السؤال: إذا انشقَّ عنصر من جيش النظام أو شبيحته وأتى تائبًا وتبيَّن بعد التحقيق أن في رقبته دمًا، فكيف نتعامل معه؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإنَّ باب التوبة مفتوح لكل تائب وعاصٍ ما لم تطلع الشمس من مغربها أو تغرغر الروح، فمن تابَ تابَ الله عليه، إلا أنَّ هذه التوبة لا تمنع استيفاء حقوق العباد منه، وفق التفصيل التالي:
أولاً: الواجب على كل من يقاتل في صف النظام أن يُبادر بالتوبة إلى الله من هذا الجُرم العظيم الذي يقوم به، وأن يُسارع للانشقاق عنه، ولا يمنعه من التوبة ما ارتكبه من آثام في حق الناس؛ فإنَّ باب التوبة مفتوح لا يُغلق حتى تبلغ الروح الحُلقوم.
قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 35].
قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الذُّنُوبِ، مِنْ كُفْرٍ وَشِرْكٍ، وَشَكٍّ وَنِفَاقٍ، وَقَتْلٍ وَفِسْقٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ: كُلُّ مَنْ تَابَ مِنْ أَيِّ ذَلِكَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ".
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ)، رواه أحمد، ومعناه: ما لم تبلغ روحه الحلقوم.
ولا يملك أحدٌ من العباد منعَ التوبة عن إنسانٍ مهما ارتكب من الجرائم، فقد أخبرنا نبيا محمد -صلى الله عليه وسلم- عن رجل من بني إسرائيل قتل مئة نفس ثم تاب، وتاب الله عليه.
ثانياً: من تاب إلى الله –تعالى- من هذه الجرائم وانشقَّ عن النظام قبل القدرة عليه، فلا يُحاسب على الجرائم التي ارتكبها خلال الأعمال العسكرية والتي هي من طبيعة الحرب، ولا يضمن شيئاً أتلفه من الأنفس والأموال مما وقع خلال القتال والاشتباك.
فقد نصَّ العلماء -رحمهم الله تعالى- على أنَّ جنايات البُغاة والخوارج والكفار والمرتدين في الحرب: لا ضمان فيها.
قال الإمام الشافعي –رحمه الله- في "الأم": "وَإِذَا ارْتَدَّ قَوْمٌ عَنْ الْإِسْلَامِ فَاجْتَمَعُوا وَقَاتَلُوا فَقَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ، فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَإِذَا تَابُوا لَمْ يُتْبَعُوا بِدَمٍ وَلَا مَالٍ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَ لَا يُتْبَعُونَ؟
قِيلَ : هَؤُلَاءِ صَارُوا مُحَارِبِينَ حَلَالَ الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ، وَمَا أَصَابَ الْمُحَارِبُونَ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُمْ، وَمَا أُصِيبَ لَهُمْ لَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ قَتَلَ طُلَيْحَةُ عُكَاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ وَثَابِتَ بْنَ أَقْرَمَ، ثُمَّ أَسْلَمَ هُوَ فَلَمْ يَضْمَنْ عَقْلًا وَلَا قَوَدًا". والعقل: الدية.
وقال ابن تيمية –رحمه الله- في "الفتاوى": "اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ: أَنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ بَعْدَ إسْلَامِهِمْ مَا أَتْلَفُوهُ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُمْ بَاطِلًا.
كَمَا أَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمُتَوَاتِرَةَ عَنْهُ مَضَتْ بِأَنَّ الْكُفَّارَ إذَا قَتَلُوا بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَتْلَفُوا أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ أَسْلَمُوا لَمْ يَضْمَنُوا مَا أَصَابُوهُ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ.
وَأَصْحَابُ تِلْكَ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ كَانُوا يُجَاهِدُونَ، قَدْ اشْتَرَى اللَّهُ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ، فَعِوَضُ مَا أُخِذَ مِنْهُمْ عَلَى اللَّهِ لَا عَلَى أُولَئِكَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ".
ولا فرقَ في هذا بين أن يكون التائب كافراً أصليًا، أو مرتداً، أو معاهداً ، أو مسلماً ظالماً باغياً.
قال ابن حجر الهيتمي –رحمه الله- في "تحفة المحتاج": "لَوْ ارْتَدَّتْ طَائِفَةٌ لَهُمْ قُوَّةٌ وَأَتْلَفُوا مَالًا أَوْ نَفْسًا ثُمَّ أَسْلَمُوا، لَمْ يَضْمَنُوا عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوص".
وقال ابن قدامة –رحمه الله- في "المغني": "وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ الْمُرْتَدُّ بَعْدَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ كَوْنِهِ فِي جَمَاعَةٍ مُمْتَنِعَةٍ: لَا يَضْمَنُهُ".
ثالثًا: أما الجرائم التي ارتكبها المنشقُّ مما لا يتعلق بالأعمال العسكرية الحربية المعتادة، كـالاغتصاب، أو قتل المدنيين عمداً، أو السرقة من بيوتهم، ونحو ذلك، فتوبته لا تمنع استيفاء حقوق الآدميين منه؛ لأنها جنايات خاصة لا تعلُّق لها بالحرب، وليست من أعماله، والتوبة لا تسقط حقوق العباد.
قال النووي –رحمه الله- في "روضة الطالبين": "فَلَوْ أُتْلِفَ فِي الْقِتَالِ مَا لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْقِتَالِ، وَجَبَ ضَمَانُهُ قَطْعًا".
وقال ابن تيمية –رحمه الله- في "الصارم المسلول": "إنَّ صِحة التوبة فيما بينه وبين الله لا تُسقط حقوق العباد من العقوبة المشروعة في الدنيا، فإنَّ من تابَ من قتلٍ أو قذفٍ أو قطعِ طريقٍ أو غير ذلك فيما بينه وبين الله، فإنَّ ذلك لا يسقط حقوقَ العباد من القَوَد وحدّ القذف وضمان المال". والقَوَدُ: القصاص.
ولكن لا تؤخذ الحقوق منه أو يقام القصاص عليه إلا بعد مطالبة أولياء الدم بذلك .
قال البهوتي –رحمه الله- في " كشاف القناع ": " وَأُخِذَ [أي حُوسب] مَنْ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَالْخَوَارِجِ، وَالْبُغَاةِ، وَالْمُرْتَدِّينَ: بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْجِرَاحِ، إلَّا أَنْ يُعْفَى لَهُمْ عَنْهَا".
رابعًا: ما سبق من أحكامٍ إنما هو فيمن جاء تائباً قبل القدرة عليه، وأما من تابَ بعد القدرة عليه فإن هذه التوبة لا تنفعه في الأحكام الدنيوية؛ لأنَّها توبةُ إكراه واضطرار غالباً، ويكون حكمه حينئذ حكم الأسير يُفعل فيه ما هو الأصلح من قتل أو منٍّ أو فداء.
قال الماوردي –رحمه الله- في "الحاوي": "أَمَّا التَّوْبَةُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ، فَلَا تَأْثِيرَ لها فِي إِسْقَاطِ حَدٍّ وَلَا حَقٍّ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الصارم المسلول" : "والذمي إذا حارب وسعى في الأرض فسادا وجب قتله وإن أسلم بعد القدرة عليه ".
وقال : " فإن الرجل إذا اقترن بردته قطع طريق ، أو قتل مسلم ، أو زنى ، أو غير ذلك ، ثم رجع إلى الإسلام أُخذت منه الحدود ، وكذلك لو اقترن بنقض عهده : الإضرار بالمسلمين من قطع طريق أو قتل مسلم أو زنى بمسلمة ، فإن الحدود تستوفى منه بعد الإسلام".
وينظر فتوى: حكم من وقع أسيراً في أيدينا من جنود النظام السوري.
وفتوى: حكم تلفظ جنود النظام وشبيحته بالشهادتين بعد التمكن منهم.
وفتوى : حكم استيفاء الحقوق من الأعداء بعد إعطائهم الأمان.
نسأله سبحانه وتعالى أن ينصر إخواننا المجاهدين، وأن يقطع دابر المجرمين المفسدين، والحمد لله رب العالمين.