جنود الجيش نيران الأسلحة الرشاشة ورموهم بالقنابل فسقط عشرات الشهداء ومئات الجرحى، وحينما تدفقت حشود المتظاهرين على الجامع من بقية أنحاء المدينة جوبهوا بالنيران وسقط المزيد من الشهداء، ومُنعت سيارات الإسعاف من بلوغ ساحة الحرب لنقل المصابين، بل إن عصابات الأمن والمخابرات وقفت سيارات الإسعاف واعتقلت منها المصابين كما "اعتقلت" جثث الشهداء.
انتشرت الأخبار في حوران بسرعة فانفجرت المظاهرات في إنخل وجاسم ونوى والحراك والحارّة وخربة غزالة وبقية مدن وقرى حوران، وتدفقت حشود هائلة غاضبة على مدينة درعا، فتصدّت لهم قوات الأمن وأطلقت عليهم الرصاص الحي، وعندما انتهى اليوم كان عدد الشهداء قد بلغ اثنين وخمسين. لقد تجاوزت حوران خط الرجعة وبلغت نقطة اللاعودة، لن تهدأ بعد اليوم حتى سقوط النظام.
-9-
مساء الخميس 24 آذار (مارس) ظهر أول مسؤول حكومي ليتحدث للمرة الأولى عن الأحداث التي عصفت بالبلاد. تحدثت مستشارة الرئيس السوري، بثينة شعبان، في مؤتمر صحفي رُتِّب على عجل عن المؤامرة التي تتعرض لها سوريا لأنها الدولة الممانعة الصامدة التي تحتضن المقاومة، ونفت وجود أي مشكلة بين القيادة والشعب، ووعدت بالتحقيق في الأحداث ومعاقبة المسؤولين. لقد بدأ مسلسل الكذب والنفاق، وهو مسلسل طويل طويل، يشمل تصريحات وبيانات لهذا المسؤول من مسؤولي الحكومة وذاك، ويشمل خطباً طويلة مملة سيلقيها بعد ذلك مَن يسمي نفسَه رئيس البلاد، وسوف يكون جمهوره في كل واحد منها حفنة من المنافقين الذين دُرِّبوا على النعيق والتصفيق، وسوف يكون رد الشعب على كل خطاب مئات المظاهرات الغاضبة في جميع أنحاء البلاد.
في مؤتمرها الصحفي أكدت بثينة شعبان أن الرئيس أصدر أوامر صارمة بعدم إطلاق النار على المتظاهرين. في اليوم التالي شاهد الناس في كل أنحاء العالم كيف ينفذ الأمن "الأوامر الصارمة" للرئيس: حينما اقتربت مظاهرة ضمت عدة آلاف من أهالي كفر شمس والصنمين من مبنى الأمن العسكري فُتحت عليهم نيران الرشاشات الحية، وسقط الشهداء بالعشرات.
يوم الاثنين 28 آذار (مارس) كانت الصورة قد وضحت لكل ذي عينين: النظام اختار القمع والقتل طريقاً وحيداً للرد على غضب الشعب ومظاهراته، فظهر رئيس وزراء تركيا، رجب طيّب أردوغان، على شاشات الفضائيات ليقول: "لن نستطيع أن نقف مكتوفي الأيدي تجاه ما يحدث في سوريا". بعد ذلك لم يُشاهَد أردوغان واقفاً ويداه مكتوفتان؛ لقد وعد فوفى بالوعد، وكان ذلك هو كل ما صنعه من أجل سوريا.
-10-
حرص النظام منذ البداية على تدمير الجنين الثوري قبل أن ينمو ويتحول إلى مخلوق قوي. المظاهرات الأولى قوبلت بالرصاص وبدأ الشهداء يتساقطون في كل مكان، غالباً بطلقات القنّاصة التي نشرها على سطوح الأبنية العالية في أكثر المدن السورية، وأحياناً بنيران الرشاشات التي يطلقها عناصر الأمن الواقفون على الحواجز. لقد راقب النظام السوري ما حصل في تونس ومصر واستنتج أن تردد الأجهزة الأمنية في البلدين في البداية هو الذي سمح للثورة بالنمو والانتشار، ومن ثَمّ قرر أن يتلافى الخطأ وأن يبدأ بالقوة الكاملة مبكراً، فلم نسمع في سوريا عن الرصاص المطاطي ولم تُستعمَل الغازات المسيلة للدموع إلا في حالات نادرة، لقد كان الرصاص الحي هو رد النظام على الثورة.
