تحدَّث كثير من الكتاب والمفكرين عن أسباب تأخر النصر، وبطء تحقق الوعد الإلهي، في نصرة وانتصار المظلومين والمستضعفين من شعبنا السُّوري، وعن زيادة وغلو العصابة الحاكمة في التعسُّف والصَّلف والوحشية.
فمنهم من تحدَّث عن أسباب لها ارتباط بضعف التنسيق بين الداخل والخارج، أو فيما بين الداخل نفسه،أو ما ظهر من انقسام المعارضة وتشتتها.ومنهم من ركَّز على الموقف الدولي الذي خذل الشعب السوري، أو قل: الذي أطلق للنظام الغاشم العنان ليقتل ويسفك ويشرِّد ويقصف كيفما يشاء، ومنهم...ومنهم... وهي بمجملها تحليلات وآراء مقبولة ومعقولة!!
ولكن مَن يدري؟ فلعل في المسألة اختياراً ربانياً أو حكمة إلهية، مفادها: أن الله يريد أن يحمِّل المؤمنين في سورية الشام مهمة عظيمة، ورسالة جسيمة، مهمة هداية حركة الحياة في هذه الفترة، مهمة قيادة المنطقة إلى الإيمان والإسلام، والعدل والإحسان، وإنقاذها من ظلمات الكفر والعمى والطغيان، كما يريد-جل شأنه وتباركت أسماؤه- أن يصطفي منهم شهداء، يكرِّمهم ويقرِّبهم إليه، يرزقهم ويحييهم، ويمنحهم رضوانه. فنعم التكريم تكريمه، ونعم القرب قربه، ونعم الحياة والرزق في جناته!!
فالجنة سلعة الله، وسلعة الله غالية، فكيف لا تكون كذلك؟ وهي الدار التي خلقها الله بيده، وجعلها مأوى لأحبابه، وأفاض عليها وفيها من رحمته وكرمه ورضاه... فهي النعيم المقيم، والفوز الكبير، والطُّهر الذي لا يشوبه نقص أو عيب...ولذلك كان الابتلاء والكرب والبأس والضُّر سبيلاً إليها:" أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ".
ومن يدري فلعل الله -تعالى- أراد اصطفاء واختيار أهل الشام بأن يجعل منهم أئمة يهدون إلى الحق، ويدعون إلى الخير، ويأمرون وينهون بأمره جل جلاله؟؟ وتلك منحة ربانية، وعطية إلهية، لا تُعطى لكل أحد، بل لا تُعطى إلا للذين يتعرَّضون لأنواع المحن والفتن والاختبارات، ثم يتخطونها بصبر جميل، ويقين صادق:" وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ".
فالصبر واليقين طريق إلى النجاح والتمكين، ولهذا كان لا بدَّ لتحقيق الإمامة في الدِّين وحصول النصر، من طريق طويلة، ومحن كثيرة، وتمحيص شديد...ولنتأمل قول ربِّنا العظيم:" حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ"؟
فلفظ(حَتَّى) يعني انتهاء الغاية؛ والغاية هنا(استيأس)، فلا يتحقق ما بعدها(جَاءَهُمْ نَصْرُنَا) حتى يصل حملة الحق والخير نقطة الصفر في الكرب والضيق، واليأس واستبطاء النصر... أي: لا بدَّ لهؤلاء الذين يُراد لهم تحمُّل هذه المهمة من الاختبار الدقيق، ولا بدَّ لهم من محن وصعوبات وشدائد تقف في طريقهم، فمن صبر منهم على المحن وخرج منها ناجحاً فهو الأهل لهذه المهمة.
هذا، وقد نال صحابةَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما نالهم من البلاء العظيم، والكرب الشديد، والزلزال القوي، والامتحان المهول... حتى دفعهم إلى الإقبال على رسول الله-صلى الله عليه وسلم- شاكين: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا ؟ فقال لهم:" كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض، فيُجعل فيه، فيُجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه. ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصدُّه ذلك عن دينه، والله لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون". رواه البخاري.
فقضية قتل وسفك دماء المؤمنين وانتهاك أعراضهم، واستباحة ممتلكاتهم ليست علامة فنائهم، بل ربما كانت دليل نصرهم ودنو فجرهم، فبشار الأسد وزبانيته اليوم يفعلون كما يفعل فرعون وهامان وجنودهما، فقد خدعتهم قوتهم وسطوتهم وحيلتهم، فنسوا قدرة الله وتقديره، فراحوا يذبحون أبناء المؤمنين، ويستحيون نساءهم، ويسومهم سوء العذاب، وهم يظنون أنهم بذلك يثبتون حكمهم، ويحمون عرشهم!! ولكن إرادة الله غير ذلك، فقد استحق فرعون وجنده غضب الله، وحاز المؤمنون الصابرون رحمة الله ورضاه، فجاء النصر للمؤمنين، والخزي والعذاب على الكافرين:"إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ".
أجل:"لا بد من الشدائد، ولا بد من الكروب، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة. ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس. يجيء النصر من عند الله، فينجو الذين يستحقون النجاة، ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين، وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون. ويحل بأس الله بالمجرمين، مدمراً ماحقاً لا يقفون له، ولا يصده عنهم ولي ولا نصير. ذلك كي لا يكون النصر رخيصاً فتكون الدعوات هزلاً. فلو كان النصر رخيصاً لقام في كل يوم دَعِيٌّ بدعوة لا تكلفه شيئاً. أو تكلفه القليل. ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثاً ولا لعباً. فإنما هي قواعد للحياة البشرية ومناهج، ينبغي صيانتها وحراستها".
فيا أهل الشام! يا أهل حمص! يا أهل سورية جميعاً! ما أدراكم لعلكم المقصودون، ولعلكم المختارون، ولعلكم المصطفون، الذين يُحيون ما جاء به رسل ربِّ العالمين، ولعلكم الوارثون لإرث أنبياء الربِّ العظيم؟!
فلا تستقلُّوا أنفسكم أيها الثائرون! ولا تحقِرُنَّ شأنكم أيها المجاهدون! أن تكونوا حملة شرف المهمة الكبرى(الحرث والزرع والرِّي) فأنتم اليوم تتخطَّون اختبارات المحن والشدائد، وتتحملون المشاق والتبعات؛ فقد قدمتم الشهداء، وبذلتم الأرواح: قدمتم الغوالي من الأطفال والنساء والشباب والشيوخ، فاصبروا واثبتوا وثقوا بنصر الله، وتوكلوا عليه:"...وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ".