الخميس 19 جمادى الأول 1446 هـ الموافق 21 نوفمبر 2024 م
سوريا: الدبلوماسية الدولية بين سايكس-بيكو (1916) وكيري-لافروف (2013)
الأحد 9 ذو القعدة 1434 هـ الموافق 15 سبتمبر 2013 م
عدد الزيارات : 23499

خرائط ترسم
في شهر مايو 1916 أبرم وزير الخارجية الفرنسي فرانسوا جورج بيكو اتفاقاً سرياً مع نظيره البريطاني مارك سايكس لتحديد مناطق نفوذ دولتيهما في المشرق العربي، ونصت المعاهدة في صيغتها النهائية على منح فرنسا كلاً من: الموصل وسوريا ولبنان، ومنح بريطانيا جنوب بلاد الشام والعراق.

وشهدت السنوات الأربع التالية؛ اعتماد الخريطة السياسية للمشرق العربي من خلال وعد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين عام 1917، ومعاهدة "سيفر" التي قسمت منطقة الهلال الخصيب وفق أطماع القوى الأوروبية عام 1920، ومعاهدة "سان ريمون" التي نصت على وضع سوريا والعراق تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني تباعاً في العام نفسه.

 


وفي أتون حالة الفوضى التي انتابت الجمهوريات العربية ابتداء من عام 2011؛ عاد الولع الغربي بخارطة المنطقة؛ إذ بدأت تظهر رسومات جديدة وخرائط مستحدثة لإعادة تقسيم المشرق العربي وفق مصالح القوى الدولية المتنافسة.
ففي محاضرة بمدرسة: "جيرالد فورد للسياسة العامة" في شهر مايو الماضي طرح عراب السياسة الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر فكرة تقسيم سوريا على أسس إثنية وطائفية؛ وسرعان ما لقيت هذه الدعوة أصداءها في أروقة مراكز الفكر الغربية وبعض الجهات الرسمية التي بدأت تدعو علناً إلى إعادة فرز القوى السياسية في سوريا وفق سياسة تفتيتية تحقق التوازن بين فصائل المعارضة والنظام؛ فقد رأى الباحث في جامعة هارفرد "روجر أوين" (مايو 2013) ضرورة العمل على تحقيق الاستقرار في سوريا عبر إعادة تقسيم المنطقة وفق مفهوم: "التجزئة ضمن الحدود" كما هو الحال في العراق.
وفي دراسة موازية رأى "أرنولد ألرت" (مايو 2013) أن الصورة الأنسب لضمان استقرار سوريا تكمن في تأسيس نظام "ترويكا" تتوزع السلطة فيه بين السنة والأكراد والعلويين، كما نشر "غبريال شينمان" بحثاً (يوليو 2013) أشار فيه إلى أن حل الأزمة السورية يكمن في إعادة رسم خارطة الجمهورية فيما يتناسب مع طموحات الأقليات الكردية والمسيحية والدرزية والعلوية، مستشهداً بمبادئ ولسون الأربعة عشر التي أقرت حق الشعوب في تقرير مصيرها خلال مفاوضات السلام التي أعقبت الحرب العالمية الأولى.
وتنسجم هذه الأطروحات التقسيمية مع المقال الذي نشره رئيس تحرير صحيفة هآرتز العبرية "ألوف بن" (يوليو 2013) والذي أكد فيه على ضرورة أن تسفر تطورات المنطقة عن صياغة خريطة سياسية تراعي حقوق الأقليات وتؤسس كيانات سياسية لها مما يسهم في كسر العزلة المفروضة على "إسرائيل" ويعزز فرص تواصلها مع شعوب المنطقة.
 

