نحو ترشيد العمل المشترك
1- مقدمة:
العمل المشترك هو تعاون ممتد لأجل، ويتخذ صورا متعددة، كالتنسيق، والتحالف، والتجمع، أو الجبهوية، ولهذه الصور معاني اصطلاحية.
التنسيق هو أبسط الصور الثلاثة، وهو يستدعي تبادل قدر من المعلومات، وتوزيع الأنشطة وترتيبها بما يمنع التضارب، أو بما يحقق استخدام أفضل للموارد. وقد يحدث التنسيق حتى مع غياب الأهداف المشتركة، لكن لا تكون الأهداف متضاربة.
أما التحالف، فيستهدف العمل المشترك في مجال معين، لتحقيق أهداف مشتركة معينة، ويغلب فيه الجانب السياسي على الجوانب الإيديولوجية، وجانب الممارسة على النظرية؛ وإن كانت الجوانب الإيديولوجية حاضرة، كخلفيات. وينتهي التحالف بانتهاء الغرض الذي عقد له.
أما التجمع أو الجبهة، فتستهدف اشتراكا واسعا شاملا، وهو بذلك يعد أعلى رتبة من التحالف، لأنه لا يرتبط بمشروع بعينه، ولا بتحقيق أهداف محددة تؤدى إلى تفككه وانحلاله بتحققها أو زوالها، كما هو الشأن بالنسبة للتحالف. وعادة ما يتطلب التجمع الانسجام الفكري والتنظيمي والسياسي بين المكونات المشكلة له.
وما يعنينا في هذه الورقة هو المعنى الجامع بين هذه الصور، وهو الاشتراك في العمل.
2- أهمية العمل المشترك
لا نحتاج أن نقف طويلا عند أهمية العمل المشترك، فهذا أمر من البدهيات، يدركه العقلاء، وتشهد له التجارب، ومن فوائده الظاهرة:
أ-التقوي بالآخر
ب-تحقيق ما لا يمكن تحقيقه مفرداً
ت-منع النزاعات أو الحد منها
ث-توظيف أمثل للموارد
3- ارتباط العمل المشترك بدرجة التوافق:
وها هنا أصل يجب التأكيد عليه. وهو مما يشوش كثيرا على الدعوة إلى الاشتراك في الأعمال. هل يمكن العمل المشترك مع الخلاف؟ وهل يلزم التوافق التام حتى نعمل سويا في مشروع مشترك؟
يقول الله تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى". هذه الآية لا تأمر فقط بالتعاون بل تحدد موضوعه: فكل ما كان من البر والتقوى فهو محل تعاون.
وزاد الرسول الأمر جلاء حين لم يجعل عقيدة المتشاركين مانعا للتعاون، حين يكون موضوعه البر والتقوى.
"لقد شَهِدتُ مع عمومَتي حِلفًا في دارِ عبدِ اللَّهِ بنِ جُدعانَ ما أُحبُّ أن لي بهِ حُمْرَ النَّعَمِ ، ولَو دُعيتُبهِ في الإسلامِ لأجَبتُ". وفي رواية "شهِدتُ مع عُمومَتي وأنا غلامٌ حِلفَالمُطَيَّبينَفما أُحِبُّ أنَّ لي حُمْرَ النعَمِ وأني أنكُثُه"
وقال صلى الله عليه وسلم عن قريش في الحديبية (والَّذي نفسي بيدِه لا يسأَلوني خُطَّةًيُعظِّمونفيها حُرماتِ اللهِ إلَّا أعطَيْتُهم إيَّاها).
يقول ابن القيم تعليقا على هذا الحديث:
فَكُلُّ مَنِ الْتَمَسَ الْمُعَاوَنَةَ عَلَى مَحْبُوبٍ لِلَّهِ تَعَالَى مُرْضٍ لَهُ، أُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ كَائِنًا مَنْ كَانَ، مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى إِعَانَتِهِ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ مَبْغُوضٌ لِلَّهِ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَهَذَا مِنْ أَدَقِّ الْمَوَاضِعِ وَأَصْعَبِهَا وَأَشَقِّهَا عَلَى النُّفُوسِ، وَلِذَلِكَ ضَاقَ عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ ضَاقَ".
وعليه يمكن القول أن العمل المشترك يمكن أن يوجد في أشد درجات التباين، وإن كانت فرصه تزداد باتساع دائرة المشترك.
