الجمعة 17 شوّال 1445 هـ الموافق 26 أبريل 2024 م
الاضطرابات النفسية والبدنية المصاحبة لمرض "الهُوال"
الخميس 11 ذو القعدة 1433 هـ الموافق 27 سبتمبر 2012 م
عدد الزيارات : 27677

الاضطرابات النفسية والبدنية المصاحبة لمرض "الهُوال"
Posttraumatic Stress Disorder

الدكتور محمد كمال الشريف
استشاري الطب النفسي بمستشفى الصحة النفسية بنجران - السعودية

 

 

تسمية مقترحة لاضطراب ما بعد الصدمة:
يحدث هذا الاضطراب في الأشخاص المهيئين له إن هم تعرضوا إلى شدة نفسية يشعرون أثناءها بالرعب الشديد والعجز عن فعل أي شيء. وفي البداية كان التركيز في تحديد هذا المرض على كون الشدة أو الكرب الذي يتعرض له الشخص كرباً غير عادي أي كرباً كارثياً. لكن تعرض أشخاص مختلفين للشدة ذاتها وإصابة بعضهم بالاضطراب وعدم إصابة الآخرين جعل الباحثين يركزون على العوامل الكامنة في الشخص المرضوض نفسياً بسبب هذه الشدة. فصار من معايير التشخيص أن يكون الشخص قد شعر بالرعب الشديد والعجز الشامل عن فعل أي شيء أثناء تعرضه للكرب الذي رضه نفسياً وسبب له اضطراب  PTSD 
هنالك ارتباك في تسمية هذا الاضطراب في اللغة الطبية العربية:  اضطراب ما بعد الرضخ, اضطراب ما بعد الصدمة,  اضطراب ما بعد الشدة الراضَّة.... إلخ.
تشتق العرب أسماء الأمراض على وزن فُعال، فأقترح اشتقاق اسم هذه الحالة المرضية من كلمة هَوْل التي تُجْمَع على أهوال فيكون  "الهُوال"؛ فالهَول في اللغة العربية يعني الفزع والخوف الشديد.

الاضطرابات النفسية والبدنية المصاحبة لمرض "الهُوال" PTSD
  قلما نصادف مريضاً يعاني من "الهُوال" دون أن يعاني من اضطرابات نفسية أخرى مصاحبة كان يعاني منها قبل، أو ظهرت لديه بعد إصابته به, حيث تبلغ نسبة الذين يعانون من اضطراب نفسي آخر مع الهُوال 80 %. كما أظهرت الدراسات الحديثة أن المصابين بالهُوال معرضون للإصابة بعدد من الأمراض البدنية أكثر من غيرهم بسبب التغيرات الفيزيولوجية المصاحبة للهُوال.
بعض الذين يتعرضون لشدة نفسية راضة قد يعانون من أعراض "هُوالية" لا تدوم طويلاً لكنها تخلف وراءها اكتئاباً نفسياً يؤثر في جميع جوانب حياة الشخص, ومع ذلك يعاني حوالي نصف مرضى "الهُوال" من الاكتئاب في الوقت ذاته. إن وجود الاكتئاب مع "الهُوال" يجعل أعراض "الهوال" أشد, ويكون مقدار التعطيل والخلل في قدرة المصاب على أداء أدواره الحياتية أعظم, ويصبح علاج "الهُوال"  والاكتئاب أصعب مما لو كانت الإصابة بأحدهما فقط.
ففي الاكتئاب وحده قد يفيد العلاج الدوائي ويحقق تحسناً كاملاً أو شبه كامل دون أي شيء آخر لكن عندما يكون "الهُوال" معه لا بد من العلاج النفسي إضافة للعلاج الدوائي لنحقق نتائج مرضية. وبالمقابل غالباً ما لا يكفي العلاج النفسي وحده في "الهُوال" إن كان الاكتئاب مصاحباً له.
وفي الغالب تكون أعراض "الهُوال" والاكتئاب أشد عندما يجتمعان ويكون الميل إلى الانتحار أكبر.
يميل الاكتئاب وحده لأن تكون له هجمات يفصل بينها فترات هجوع مما يجعل فرص السيطرة الكاملة على أعراضه والوصول إلى الهجوع الكامل أمراً ممكناً في كثير من الحالات. بينما يميل "الهُوال" إلى بقاء الأعراض قوية وملموسة طيلة فترة المرض التي قد تبلغ سنين عديدة أو تستغرق حياة المريض كلها. وهذا يجعل إمكانية وصول المريض إلى هجوع تام للأعراض الاكتئابية أقل مما لو كان يعاني من الاكتئاب وحده وتلقى العلاج المناسب.

كما إنه كثيراً ما تصاحب اضطرابات قلقية أخرى مرض "الهُوال", مثل قلق الفراق, والقلق العام, ونوبات الرعب, ورهاب الخلاء. حيث  يكثر  قلق الفراق  Separation Anxiety عند الأطفال الذين تعرضوا لهول ما، وقد يكون قلق الفراق وحده ما يصيبهم بعد شدة نفسية راضَّة.
هنالك قرابة وتشابه بين "الهُوال" ورهاب الخلاء حيث يتجنب مريض الهوال أماكن معينة مرتبطة في ذهنه بالشيء الذي أخافه.
ويصنف "الهُوال" كأحد أنواع القلق النفسي لذا ليس من المستغرب أن يعاني المصاب بالهوال من القلق النفسي العام من قبل الهوال أو من بعده.
نوبات الرعب ومرض الهلاع أو الرعاب _ إن استسغتم هذه التسمية _ هو من الاضطرابات النفسية التي كثيراً ما نصادفها لدى مريض "الهُوال" وهي تعقد الصورة السريرية وتجعل العلاج أصعب ويحتاج إلى مشاركة العلاجين الدوائي والنفسي وبشكل مكثف.
إن حالات الذهول والانفكاك التي غالباً ما يمر بها الشخص أثناء تعرضه للاعتداء أو الكرب الرّاض من أي نوع تذكرنا بالاضطرابات التحويلية بكافة أشكالها وباضطراب "الجسدنة" ذي القرابة لها حيث تكثر الأعراض التي كنا نسميها هستيرية والآن تسمى تحويلية أو انفكاكية.
كما تكثر الشكاوى البدنية المتنوعة التي لا يجد لها الأطباء تفسيراً عضوياً ولا تكون نمطية لما هو معروف في الأمراض العضوية.  وإن كان أغلب المرضى المصابين "الهُوال" ولديهم أعراض بدنية لا أساس عضوياً لها لا يحققون المعايير الكافية لتشخيص اضطراب "الجسدنة" Somatization Disorder  لديهم لكن أعراض "الجسدنة" عندهم تعقد الأمور وتصعِّب العلاج.
والتعاطي والإدمان وبخاصة على الكحول مشكلة كثيراً ما يقع فيها مريض "الهُوال" عندما يحاول التخلص من مشاعره المؤلمة بتسكينها بالخمر أو المخدر. فالمصاب بالهُوال يتجنب كل ما يذكره بالهول الذي مر به.. لكن التفكير بما حدث وصوراً متفرقة مرعبة من الموقف الراض تفرض نفسها عليه.. فيلجأ إلى ما يريحه منها ولو إلى حين.. ويقع في فخ التعاطي الذي قد يتحول إلى إدمان.

عندما يتعرض الإنسان وحتى الحيوان لموقف مرعب يستنفر جسمه استعداداً إما لأن يضرب أو يهرب, ومن أجل ذلك تتنبه الجملة العصبية الودية تنبهاً شديداً, لكن ما أن يزول الشعور بالخطر حتى يعود الجسم بالتدريج إلى حالته الفيزيولوجية الطبيعية, وبما أن الاستنفار يكون عادة عابراً ومؤقتاً فإنه غالباً لا يسبب أي ضرر لصحة الإنسان. لكن في مرض "الهُوال" يعيش الشخص حالة كرب واستنفار دائمة ويصبح فرط النشاط الودي هو الطبيعي عنده. والاستنفار مفيد لكنه إن طال فإنه يرهق الكائن الحي ويؤذي صحته.

  هنالك تغيرات فيزيولوجية لدى مريض "الهُوال" استطاع الأطباء قياسها وإثباتها تكون ضارة لصحته عندما تستمر زمناً طويلاً. منها سوء تنظيم محور ما تحت المهاد – النخامية – الكظر. ومنها تبدل في المعايير المناعية, ومنها تبدلات في بنية المخ ووظائفه, ومنها تبدل مستوى الارتكاس الفيزيولوجي الحاصل عند ظهور ما يذكر بالأمر الراض.

إن التعرض لشدة نفسية شديدة يترك جسم الإنسان في ارتفاع دائم في سرعة القلب حتى في وقت الراحة, ويتركه في فرط تنبه ودي كلما صادف ما يذكره بما هاله وأفزعه, وذلك لسنين عديدة, حتى لو لم تتطور الحالة إلى هُوال قابل للتشخيص.

كما إن كثيراً ممن تعرضوا لشدة نفسية راضة ساءت صحتهم بعدها حيث تفاقمت أمراض بدنية كانوا يعانون منها قبل الصدمة.

في الهوال المزمن والهوال المعقد  Complex PTSD الذي ينشأ في حال الكرب الراض المتكرر, لوحظ ارتفاع معدلات الإصابة بأمراض المناعة الذاتية مثل التهاب المفاصل الرثواني وداء الصدف والسكري المعتمد على الإنسولين وأمراض الغدة الدرقية.
كما أظهرت الدراسات ارتفاع معدلات المتلازمة الاستقلابية Metabolic Syndrome  عند مرضى "الهُوال" حيث يعاني الشخص من عدد من عوامل خطورة الإصابة بأمراض القلب والشرايين مجتمعة مثل: السمنة, والمقاومة للإنسولين, وارتفاع ضغط الدم, واختلال نسبة الكولستيرول وشحوم الدم, وسرعة تجلط الدم. والمتلازمة الاستقلابية تهييء للإصابة بالداء السكري وبأمراض القلب والشرايين. فإذا ما أضفنا أثر فرط التنبه الودي المزمن الناتج عن القلق النفسي الذي يميز مرض الهوال يمكننا فهم سبب ارتفاع إصابة مرضى "الهُوال"  بأمراض الشرايين التاجية واضطرابات نظم القلب التي كثيراً ما تؤدي إلى وفاة مبكرة.

يضاف إلى كل ذلك إهمال المريض لصحته وعدم حرصه على العلاج بسبب "الهُوال" أو الاكتئاب أو كليهما حيث هو فاقد للأمل وللدافع للحفاظ على الحياة.