سقطت (بل ارتقت) أول كوكبة من الشهداء في درعا يوم الجمعة الثامن عشر من آذار، وهم أربعة. أول أسبوع بعد تلك الجمعة بلغ عدد شهدائه 83 شهيداً، وبلغوا في الأسبوع الثاني 63 شهيداً، و78 شهيداً في الأسبوع الثالث و55 في الرابع، أما الأسبوع الخامس فقد انتهى بمجزرة كبيرة يوم الجمعة 22 نيسان (إبريل) وبلغ عدد شهدائه 225 شهيداً، ثم زاد القمع خلال الأسبوع التالي الذي انتهى بجمعة الغضب (29 نيسان)، فبلغ عدد الشهداء 336.
ما سبق هو عدد الشهداء الموثّقين بالأسماء، لكنْ لن يعرف أحدٌ أبداً عدد شهداء الأسبوعين الخامس والسادس على التحقيق، وربما بلغوا ألفاً أو ألفين، فقد شهد يوم الثلاثاء 19 نيسان (إبريل) واحدة من أضخم مجازر الثورة وأكثرها ترويعاً، حينما هاجمت قوات الجيش والأمن بالرشاشات الثقيلة اعتصاماً في ساحة الساعة في حمص ضَمّ عشرات الآلاف من المتظاهرين، ويُظَنّ أن عدد الشهداء الذين سقطوا في الهجوم يبلغون نحو 700، هم حصيلة المفقودين الذين لم يظهر لهم أثر بعد الجريمة، وروى شهود عيان أن الجرّافات حملت أكواماً تختلط فيها جثث الشهداء بالجرحى الأحياء ودفنتها في مقابر جماعية. المجزرة الهائلة الثانية وقعت على المدخل الشرقي لمدينة درعا يوم الجمعة 29 نيسان، وقد تكشّفت تفاصيلُها ببطء خلال الشهور اللاحقة، وما يزال عدة مئات من ضحاياها مفقودين ويغلب على الظن أن يكونوا قد دُفنوا في مقابر جماعية أيضاً.
لقد كان ذلك التصعيد هو المحاولة اليائسة الأخيرة التي بذلها النظام لإجهاض الثورة بالقمع والترويع، ولعله ظن أن انتشار أخبار القتل سيردع الناس ويُلزمهم البيوت، ولكنه صنع العكس؛ لقد أثارهم وأخرج منهم إلى الشوارع أضعافاً مضاعفة، وكانت "جمعة الغضب" جمعة استثنائية فاقت كل ما سبقها في حجم المظاهرات وانتشارها في جميع أنحاء سوريا. لقد عجزت أجهزة الأمن المرعبة عن إيقاف الجماهير الغاضبة، عندها قرر النظام إخراج الجيش من الثكنات وتوجيهه إلى المدن الثائرة.
-11-
أراد النظام أن يئد الثورة في مهدها فهاجم درعا واحتلها بالدبابات؛ لم يعلم أن الثورة التي اشتعلت في حوران لن تحصرَها حدودُ حوران، وأنّى لها أن تفعل؟ لقد انتقلت الشرارة سريعاً من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، فلم تُبقِ في طريقها أرضاً إلا أشعلتها ناراً ضِراماً بثورة الأبطال. لقد عجزت درعا عن الاستمرار في قيادة الثورة لأنها سقطت تحت الاحتلال المباشر حينما اجتاحتها مئات الدبابات وأحالتها إلى معتقَل كبير، فاستنسخ الشعبُ الأبيّ مئات الرايات ونَثَرها على أرض سوريا طولاً وعرضاً، فأصبحت كل بقعة فيها حصناً للثورة وعاصمة لها، واستقرت الراية الكبرى في حمص فتحولت إلى عاصمة العواصم، فهي التي ستحمل العبء الأعظم وفيها سيسقط العدد الأكبر من الشهداء منذ تلك اللحظة. لقد صارت حمص أسطورة في الصبر والصمود.
