السبت 2 ربيع الآخر 1446 هـ الموافق 5 أكتوبر 2024 م
هل يجوز جعلُ المهرِ منفعةً معنوية؟
رقم الفتوى : 345
الاثنين 16 ذو القعدة 1444 هـ الموافق 5 يونيو 2023 م
عدد الزيارات : 16598

هل يجوز جعلُ المهرِ منفعةً معنوية؟

السؤال:

هل يجوز أن يكون المهرُ منفعةً أو خِدمةً للزوجة، كأنْ يستقدم زوجتَه إلى بلدٍ معين، أو يحجّجها، أو يعلّمَها القرآن؟ أو شيئًا معنويًا لا منفعةَ مالية فيه للمرأة كأنْ يقرأ الرجلُ ختمةَ قرآنٍ أو أن تطلب الزوجة أن يحفظ القرآن ونحو ذلك مما لا نفع مالي لها فيه؟

الجواب:

الحمدُ لله، والصلاة والسلامُ على رسول الله :

ذهب عامةُ العلماء إلى اشتراط كونِ المهر مالًا أو منفعةً يصحُّ أنْ تؤخذ الأجرةُ عليها، ولا يصحُ جعلُ المهرِ شيئًا معنويًا لا منفعةَ مالية للمرأةِ فيه، وبيانُ ذلك:

أولًا:

المهرُ والصَّداقُ من الحقوق التي فرضها الله للمرأة على الرجل إذا رغب بنكاحها؛ لقول الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]، والنِّحْلةُ هاهنا: الفريضة، أي: أعطوا النساء مهورَهن عطيّةً واجبةً، وفريضةً لازمةً.

والمهرُ فرضٌ في كلِّ نكاحٍ إلا أنَّ ذِكرَه في العقد ليس شرطًا لصحة النكاح، فيجوز إخلاءُ النكاح عن تسميته باتفاق الفقهاء؛ لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}[البقرة: 236].

ثانيًا:

لم يجعل الشرعُ للمهرِ قدرًا معيَّنًا، بل تركه لاتفاق وتراضي الزوجين، فلم يجعل له حدًّا أدنى لا يجوز النقصانُ عنه، ولا حدًّا أعلى لا تجوز الزيادةُ عليه.

والأحاديثُ التي فيها تحديدُ أقلِّ المهر بعشرةِ دراهمَ أو ربعِ دينارٍ أو غيرِ ذلك: كلُّها ضعيفةٌ.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "وقد وردت أحاديثُ في ‌أقلِّ ‌الصَّداق ‌لا ‌يثبت منها شيءٌ".

ولم يختلف الفقهاءُ في أنّه لا حدَّ لأكثرِه؛ لقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً}[النساء: 20] ، والقِنطارُ: المالُ الكثير.

قال ابن عبد البر في الاستذكار: "وقد أجمعوا أنْ لا حدَّ ولا توقيتَ في أكثرِه".

والأفضلُ أن يكون المهرُ وسطًا مقتصدًا، فلا يُغالَى فيه، فيَعزِف الشبابُ عن الزواج؛ لعدم قدرتهم عليه، وينتشر الفسادُ والرذيلةُ، وتكثر العُنوسةُ.

ولا يُبخَسُ، بحيث لا يكون له في النفوسِ قيمةٌ ولا أثرٌ، فتهون بذلك المرأةُ عند الجاهلِ ومَن لا يقدّرُ الأمورَ قدْرَها.

قال الماوردي في الحاوي الكبير: "الأَوْلَى أَنْ يَعْدِل الزَّوجانِ عنِ التَّناهي في الزِّيادةِ الَّتي يَقْصُرُ العُمُرُ عَنْها؛ وعَنِ التَّناهِي فِي النُّقْصانِ الَّذي لا يَكُونُ لَهُ في النُّفُوسِ مَوقِعٌ؛ وخَيرُ الأُمُورِ أَوْساطُها".

وقال الجويني في نهاية المطلب: "السرف والمغالاة في المهر غير محبوب، والقصدُ هو المستحسن".

وإن كان قد يُعدل عن ذلك في حالاتٍ خاصّةٍ؛ فيزوِّجُ الرجلُ ابنتَه بمهرٍ قليلٍ لمن كان فقيراً يُرضى دينُه وخُلُقُه، ويُرجى منه حسنُ العِشرة، كما فعل سعيدُ بنُ المسيَّبِ حينما زوَّج ابنتَه بدرهمين لطالبٍ مِن طلّابه.

ثالثًا:

المهرُ والصَّداقُ يكون:

1-مالًا: مِن نقد، أو عقارٍ، أو أثاثٍ، أو بضاعةٍ، أو غيرِ ذلك مِن الأشياء العينية التي لها قيمة.

2-أو منفعةً معلومةً مباحةً يقدّمها الرجل للمرأة، كما في قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}[القصص: 27].

أي: قال الرجل الصالح لموسى عليه السلام: إني أُريد أنْ أزوِّجَك واحدةً مِن ابنتيَّ هاتين على أن يكون مهرُها أن تعمل عندي أجيرًا لرعي الغنم ثماني سنوات، فإنْ أتممت عشرًا في الخدمة والعمل فهو منك تفضُّلٌ وتبرعٌ.