ويمكن سوق عدد كبير من المشاريع التفتيتية، ونماذج من الخرائط التي نشرتها معاهد الفكر الغربية في غضون الأشهر الأربعة الماضية كحلول للأزمة السورية وفق مفهوم: "التجزئة ضمن الحدود"، ولعل أبرزها خريطة "معهد دراسات الحرب" (مايو 2013) التي تحدثت عن تقسيم الكيان الجمهوري إلى ثلاثة أقسام: رقعة شمالية شرقية يسيطر عليها الأكراد، وأخرى وسط وشمال غربي البلاد تسيطر عليها المعارضة في حلب، وذلك مقابل الاعتراف الدولي بسيطرة النظام على محافظات: دمشق وحمص واللاذقية وطرطوس.
كما نشر "مركز ويلسون" (أغسطس 2013) دراسة أخرى ضمّنها خريطة تقترح فض الاشتباك بين المعارضة والنظام على طول الخط السريع بين دمشق وحلب، بحيث تصبح دمشق وحمص وحماة ومحافظات الساحل تحت حكم النظام، وتخضع القطاعات الشمالية والشرقية للمعارضة، وتمثل تل أبيب القوة الدافعة لمثل هذا الطرح؛ إذ إنها تفضل بقاء النظام ضعيفاً على تخومها بدلاً من ظهور جار جديد تهيمن عليه النزعة الدينية.


التوافقات الدولية وغياب الموقف السوري
في موازاة المشاريع والخرائط التي عكفت معاهد الغرب على إعدادها؛ بذلت الدبلوماسية الأمريكية في الأشهر الأربعة الماضية جهوداً مضنية للتفاهم مع روسيا على ترتيبات الوضع النهائي في سوريا؛ ففي الفترة الممتدة ما بين لقاءي كيري ولافروف في: موسكو (7 مايو 2013) وجنيف (14 سبتمبر 2013) أعلنت واشنطن وموسكو التوافق بينهما على مجموعة من القواسم المشتركة منها: حل الأزمة عبر الوسائل الدبلوماسية، والعمل على منع انتشار الصراع خارج حدود القطر السوري، كما نجحت مناورة لافروف في فرض خطته لوضع الأسلحة الكيميائية السورية تحت المراقبة الدولية دون تحديد جدول زمني للتنفيذ، مما رجح كفة النظام، وساعده على تجنب المحاسبة القانونية، ومنحه مزيداً من الوقت للاستمرار في عملياته العسكرية ضد المعارضة.
وكان من المفاجئ أن تبادر دول الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية إلى مباركة هذه الاتفاقية قبل إعلان تفاصيلها، وذلك بالتزامن مع تفكك التحالف العسكري الغربي، وانسحاب السفن الحربية الفرنسية والبريطانية من شرقي المتوسط متجهة نحو البحر الأحمر، مقابل إرسال موسكو شحنة أسلحة ضخمة إلى النظام السوري على متن السفينة (Nikolai Filchenko ) التي انضمت إلى مجموعة سفن قتالية تم إرسالها لتعزيز الأسطول الروسي المرابط قبالة السواحل السورية.
وفي خضم "التوافقات" الدولية الجديدة يغيب الموقف السوري بصورة مقلقة؛ إذ يتردد الحديث عن فقدان بشار أسد السيطرة على أزمّة الإدارة والحكم لصالح قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني الذي أصبح يتولى مهام الإدارة والتنسيق بين مختلف الميليشيات الطائفية القادمة من إيران ولبنان والعراق، في حين تدين التشكيلات الطائفية الجديدة من "الجيش الشعبي" بالولاء للقيادة الإيرانية.
أما في الشق المعارض؛ فإن الجناح السياسي للثورة لا يزال عاجزاً عن تطوير نفسه فيما يتواكب مع متطلبات المرحلة، ففي مقابل انخراط أقطاب المعارضة في تبرير الضربة العسكرية المفترضة ضد نظام بشار وتعداد مميزاتها؛ بدت ظاهرة إقصاء المعارضة السورية عن المشهد الدبلوماسي واضحة للعيان، وظهر التباين بين رؤية المعارضة السورية وبين التعامل الدولي مع الأزمة، حيث تركزت المفاوضات الدولية على مفهوم حل النزاعات (conflict resolution) من منظور خارجي يراعي الأولويات الإقليمية التالية:

  1. منع انتشار أسلحة الدمار الشامل خارج الحدود السورية (Proliferation of weapons of mass destruction)
  2. مكافحة الإرهاب وتفكيك الجماعات المتطرفة (Counter terrorism)
  3. الحد من فرص انتقال الأزمة السورية عبر الحدود (Prevention of regional spillover)

وبناء على هذه المعطيات؛ فقد تركزت الجهود الدولية على حصر الصراع المسلح داخل سوريا ومنعه من الانتشار الإقليمي، دون الالتفات إلى حجم الخسائر البشرية والانتهاكات الإنسانية التي يتعرض لها الشعب السوري والتي تم التوافق على تأجيل حسمها حتى انعقاد مؤتمر "جنيف2" الذي لم يحدد موعده بعد!
وفي الوقت الذي كانت تتبادل فيه موسكو وواشنطن التهنئة بنجاح الدبلوماسية في حمل النظام على التخلي عن سلاحه الكيميائي، وتأمين "دول الجوار" من خطر أسلحة الدمار الشامل؛ كان الشعب السوري يقف مدهوشاً من هذه الصفقة الدولية التي لم تكن تعنيه بأي صورة من الصور؛ إذ إن آلة القتل المتمثلة في الأسلحة "التقليدية" قد استمرت في التدفق على نظام دمشق حتى في يوم إعلان اتفاق كيري-لافروف، في حين منحت الاتفاقية بشار أسد وضباطه المزيد من الوقت لممارسة الانتهاكات وضمنت إفلاتهم من المحاسبة أو العقاب.
وبدلاً من البحث عن مصادر القوة الداخلية لديها؛ راهنت المعارضة السياسية على الدبلوماسية الدولية فأعلنت موافقتها على المشاركة في مؤتمر "جنيف2" المرتقب دون أية شروط مسبقة، وذلك لدفع القوى الدولية إلى الاعتراف بعمق الأزمة الإنسانية في البلاد (Humanitarian crisis)، والعمل على تحقيق الاعتراف الدولي بها كممثل شرعي للشعب السوري (International recognition)، وتمكينها من أجهزة الإدارة والحكم (Empowerment of the opposition)، لكنها أدركت متأخرة أن "المجتمع الدولي" كان مشغولاً بحصر دائرة الصراع الدموي داخل الحدود السورية بدلاً من وقف القتال وإنهاء معاناة السوريين.


وقد أظهرت تفاهمات "كيري-لافروف" عمق المأزق السياسي لدى المعارضة التي أقصيت عن المفاوضات الدولية نتيجة عجزها عن فهم المعادلة الدولية وفشلها في صياغة إستراتيجية موحدة للتعامل مع المجتمع الدولي، خاصة وأن الصفقة الدولية قد هدفت إلى منع انتشار الصراع المسلح عبر تركيزه في الداخل السوري، مما ينذر بمضاعفة وتيرة العنف وزياد معاناة الشعب إن لم تبادر قوى الثورة إلى الأخذ بزمام المبادرة عبر صياغة إستراتيجية سورية محضة تحقق مصالح الشعب السوري بالدرجة الأولى وتدرأ عن الثورة المخاطر الكامنة في اتفاقية كيري-لافروف؛ خاصة وأن أطراف التوافق الدولي قد صنفت الجسد العام للمعارضة المسلحة ضمن دائرة "الإرهاب"، واعتبرت أن المعارضة السياسية غير متوافقة مع المصالح الغربية، ولذلك فإنها تعمل على صياغة حيل دبلوماسية للمحافظة على النظام.
ولا بد من الاعتراف بأن المعضلة الرئيسة في السلوك السياسي لدى قوى المعارضة يكمن في رهانها على الشق الخارجي من المعادلة السياسية، في حين تغيب الجهود المخلصة لتعزيز الجبهة الداخلية، وإدارة المناطق المحررة، وتخفيف معاناة اللاجئين الذين يعانون من ظروف قاسية، وتجنيب البلاد مخاطر التفكيك والصراع المجتمعي.
وبدلاً من الانخراط في الدبلوماسية الدولية المتعثرة والخضوع لمشاريع التقسيم؛ فإنه يتعين على المؤسسات التي تدعي تمثيل المعارضة السورية أن تعي مخاطر الانزلاق في شرك الاستقطاب الإقليمي الذي لا يعود على الشعب السوري بخير، وأن تدرك مكامن قوتها المتمثلة في: حسن تمثيل قوى الثورة والتأليف فيما بينها لتشكل جبهة موحدة تمثل طرفاً مؤثراً في المعادلة السياسية بدلاً من أن تتحول إلى عنصر متأثر بالتجاذب الدولي.


ومن المهم كذلك أن تستفيد المعارضة من دروس تجربة "سايكس-بيكو" بالأمس لدى العمل في مرحلة "كيري-لافروف" اليوم:
ففي الفترة 1916-1920 وثق الأمير فيصل بن الحسين بالدبلوماسية الغربية، وركن إلى وعود الإنجليز، وكان له دور بارز في إضعاف المقاومة الشعبية ضد الفرنسيين بهدف منح الدبلوماسية الدولية فرصة لحل الخلاف المستعصي بين القوى الاستعمارية؛ فتجاهل الحشود الفرنسية في لبنان عام 1919، وأمر قواته بالتراجع عن استحكاماتها في مجدل عنجر، ثم أمر بتسريح الجيش الوطني طبقاً لشروط الإنذار الذي أصدره الجنرال غورو عام 1920، بل إنه أوفد أخاه الأمير زيد على رأس فرقة عسكرية لمقاومة الجنود الذين ثاروا احتجاجاً على هذا القرار وهاجموا مخازن السلاح لتوزيعها على الأهالي الذين شاركوهم في المطالبة بالدفاع عن أنفسهم أمام التقدم الفرنسي، فأوقعت قوات الأمير فيصل بهم أكثر من مائة قتيل وثلاثمائة جريح.
وقد اعترف فيصل بمسؤوليته عن هذه الكارثة في خطاب أرسله إلى رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج عام 1920، بقوله: 
"لقد وثقت بكلمة الجنرال غورو واعتمدت على وعده بألا يسمح للجيوش الفرنسية بالتقدم، فأخليت المراكز من الجند وسرحت قسماً كبيراً من الجيش وأجبت أنا الرجل الأعزل بأنني أرفض الحرب، وكنت أعرف أن موافقتي على الشروط الجديدة لا بد أن تثير حرباً أهلية في دمشق فقد أعطيت الجنرال غورو عهداً صريحاً بأن أنفذ شروط 14 تموز بالحرف طالباً إليه لقاء ذلك إيقاف الجيوش الفرنسية عن التقدم نحو دمشق فكان جوابه إطلاق النيران على الجيوش النظامية والمتطوعين. على أنني بالرغم من هذا كله أصدرت الأمر إلى النظاميين الذين نجوا من القنابل بإلقاء السلاح فأبيدت فرقة من الجنود البواسل تحت قيادة البطل يوسف العظمة وهي في مكانها".
لكن بريطانيا تجاهلت مخاطبات فيصل، وآثرت التخلي عنه إرضاء لحلفائها في باريس، راضية من فرنسا بالموافقة على ضم الموصل ضمن سلطة بريطانيا الانتدابية في العراق وبتنازل باريس عن المنطقة الجنوبية-الغربية التي تعهد البريطانيون بجعلها وطناً قومياً لليهود، وقد عبر فيصل عن مشاعر الإحباط في خطاب ألقاه في حديقة قصره بعد عودته من أوروبا عام 1920 بقوله:
"تخلت بريطانيا العظمى عنا في آخر لحظة إرضاء لحليفتها فرنسا، ذات المصالح الاقتصادية والثقافية في هذه البلاد، وتجنباً من إثارة الخلاف والمشادة بين حليفتين حاربتا جنباً إلى جنب حتى أحرزتا مع سائر حلفائهما النصر ".
لقد أدرك فيصل متأخراً أنه قد استخدم من قبل القوى الدولية لتمرير مشاريع تفتيتية للمنطقة العربية، وبدأت مع رحيله مرحلة جديدة من التقسيم الطائفي في البلاد...
فهل تستفيد المعارضة السورية من دروس التاريخ؟

المقالات المنشورة هي لأعضاء الهيئة، وتعبر عن آراء كاتبيها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الهيئة