لا يا أيها الأخ الغريب عن سوريا؛ إنك لن تتخيل كيف انقلبت سوريا كلها إلى بركان يتفجر بالغضب ما لم تزر حمص وريف حمص، وإدلب وريف إدلب، وحماة وريف حماة، ودمشق وريفها وحلب وريفها، ومدن الساحل وأرض حوران وأرض الفرات. اذهب إليها جميعاً لترى كيف يصنع شعبٌ يخرج كلَّ يوم في الصباح ويخرج في المساء ليهتف بالحرية ويتلقى الرصاص. هل رأيت من قبلُ في أي مكان في الدنيا آلافاً وآلافاً من الناس يخرجون إلى الشوارع يوماً بعد يوم في ثلاثمئة وتسعين يوماً متّصلٍ بعضُها ببعض، يخرجون فيتظاهرون فتسقط منهم الكوكبةُ من الشهداء ويُجرَح آخرون، فيدفنون شهداءهم ويعالجون جرحاهم ويعودون في غدهم إلى التظاهر من جديد؟
لقد عجز النظام عن قمع الثورة التي اندلعت في خمس مدن قبل سنة، وكان المشاركون فيها يُعَدّون بالآلاف، فأنّى له أن ينجح في قمعها اليوم وقد تمددت وانتشرت حتى بلغت ألفَ مدينة وقرية وصار المشاركون فيها ملايين؟
-12-
بدأ الجيش بحصار المدن واقتحامها منذ أسبوع الثورة السادس، وكانت تلك هي ورقة النظام الأخيرة، فهل نجح في استعمالها؟ الجواب تعرفونه وأنتم تنظرون إلى الثورة في أسبوعها الخامس والخمسين (وهو الأسبوع الذي أكتب فيه هذه الكلمات). خمسون أسبوعاً انقضت منذ اليوم الذي توجهت فيه الفرق العسكرية إلى المدن الثائرة، فحاصرتها أولاً حصار الموت، قطعت عنها الماء والكهرباء ومنعت عنها الغذاء والدواء، وصمدت المدن الثائرة ولم تستسلم. ثم اجتاحتها واحتلتها، ثم قصفتها ودمرت أجزاء كبيرة منها، رأيتم ذلك في مئات المقاطع المصورة في حمص والرستن وتلبيسة وتلكلخ والقُصَير وإدلب وسراقب وتفتناز وجسر الشغور وحماة وكرناز واللطامنة وحلفايا وقلعة المضيق وتل رفعت وإعزاز ورنكوس والزبداني والقورية ودير الزور… وغيرها كثير.
على عين العالم أطلق النظام المجرم على تلك المدن الآمنة قذائفَ الدبابات والمدافع ورجمها بالصواريخ، فتساقطت الأبنية على رؤوس ساكنيها واستشهد الآلاف وأصبح مئات الآلاف بلا مأوى فتشردوا داخل سوريا وخارجها، أكثرهم لم يبقَ له من دنياه سوى الملابس التي يرتديها! واستباح الغزاةُ المدن والقرى فنهبوا البيوت وذبحوا عائلات كاملة بالسكاكين ذبح الدجاج والنعاج، واعتدوا على آلاف الحرائر المؤمنات الشريفات، حتى بلغ من خسّة الغزاة ونذالتهم أن يعتدوا على بنات عشر وبنات سبع، وهي أفعال لا يُتصوَّر أن تصدر عن آدمي! أمّا الاعتقال والتعذيب فقصة أخرى تطول فصولها، ولو عُرضت بتفاصيلها لظننتموها ضرباً من ضروب الخيال.
-13-
عندما اختار النظام أن يواجه المظاهرات بالنار جنى على نفسه جنايتين. الجناية الأولى ظهرت آثارها على الفور، فإن كل نار خرجت من بندقية باتجاه المتظاهرين الذين حملوا أغصان الزيتون تحولت إلى نار تؤجج الثورة وتزيدها ضِراماً، فحينما قُتل من الثوار عشرة حَلّ مَحَلّ كل واحد من الشهداء عشرة، فصار الألف منهم عشرة آلاف ثم صار العشرة الآلاف مئة ألف، وفي يوم من الأيام تجاوزوا المليون، ولم يعد كسر الثورة ممكناً بفضل الله رب العالمين.
الجناية الأخرى كانت مؤجلة، ولكنها كانت ناراً حارقة ما تزال تأكل النظام منذ حين ولن تلبث أن تفنيه غير بعيد -إن شاء الله-. أخرج النظام الجيش من ثكناته ووضعه أمام الثوار وقال للجنود: أطلقوا عليهم النار. ونظر الجنود فرأوا أمامهم جماعات من المدنيين يرفعون أيادي خاوية إلا من أغصان الزيتون، فكيف يقتلون المدنيين العزّل من السلاح؟ وكان الثوار في سوريا قد تعلموا من إخوانهم الذين سبقوهم في بلدان الربيع العربي بعض الهتافات فراحوا يكررونها، ومنها الهتاف المصري الشهير: "الشعب والجيش إيد واحدة"، فلما سمعها بعض عساكر الجيش أُسقط في أيديهم وقرروا أن لا يطلقوا النار.