ونستطيع أن نضع القاعدة التالية:
العمل المشترك لا يلزم له التوافق التام، ولا يلزم منه التوافق التام.
الخلافات بيننا موجودة، وخير لنا أن نعترف بها واقعا، من أن نكابر انجرارا وراء آمالنا وعواطفنا.
إلا أن هذه الخلافات لا تمنع العمل المشترك على أهداف متفق عليها، فالتوافق التام ليس شرطا لأن نعمل سويا.
وفي المقابل عندما نعمل سويا فهذا لا يعني أننا متفقون من كل وجه، أو أنني أوافقك على كل ما عندك وأؤيدك فيه. والشطر الثاني من القاعدة مهم، لأن بعض الناس يمنعه من العمل المشترك خشيته أن يقال: يعمل مع كذا وكذا من مخالفيه، فهو يوافقهم في مخالفاتهم، أو يعطيهم مشروعية عند الجمهور، أو يزكيهم عند الدهماء، وغير ذلك من المفاسد المحتملة في ظن المعترض.
4- تشخيص الوضع الراهن للعمل المشترك في الساحة السورية
يشترك أكثر المنخرطين في الثورة السورية في غايتها العامة التي تبلورت في أشهرها الأولى (إسقاط النظام، تحقيق الكرامة والحرية والعدالة)، وفي العمل على متطلبات استمرارها وقوتها ونجاحها في المجالات العسكرية والمدنية من إغاثة وطب وسياسة وتعليم وغيرها. كما يشعر السوريون جميعاً بالمصير المشترك لما تؤول إليه نتائج الثورة.
ومن هنا كان التوجه نحو العمل المشترك طبيعياً وضرورياً، وتمثل في اجتماع الأفراد النشطاء لتشكيل تنسيقيات، وكتائب، وفرق إعلامية، وجمعياتٍ خيرية، ومؤسساتٍ إغاثيةٍ وطبيةٍ وتعليميةٍ ونفسية، وتجمعاتٍ سياسية وغيرها، حتى أصبحت أعدادها بالعشرات في مجالات وبالمئات في مجالات أخرى.
ولم يطل الأمر حتى أدرك هؤلاء النشطاء الحاجة إلى مستوى متقدم من العمل المشترك، وهو العمل بين الكيانات في المجال الواحد بل والكيانات في المجالات المتنوعة.
وبدأت أصوات الداعين إلى العمل المشترك تزداد وترتفع، بدءاً من التنسيق إلى التحالف إلى التجمع والجبهوية، وصولاً إلى الاندماج الكامل، وظهرت عشرات التجارب والمحاولات، في كل مجال تقريبا، نجح بعضها وتعثر بعضها الآخر، وبقي بعضها صوريا بلا فاعلية، بينما لم يتضح مصير العديد منها. وكل ذلك طبيعي من حيث أننا حديثو عهد بالعمل المشترك، فالدكتاتورية السياسية فرضت تصحّراً سياسياً , نتج عنه ضعف في امتلاك آليات العمل المشترك بين قطاع كبير من الشعب السوري.
ونلخص هنا جهود الشراكات في ثلاث أعمال رئيسة: العسكري، والعلمي، والإغاثي.
الشراكات في المجال العسكري:
المجال العسكري أكثر مجال تابعه الناس وتعلقوا به، لقد عاشوا معه، يتفاءلون لكل خبر في اتجاه التقدم، ويحبطون بكل خبر فيه نكوص أو تراجع. وفي المجال العسكري هناك شراكات ناجحة، مثل كثير من العمليات المشتركة على الأرض، وغرف العمليات المشتركة والشراكة في توفير الشركة التنفيذية للهيئات الشرعية.
ثم ظهرت عدة مشروعات على مستوى التكتل والجبهوية، تابعناها جميعا، منها ما لم يكتب له النجاح، ومنها مادام إلى أجل، ومنها ما كان محطة لما بعده، ولا تزال مشاريع التكتل والتجمع مستمرة.
ومنذ فترة ليست بالقصيرة استقر عدد من التشكيلات الكبيرة، وبدأت تشكل هياكلها ومكاتبها، وتصدر مواقفها المشتركة. ومهما قيل عن مشاكل هذه التجمعات داخليا، وما يتهددها، إلا أن الواقع أنها ثبتت أمام مجموعة من العواصف، ولاتزال متماسكة، وهذا – بعد لطف الله بنا- إنما هو بحكمة القائمين عليها، وشعورهم أن النكوص عن العمل المشترك بعد تكوينه في هذه المرحلة لا تُحتمل عواقبه، وسيكون محل استياء وسخط من الجميع، نسأل الله أن يثبتهم ويزيدهم قوة إلى قوتهم.
وبدأت مؤخرا صورة جديدة من العمل المشترك وهو المواثيق والبيانات المشتركة بين الجبهات والتجمعات الكبرى، وكانت محل استبشار وفرح من المؤمنين، ولعل أبرزها "ميثاق الشرف الثوري" وما لقي من ترحيب عريض بين مكونات الثورة ومؤسساتها العلمائية.
الشراكات في المجال الشرعي والعلمي:
ولعله أسبق المجالات للتشكل في أعمال مشتركة، فقد كان الملتقى الإسلامي في الشهر الأول من عام 2012، دعت إليه رابطة العلماء السوريين، وضم عددا من الرموز الممثلة لجماعات وتيارات إسلامية، ورموز مستقلة، وصدر عنه ميثاق متوازن، ويعد هذا الحدث الأول من نوعه منذ عدة عقود أن يصدر عن جمهور الإسلاميين في سوريا وثيقة مشتركة. وشكل الملتقى بعض الهياكل التنظيمية اليسيرة. وبالرغم من وجود الملتقى الإسلامي إلى اليوم، إلا أن حضوره على الساحة متواضع، وهناك جملة من الأسباب التي أدت إلى ذلك. لكن يكتب له أنه أول محاولة للقاء بين أناس طالت بينهم الفرقة.
وبعد بدء العمليات العسكرية، ووجود ما سمي بالمناطق المحررة، ظهرت الحاجة للشراكة لإدارة شئون الناس، وكان على رأس هذه الاحتياجات القضاء وحل النزاعات، فتشكلت الهيئات الشرعية والمجالس القضائية من اشتراك مجموعة من الشرعيين وطلاب العلم وقضاة سابقين. وعندما تبينت الحاجة لوجود شوكة لهذه الهيئات، بدأت بعض الهيئات تتشكل من اشتراك مجموعة الكتائب والفصائل في المنطقة الواحدة، وهذا من العمل المشترك بين الفصائل العسكرية.
وبعد حوالي تسعة أشهر من تأسيس الملتقى الإسلامي، أسست رابطة علماء الشام – أو أعيد إحياؤها– وتأسست روابط علمية ودعوية أخرى في الداخل والخارج، وتنادت عدة روابط للتنسيق فيما بينها، فتشكل مكتب التنسيق بين الروابط العلمية والهيئات الإسلامية، وبرز حضوره بشكل رئيسي في مجال إصدار البيانات المشتركة في الشأن العام.
ومع بداية هذا العام، تضافرت الجهود لتأسيس المجلس الإسلامي السوري، وتأسس فعلا قبل شهرين ونيف، وبغض النظر عن رأي المؤيدين أو المخالفين فإنه يعد تقدما في صعيد العمل المشترك بين المشايخ والعلماء والدعاة.
الشراكات في المجال الإنساني:
هذه الشراكات كانت الأسبق على مستوى الأفراد (التنسيقيات)، ولكن الشراكة بين المؤسسات الإغاثية لم تنشط إلا في وقت متأخر وأكثرها في مستوى التنسيق، ولعل هذا سائغ هنا فإن التعددية في هذا المجال إيجابية، وأكثر مرونة في العمل، وأبعد عن الاستهداف والتضييق.
بعض هذه المؤسسات اجتمعت لتنسيق العمل الإغاثي فيما بينها، وبعضها ذهب إلى أبعد من ذلك وهو التنسيق مع المنظمات الإغاثية الدولية، والمطالبة المشتركة لتمويل المشاريع الإنسانية من الداعمين الدوليين، كما في تحالف المنظمات السورية غير الحكومية SNA وهو تحالف تأسس في شباط 2014 ويضم حاليا جمعية عمومية من 15 منظمة، ولجنة توجيهية من خمسة منظمات وهي : هيئة الشام الإسلامية- القلب الكبير - غراس النهضة - المنتدى السوري للأعمال - أطباء عبر القارات.
ونتيجة لهذا الحراك في التواصل والتنسيق أصبحت 4 جمعيات سورية من أصل 12 منظمة عالمية أعضاء في "مجموعة التنسيق الإنساني" HLG التابعة للأمم المتحدة، وهو الجسم الدولي المؤثر في استراتيجيات مواجهة الأزمة السورية إنسانيا، ويرأسه مندوب الأمين العام للأمم المتحدة، والأعضاء السوريون حالياً هم: هيئة الشام الإسلامية، المنتدى السوري للأعمال، القلب الكبير، ومقعد رابع عن تحالف SNA.
وتبحث المؤسسات الإغاثية المتحالفة الآن أمورا وراء التنسيق مثل تأهيل الكوادر العاملة في هذا المجال، وتدريب المؤسسات على الالتزام بالمعايير الدولية في العمل الإغاثي، وغير ذلك.
وقفات سريعة مع تشخيص الوضع الراهن:
1- هم "العمل المشترك" كان حاضرا عند السوريين في شتى المجالات وفي مراحل مبكرة.
2- لا بد من الإشادة بالتنظيم السريع للأفراد في مطلع الحركة الشعبية في تكوين التنسيقيات والكتائب والهيئات الشرعية، رغم صعوبة الوضع الداخلي المتمثل في إجرام غير مسبوق لكل من يتعاطف مع الثورة فضلا عن أن يعمل لها، فضلا عن أن ينشئ تنظيما لعمله.
3- والإشادة أيضا بنجاح العمل المشترك في إدارة المناطق المحررة من خلال المجالس المحلية وأشباهها، بشكل مرضي جدا مقارنة بالظروف الصعبة، وشح الموارد المتاحة.
4- هناك كفاءات وطاقات فردية في الشعب السوري متميزة جدا، صحيح أن العمل بين "الزعامات" يشكل تحديا أمام بدايات العمل المشترك، إلا أنه حين يتم التغلب على هذا التحدي يكون الإنجاز كبيرا.
5- وجود النزعة إلى تشكيل كيان جديد بدل الانضمام إلى كيان قائم، بحجج شتى، تكون أحيانا منطقية، وكثيرا ما تكون غير مبررة، مما أدى إلى كثرة الكيانات الثورية، ثم انفراط عقد الكثير منها.
6- كمحصلة عامة، فإن منحنى العمل المشترك في صعود ، والقناعة به تتجذر. قد يرى البعض أن هذا التطور دون الحاجة والظرف الصعب الذي نعيشه، وهذا حق، ولكن من الإنصاف أن نقول أن أناسا فرق بينهم النظام على مدى عقود طويلة، وأوقع بينهم العداوة والبغضاء، وتداعوا من كل فج عميق، والعالم الخارجي لا هو ساندهم، ولا تركهم وشأنهم، بل يعيقهم، ويتدخل في شئونهم بكل السبل، يعد ما فعله هؤلاء ضمن هذه المعطيات إنجازا طبيعيا بل جيدا. ولله سنن، وللبشر طبائع، إن فهمناها وعملنا بمقتضاها تقدمنا، وإن تجاهلناها وقفزنا عليها فلا أرضا قطعنا ولا ظهرا أبقينا.
5- عوامل نجاح العمل المشترك:
لم أرجع في هذه المادة إلى كتب ومراجع، ليس زهدا فيها، لكن لعلمي أنني لن أضيف جديدا حينها. ومنذ بداية الثورة ابتلاني الله – والابتلاء يكون بالخير والشر – بالمشاركة أو الاطلاع على كثير من تجارب الشراكات، وعشت معها بحلوها ومرها، فأردت أن يكون ما أذكره هنا تجربة عملية وليست نظريات. وسأستعرض هنا ستة عشر عاملا لنجاح العمل المشترك.
أ-القناعة بالحاجة ووجود الدافع للعمل المشترك
وهذا أمر أكثر بداهة من أن يذكر. لكن الواقع أن أناسا يساقون إلى العمل المشترك سوقا، بضغوط خارجية، أو داخلية من الأتباع، وهؤلاء بانعدام تفاعلهم لا يقدمون شيئا للعمل المشترك، بل ربما تصيدوا القصور والأخطاء أو اختلقوا الأعذار للتملص من تبعات العمل المشترك حتى لا يٌتهموا بأنهم هم المعرضون عنه. ولكن الحقيقة أنهم غير راغبين فيه أصلا.
ب-وضوح الهدف
ومع بداهة هذا الأمر أيضا، لكن أود الإشارة إلى ثلاثة أمور:
1- لا تكفي الغايات والعموميات كأهداف.لا بد من النزول بالأهداف إلى مستوى تفصيلي.إسقاط النظام، بناء الدولة، تكريم الإنسان لا يكفي هدفا للشراكة. عندما يجتمع الناس على أهداف عامة جدا، سرعان ما يكتشفون أنهم غير جاهزين للشراكة.
2- بل لا تكفي حتى الأهداف التفصيلية المرحلية، لا بد مع ذلك من مشروع عملي مشترك. المشروع يقوي الشراكة ويزيدها تماسكا، ويمنع الكيان المشترك من الانكفاء على قضايا داخلية تفصيلية والاكتفاء بها، مثل دقائق النظام الأساسي واللوائح والتسجيل القانوني، ووضع الخطة الاستراتيجية، وتعديل الخطة، وأمثال ذلك. هنا يقاس الإنجاز بعدد الاجتماعات !. ولقد شاركت في مشاريع من هذا النوع، فبدأ الحماس ينطفئ، والناس تنفض شيئا فشيئا.ليس قيمة المشروع العملي فقط في نتاجه، ولكن في كونه أيضا المادة اللاصقة بين العاملين فيه.
3- ولا بد من الإشارة أيضا إلى الواقعية في وضع الأهداف. يتحمس الناس كثيرا للاجتماع، وفي غمرة الحماس والعاطفة يصيغون أهدافا أقرب إلى الأحلام. تجدهم أحيانا بالكاد تم جمعهم، وإذا هم يتحدثون عن الوحدة والاندماج !
ت-مأسسة العمل المشترك:
ونقصد به وضع نظام داخلي، وميثاق، وهيكلية تنظيمية، وتوصيف للأدوار والوظائف، وإطار قانوني للعمل إن أمكن، وتوثيق المكاتبات ومحاضر الاجتماعات، وضبط الموارد والمصارف المالية، و ...
ولكن نحذر هنا من الاستغراق في هذه الإداريات دون وجود عمل موازي، وكأن هذه الأمور أصبحت مقصودة لذاتها، بل في مثل الظروف التي نعيشها ينبغي أن يؤتى منها القدر اللازم للعمل، وتطور شيئا فشيئا بحسب الحاجة، وذلك لأمور:
1- هناك أعمال كثيرة ملحة، والأمر لا ينتظر إنهاء كل التفاصيل
2- بعض الأمور لا يمكن تصورها إلا بعد التجربة، والانتهاء من مراحل معينة، فالتفصيل فيها في عير محله إذ قد نحتاج إلى نقض ذلك كله.
3- هذه الأمور – على أهميتها – لا تظهر في الإنجاز للأعضاء ولا للجمهور القريب والبعيد، فالإسهاب فيها وصرف الأوقات يولد الشعور بسلبية الكيان وعدم فاعليته.
ث-الثقة
ومن أكثر ما يقتل الثقة بين المشتركين أن يشعروا أن فيهم من يريد أن يستغل العمل المشترك أو "يمتطيه" لتحقيق أهداف شخصية، أو فئوية تناقض أهداف العمل المشترك.
ج- الصدق
قلت مرة في مجلس: أستطيع أن أعمل مع المخالف منهجيا عندما يكون صادقا، ولا أستطيع التعامل مع من على مثل أفكاري النظرية حين يكون مراوغا.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم، "البَيِّعانِبالخِيارِما لم يتفرَّقَا ، أو قال : حتى يتفرَّقَا ، فإن صَدَقَا وبَيَّنَا بُورِكَ لهما في بيعِهما ، وإن كَتَمَا وكَذَّبَا مُحِقَتْ بركةُ بيعِهما"
ح- الشفافية
يميل الناس عموما إلى المجاملة والمداراة في علاقاتهم الاجتماعية. وهذا مفهوم، وربما يكون ممدوحا.
أما في العمل المشترك، فلا بد أن تبنى الأمور على الصراحة والمكاشفة.
وهذا رسول الله يطلب التوضيح من أصحابه عن كل عمل يبدو خاطئا، فيقول (ما حملك على ما صنعت).
والملاحظ في حالتنا أن نمرر الأمور بالسكوت والمجاملة في المجلس المشترك، ثم تنطلق ألسنتنا بالنقد والتجريح والعيب بعد المجلس، حيث أصحاب العلاقة غائبون، فنقع في محاذير شرعية فضلا عن الإضرار بالعمل المشترك.
خ- العدل
لن يقبل الناس على مشروع يرون أنه لا ينصفهم. وقد يظهرون شيئا من التنازل عن بعض ما يعتبرونه حقا لهم في بداية الأمر، لكن مع مرور الوقت يشعرون بالضيم، خاصة إذا طلب منهم مزيد من التنازل.
ومن البديهي أن نذكر أن العدل لا يعني المساواة، بل قد تكون المساواة ظلما، ولا بد من تسليم جميع الشركاء ابتداء أن العدل يقتضي أن يكون دور كل شريك متناسبا مع وضعه.
ومن أعجب الأمور التي صادفتها أن يشعر الجميع أنه لم يُعدل معه، فمن الظالم إذن؟
الكيانات الصغيرة عددا وأثرا، تشعر أنها لم تمثَّل بشكل مناسب، ولم تؤخذ احتياجاتها في الحسبان، والكيانات الكبيرة عددا وأثرا ترى أن التمثيل لم يراع حجمها وأثرها، وهكذا.
وتبرز المحاصصة كأحد أبرز التحديات أمام العمل المشترك – المحاصصة المؤسسية، أو الفئوية، المناطقية، العرقية، (وتقسيمات جديدة هي علامة مسجلة للثورة السورية مثل الداخل والخارج). والحديث عن المحاصصة - متى يناسب العمل بها، ومتى يكون العمل بها مضرا للعمل المشترك – يحتاج إلى ورقة خاصة.
د- الرضا
أي شريك لا يرى في العمل المشترك مصلحة أوتحقيقا لأهدافه، لن يكون راضيا عنه، وسيرفض الاشتراك فيه، أو ينسحب منه لاحقا، أو يتعامل معه بسلبية.
لذلك فإن مصلحة العمل المشترك نفسه، وبالتالي مصلحة كل شريك أن يكون شركاؤه راضين. وليس معنى هذا أن يمارس بعض الأطراف الابتزاز، ولكن المطلوب أن تبدي جميع الأطراف قدرا من المرونة والتنازل لأجل المصلحة المشتركة، ولتصل إلى مكاسب مشتركة.
وأود هنا أن أقف على موضوع الانتخابات لعلاقته بالرضا:
الانتخابات آلية معاصرة للاختيار بدلالة أكثر الصوات، ولا اعتراض عليها من حيث المبدأ.
بل إن اعتبار الكثرة والميل إلى رأي الأكثرية أمرٌ مستقرٌ في الفِطر، ودلّت عليه العقول، وشهدت له أدلةُ الشريعة، فقد جاء في النصوص الشرعية وآثار السلف وكلام العلماء شواهد كثيرة لاعتبار الأكثرية، ومن ذلك :
1- النصوص التي جاءت في الحث على الجماعة، ولزوم ما يجتمع عليه الناس، وبيان أنه كلّما زاد العدد في الرأي الواحد كان أقربَ إلى الصّواب، وأبعد عن الشيطان، كما في الحديث: (عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ) رواه الترمذي.
2- أخذ رسول الله -صلى الله عليه- وسلم برأي جمهور الصحابة في الخروج يوم أحد مع أنه خالف رأي أصحاب الخبرة والشيوخ .
قال ابن كثير –رحمه الله- في "تفسيره": "وَشَاوَرَهُمْ فِي أُحُدٍ فِي أَنْ يَقْعُدَ فِي الْمَدِينَةِ أَوْ يَخْرُجَ إِلَى الْعَدْوِّ، فَأَشَارَ جُمْهُورُهُمْ بِالْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ".
3- أخذ عمر -رضي الله عنه- برأي الأكثرية بشأن طاعون عمواس، وذلك قبل أن يظهر له النص، ولذلك قال ابن حجر في الفتح : "وفيه الترجيح بالأكثر عدداً والأكثر تجربة".