هنا ارتكب النظام واحدة من أكبر الحماقات، فإنه خيّرهم بين اثنتين: تكون قاتلاً أو تكون مقتولاً. فوجد أصحاب الضمائر الحية أنهم إن أطلقوا النار قتلوا آدميتهم وأن لم يفعلوا قتلهم قادتُهم، فبلغوا حد اليأس، واليائس يصنع أي شيء. عندها بدأ بعضهم يتمردون فيُقتَلون، أو يتمردون ويهربون، ثم لحق بالجنود بعضُ الضباط، وزاد التمرد حتى صار انشقاقاً شقّ الجيش شِقَّين، كان أحدهما صغيراً لا يكاد يَبين والثاني كبيراً لا يكاد يظهر فيه أثر الانشقاق، ثم توالت الانشقاقات وتتابعت وكَثُرَ المنشقون وزاد فيهم الضباط الكبار، وما زالت الأيام تكبّر الصغير وتصغّر الكبير، حتى صار "الجيش الحر" جيشاً طويلاً عريضاً يضم مئة ألف مقاتل وينتشر في سوريا من أدناها إلى أقصاها، وما يزال كل يوم في نمو وازدياد.
-14-
لقد سمعتم عن أنظمة قاومت الثورات بخراطيم المياه، وسمعتم عن أنظمة قاومت المظاهرات بالقنابل المسيلة للدموع، وسمعتم عن أنظمة قاومت المظاهرات بالرصاص المطاطي، وسمعتم عن أنظمة قاومت المظاهرات بالقنص بالرصاص الحي.
لكنكم لم تسمعوا عن أنظمة فتحت على الجموع المسالمة العزلاء نيران الرشاشات بالجملة، ولم تسمعوا عن أنظمة استهدف قنّاصوها الأطفال والنساء استهدافاً مقصوداً، ولم تسمعوا عن أنظمة حرّمت إسعاف الجرحى، فاقتحمت المستشفيات واعتقلت الممرضين والمسعفين والأطباء واستعملت سيارات الإسعاف في الاعتقال، وقتلت الجرحى أو تركتهم على قوارع الطرق ينزفون حتى الموت. لم تسمعوا عن أنظمة حبست الجرحى في ثلاجات حفظ الموتى وهم أحياء حتى فارقوا الحياة، لم تسمعوا عن أنظمة اعتقلت المتظاهرين وعذبتهم حتى الموت، لم تسمعوا عن أنظمة عذبت الأطفال وكسرت أعناقهم وقطعت أعضاءهم الذكرية، لم تسمعوا عن أنظمة سلخت جلود المعتقلين وقلعت أعينهم من محاجرها وكوت أصابعهم بالأسيد.
لم تسمعوا عن شهيد قَنَصه قنّاص فحاول آخَرُ أن يسحبه فأرداه القناص فوقه، ثم حاول ثالث سحبهما فكوّمَه فوقهما، فصاروا كومة من الشهداء. لم تسمعوا عن أنظمة تلاحق المتظاهرين في بيوتهم، فمن وجدوه اعتقلوه فعذبوه أو قتلوه، ومن لم يجدوه اعتقلوا أباه أو أخاه، وربما اعتقلوا الزوجة والأبناء والبنات. لم تسمعوا عن أنظمة إذا ثار عليها الناس في حي من الأحياء أو قرية من القرى أطلقت على القرية وعلى الحي كلابها ووحوشها، يسلبون الممتلكات ويقتلون الأحرار ويغتصبون الحرائر. لم تسمعوا عن أنظمة ترد على المظاهرات السلميّة بالدبابات والمدافع والصواريخ!
هذا هو النظام السوري أيها السادة، وهذا ما فعله بشعب سوريا وما يزال يفعله وأنا أكتب هذه السطور.
-15-
عندما بدأ الأحرار في سوريا بثورتهم ظنوا أن النظام سيطلق عليهم بضعة عشر جهازاً من أعتى أجهزة الأمن والمخابرات في العالم، وقد فعل. وظنوا أن النظام سيحشد ضدهم مئات الآلاف من عناصر البعث وشبيبة الحزب والشبّيحة والمجرمين، وقد فعل. وظنوا أنه قد يُخرج الجيشَ من ثكناته ويرسله لحربهم وحصارهم وقصفهم، وقد فعل. هيّأ الأحرارُ أنفسَهم لمواجهة نظام عرفوه حق المعرفة وعانَوا من جرائمه على مدى خمسة عقود، ووطّنوا النفوس على الصبر حتى النصر.
لكنهم لم يظنوا أن حزب الله اللبناني سيقف مع النظام ويرسل عناصره ليحاربوهم مع النظام، وهذا ما كان. ولم يظنوا أن مليشيات الشيعة في العراق ستقف مع النظام وترسل مقاتليها ليحاربوهم مع النظام، وهذا ما كان. ولم يظنوا أن إيران ستقف مع النظام وتدعمه بالمال والعتاد وترسل حرسها ليحاربوهم مع النظام، وهذا ما كان. ولم يظنوا أن روسيا ستقف مع النظام وتدعمه بالتقنية والسلاح وتدافع عنه في المحافل الدولية، وهذا ما كان.
لقد اعتمدوا على أنفسهم بعد اعتمادهم على الله، وظنوا أن العالم سيقف معهم وأنه سيكافئهم على سلميّتهم فيمنع النظام المجرم من إبادتهم، لكنْ ظَهَرَ أنهم كانوا واهمين. وظنوا أن تركيا وبقية الجيران لن يقفوا موقف المتفرج وأنهم لا بدّ أن يردعوا النظام عن الإغراق في الإجرام، لكن ظهر أنهم كانوا واهمين. وظنوا أن أميركا ودول الغرب لا بدّ أن تتحرك أخيراً لمَدّ يد العون بأي شكل من الأشكال، لكن ظهر أنهم كانوا واهمين. وظنوا أن العرب والمسلمين سيملؤون الدنيا ثورة وضجيجاً لو كرر النظام مذابحه القديمة، لكن ظهر أنهم كانوا واهمين.
-16-
هذه السطور أكتبها على رأس خمسة وخمسين أسبوعاً من عمر الثورة المجيد، وقد بلغ عدد الشهداء الموثقين بالأسماء 12183، وزاد عدد المفقودين على ثلاثة وعشرين ألفاً، وهم في عداد الشهداء حتى يثبت العكس، والمعتقَلون بلغوا ربع مليون ما يزال منهم تسعون ألفاً في السجون يلاقون المُرّ المرير من التنكيل والتعذيب، والذين هاجروا إلى بلدان الجوار مئة ألف، أما الذين فقدوا منازلهم وهُجِّروا داخل الوطن فيزيدون على نصف مليون. ومع ذلك يقول أبطال سوريا: سوف نكمل الطريق بإذن الله وبعون الله، ولن نقف حتى إسقاط النظام.
أتعجبون؟ أتسألون الشعب السوري لماذا ثار؟ أتستكثرون على الشعب السوري أن يضحي بعشرة آلاف شهيد ليفتدي نفسه من الذل والقهر والهوان؟ لو علمتم ما يعلم أهل سوريا لرضيتم أن تضحوا بمليون شهيد لتتخلصوا من حياة العبيد!
-17-
أيها السادة: هذه هي حكاية بلدنا وهذه هي حكاية ثورتنا. ولأن لكل حكاية نهاية فقد قرر أهلنا أن يكتبوا النهاية بأيديهم كما كتبوا بأيديهم أول الحكاية.
ذات يوم سيفتح أحفادكم كتاب التاريخ ليقرؤوا فيه أن شعب سوريا ثار على جلاّده الذي طغى وبغى وظن أنه سيبقى أبد الدهر، لم يعلم أن الشعوب تبقى وأن الطغاة يأتون ويذهبون. سيقرؤون أن الطاغية أطلق في البلاد كلابَه ومجرميه فروّعوها زماناً وفتكوا برهط من خيار أهلها، لكن الأبطال كانوا قد عزموا أمرهم ووطنوا أنفسهم على أسوأ ما يمكن أن يكون، فثَبَتوا بعزيمة أذهلت الدنيا، وقالوا للطاغية: "لقد سرق أبوك بلدنا واسترقّ آباءنا واستذلهم فعاشوا صاغرين، وسكتوا، ثم وُلدنا نحن في الرِّق وعشنا صاغرين، وسكتنا حيناً، حتى إذا تحرك أولادُنا في أرحام نسائنا وأوشكوا أن يولدوا قررنا أن لا تنتقل العبودية من الأجداد إلى الأولاد إلى الأحفاد، وأقسمنا أنهم لا يولدون إلا ونحن أحرار".
ثم سيقرأ أحفادكم خاتمة الحكاية: لقد أوفَى أبطال سوريا بالقَسَم، فلم يولَد لهم ولدٌ إلا وهم أحرار.
مقدم من الكاتب لمؤتمر ( الحملة الإسلامية لنصرة سورية ) الذي أقامته رابطة العلماء المسلمين و هيئة الشام الإسلامية