4- كما أخذ علماؤنا بمبدأ الأكثرية في أمور عدة منها:
* إذا اختلف أهل المسجد في اختيار الإمام ، قال الماوردي –رحمه الله- في "الأحكام السلطانية: "عمل على قول الأكثرين".
*قال ابن القيم –رحمه الله- في "إعلام الموقعين" عن اختلاف الصحابة : "وإن كان أكثرهم في شق فالصواب فيه أغلب ".
* اتفقت المجامع الفقهيّة والهيئات العلمية الشرعيّة في الوقت الحالي بصدور القرارات أو الفتاوى العامة برأي الأغلبيّة.
ثم إن الكثرة في الانتخاب تكون معتبرة في دائرة من توافرت فيهم شروط الناخب لا عموم الناس، فمن المعلوم أن الناخب له شروط في كل التجارب المعاصرة، فهي ليست أكثرية دون ضابط أو قيد.
إلا أنني أرى أن في حالات معينة كالتي نعيشها، حين:
1- لا يعرف الناس بعضهم بعضا بشكل جيد ليتم اختيار الأكفأ
2- وبالتالي يميل الناس إلى انتخاب ضمن أجندات مسبقة أو وفق معرفة سطحية
3- لا يوجد سلطة تلزم الناس بنتيجة الانتخاب.
فالأولى، حرصا على التوافق، وتحصيلا للرضا، أن تبذل الجهود للوصول إلى القرارات والنتائج بالتوافق ما أمكن، وألا يلجئ إلى الانتخاب أو التصويت إلا في حدود ضيقة.
وما الفائدة أن يستخدم طرف ما قوته وعضلاته وعلاقاته ليحقق ما يريد، ثم يكون من أثر ذلك أن ينفرط عقد العمل المشترك كله؟!
ذ- المرونة
للأسف، لا يوجد في السوريين الآن سلطة تلزمهم بشيئ، وحتى المرجعيات "الأدبية" ما عادت "تمون" على أحد، وهنا لا مناص للشريك- قويا كان أو ضعيفا- أن يبدي المرونة والتنازل لشركائه حتى تسير العربة. وتتأكد الدعوة إلى المرونة حين يكون هناك ضرر لمجموع مقابل ضرر على واحد، أو مصلحة فئة صغيرة مقابل مصلحة عامة، أو تفويت أمر جزئي مقابل انفراط العمل بالكامل.
ر- ملك القرار
عندما يشترك الناس في عمل، يفترضون أن قراراتهم ستنبع منهم، فإذا تبين لهم أن هناك من يرهن قراره لجهة خارج الشراكة، أو حين تحاول جهة خارجية – بحجة التمويل أو غيره – أن تفرض قراراتها على التجمع، فسرعان ما تفقد الشراكة بريقها، لأن الناس لا تريد أن تكون صورة، ولا تريد أن تدار من الخلف أم يُتحكم فيها عن بعد.
ز- اختيار الشخصيات التوافقية
والشخصيات التوافقية ليست بالضرورة متساهلة أو تقبل التنازلات المجحفة، ولكنها شخصيات لها القدرة على استيعاب الآخرين، والتعامل معهم، وتفادي الصدامات أو تأزيم المواقف.
وقد تفشل بعض المشاريع بسبب حدة بعض الشخصيات، أو عجلتها، أو عدم مراعاتها لبعض الأعراف الاجتماعية وغير ذلك.
س-المعرفة المسبقة للتحديات والمخاطر التي تواجه العمل المشترك
من المفيد جدا أن يبحث الشركاء في وقت مبكر، ربما مزامنا للتأسيس، التحديات والعقبات المتوقعة. إن لهذا الأمر فوائد عدة:
1- الاستعداد لها حتى لا تقع
2- إلغاء عنصر المفاجأة إذا وقعت (هذا ما وعدنا الله ورسوله)
3- قطع الطريق على من يريد أن يختلق هذه العقبات لاحقا، فإن مجرد ذكرها قد يفوت عليه الفرصة
ش-الاتفاق على التفاصيل المؤثرة
وكما يقول المثل الإنجليزي "الشيطان يكمن في التفاصيل". هناك بعض الأعمال تكون تفاصيلها إجرائية، إلا أن هناك أعمال أخرى تشكل تفاصيلها جزءا رئيسا في قبول العمل أو رده (فرق مثلا بين مشروع طباعة كتب مدرسية، ومشروع تشكيل أهل الحل والعقد).
تكوين صورة مشتركة عن التفاصيل المؤثرة قبل الانخراط في العمل المشترك يكون مفيدا جدا، ولأن نتأخر في بدء العمل المشترك حتى تتبين التفاصيل المؤثرة، أفضل من الشروع فيه ثم النكوص عنه للاختلاف على التفاصيل، لما في ذلك من الإحباط ورفع منسوب التجارب الفاشلة.
ص- الاتفاق على مرجعية لحسم الخلافات
الخلاف من طبيعة البشر. وحين يعملون سويا لا بد أن تظهر بينهم خلافات تحتاج إلى حسم. تكفي الأنظمة الأساسية واللوائح في العادة في حل الخلافات الواضحة جدا، لكن في كثير من الأحيان لا تفي بالغرض. فمن الحكمة أن يتفق الشركاء على آلية لحسم الخلافات، أو مرجعية للفصل بين النزاعات.
ض-عدم التغول على مجال العمل أو ادعاء الوصاية أو التمثيل الحصري
جميع الكيانات الموجودة الآن لم تأت بتفويض من الناس، ولم تأت من سلطة يجب طاعتها،لذلك مهما كان حجمها ومهما ضمت من شركاء لا ينبغي لها أن تحتكر العمل في مجالها، أو تدعي الوصاية عليه. بل الأولى أن تعمل بصدق حتى يصبح ذلك أمرا واقعا يسلم به الناس بدل أن يفرضوه عليهم فرضا، ولن يستطيعوا، ولو استطاعوا فلن يطول الأمر كثيرا حتى يرفضه الناس.
حين يدعي كيان جديد احتكار العمل والوصاية عليه، فسيدخل في تنافس مع العاملين الآخرين، ولن يكون تنافسا تكامليا، بل تنافسا مذموما يضعف كلا العملين، ويشتت الجهود.
ط-التواصل المستمر
مما ابتليت به هذه الثورة صعوبة التواصل بين النشطاء. فهم يقطنون في بلاد متعددة، التنقل بينها مكلف، وكثير منهم مرتبط بأعمال وظيفية يتكسب منها، فلا يمكنه السفر في كل وقت، فضلا عن أن كثيرا من الدول لا تسمح للسوريين بدخولها إلا بإجراءات معقدة، فانحصر إمكان اللقاء في بلد أو اثنين. انضم إلى ذلك محنة جديدة وهي محنة انتهاء صلاحية الجواز، والصعوبة البالغة أو ربما الاستحالة في تجديده. هذه الأسباب وغيرها جعلت النشطاء يعتمدون على تقنيات الاتصال عن بعد. ولا يخفى أن فاعلية هذه التقنيات دون مستوى اللقاء المباشر بكثير. وحتى هذه التقنيات لا تكون متاحة، أو لا يمكن الاعتماد عليها أحيانا، خاصة في التواصل مع المقيمين في الداخل.
إلا أنه لا مناص للعمل المشترك أن يوجد آلية عملية وفاعلة للتواصل، بشكل منتظم، وبشكل طارئ عند الحاجة، وما أكثر الطوارئ في حالتنا، فانقطاع التواصل يجعل من الحبة قبة، ويسمح للتخمينات أن تقوم مكان الحقائق، وللشائعات أن تنتشر. ومن الأفكار التي يمكن أن تساهم في التخفيف من هذه المشكلة:
1- العمل من خلال دوائر صغيرة (3-5 أفراد) يوجدون في مناطق جغرافية متقاربة يسهل التقاؤهم، والبعد عن التشكيلات التنفيذية الكبيرة ما أمكن.
2- البحث عن وسائل تقنية أكثر جودة وكفاءة من تلك الشائعة والمتوفرة للعموم.
3- تفعيل فكرة النائب أو البديل المفوض ما أمكن.
هذه خلاصة تجارب في العمل المشترك، قدمت في الندوة التشاورية الثانية من أجل الثورة في إسطنبول 22-24 شعبان 1435، وقد أشار علي بعض المحبين بنشرها لتعم بها الفائدة، فأرجو أن القارئ الكريم قد وجد فيها ومضة أو لفتة ينفع الله بها.
والحمد لله رب العالمين.