ومِن ذلك: أن يكون المهرُ تعليمَها قراءةَ القرآنِ، أو قدْرًا متَّفَقًا عليه منه، أو إصلاحَ دارِها، أو زراعةَ أرضِها، ونحو ذلك.

قال البغوي في شرح السنة: "كلُّ عملٍ جاز الاستئجار عليه، جاز أنْ يجعله صَداقًا".

وقال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: "لو تزوَّجَها على أن يَخيطَ لها كُلَّ شَهرٍ ثَوبًا صَحَّ أيضًا؛ إذ لا فرق بين الأعيانِ والمنافِعِ".

والقاعدة في هذا الباب : (كلُّ ما صحّ أُجرةً أو ثمنًا صحَّ مهرًا).

وبناءً على ما تقدم: يتبين صحةُ جعلِ المهرِ ما فيه منفعةٌ ماليةٌ للمرأة كالحجِّ بها، أو تعليمِها قراءة القرآن أو تحفيظها أجزاءً منه، أو تدريسِها في جامعة معينة، أو رضيت أن يكون مهرها استقدامها إلى بلد آخر وتحمل الزوج تكاليف السفر، ونحو ذلك.
ولكنَّ الأَولى تركُ ذلك، والاقتصارُ على كون المهر مالاً أو عيناً مالية؛ خروجًا من الخلاف؛ إذ إنّ جمعًا كثيرًا من أهل العلم لا يجيزون كونَ المهرِ منفعةً تعود إلى المرأة.

رابعًا:

ذهب عامّةُ العلماء-ومنهم المذاهب الفقهية الأربعة - إلى أنَّ المهرَ لا يصحُّ أن يكون شيئًا لا يعود على المرأة بالنفع، مثل أن يقرأ الرجل ختمة من القرآن، أو أن يحفظه، أو أن يدخلَ في الإسلام، أو أن يذهب بنفسِه للحج، أو أن يحافظَ على الصلاة، أو أن يترك شرب الخمر أو الدخان، أو أن يترك لَعِبَ القِمار، ونحو ذلك. 

والأصلُ فيه قوله تعالى: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}[النساء: 24].

قال ابن حجر في فتح الباري: "وأما قوله تعالى {تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} فإنه يدلُّ على اشتراط ما يسمَّى مالًا في الجملة قلَّ أو كثُر".

وقال ابن العربي في أحكام القرآن: "لـمّا أمر اللهُ تعالى بالنكاحِ بالأموال لم يَجُزْ أن يُبذل فيه ما ليس بمال. وتحقيقُ المال ما تتعلق به الأطماعُ، ويُعْتَدُ للانتفاع".

وقال القرطبي في تفسيره: "أباح الله تعالى ‌الفروجَ ‌بالأموالِ ولم يُفصِّلْ، فوجب إذا حصل بغير المال ألا تقع الإباحةُ به؛ لأنها على غير الشرط المأذون فيه".

وقال ابن قدامة في المغني: "الصَّداقُ لا يكون إلا مالًا؛ لقول الله تعالى {تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}".

وخلوُّ النكاح مِن المال يؤدّي  لتخلُّف بعض مقاصد النكاح.

قال الكاساني في بدائع الصنائع: "مصالح النكاح ومقاصده لا تحصل إلا بالموافقة، ولا تحصل الموافقة إلا إذا كانت المرأة ‌عزيزةً ‌مكرمةً ‌عند ‌الزوج، ولا عزة إلا بانسداد طريق الوصول إليها إلا بمالٍ له خَطَرٌ عنده؛ لأن ما ضاق طريقُ إصابتِه يعزُّ في الأعين، فيعزُّ به إمساكُه.

وما يتيسر طريقُ إصابتِه يهون في الأعينِ، فيهون إمساكُه، ومتى هانت في أعين الزوج تلحقها الوحشةُ، فلا تقع الموافقةُ، فلا تحصل مقاصدُ النكاح".

 

وخالف في ذلك بعض أهل العلم فقالوا بجواز جعْلِ ما ليس له منفعةٌ ماليةٌ مهرًا لها، واستدلوا على ذلك بحديث: (زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ) متفق عليه، وقصة زواج أم سليم مِن أبي طلحة رضي الله عنهما، وأنها جعلت إسلامَه مهرَها.

والجوابُ عن ذلك:

1- أنَّ قولَه صلى الله عليه وسلم: (زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ) محمولٌ على تعليمِه لها القرآن، لا على كونِ ما يحفظُه مِن القرآن مهرَها حقيقةً، وفي رواية مسلم: ‏(‏انْطَلِقْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا، فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ‏).

قال ابن عبد البر في التمهيد: "ولا وجهَ لقولِ مَن قال: إنّ ذلك كان مِن أجل حُرْمةِ القرآن، ومِن أجل كونِه مِن أهل القرآن؛ لأنَّ في الحديث ما يبطل هذا التأويل؛ لأنه قال: (التمس شيئًا) ثم قال له: (التمس ولو خاتمًا مِن حديدٍ) ثم قال له: (هل معك مِن القرآن شيء؟ فقال: سورةُ كذا، فقال قد زوجتكها بما معك من القرآن) أي بأنْ تعلِّمَها تلك السورةَ مِن القرآن".

2- أنّ زواجَ أمِّ سُليم  رضي الله عنها كان قبل إيجاب المهر؛ لأنّ أبا طلحة كان مِن أوائل الأنصار إسلامًا قبل الهجرة النبوية.

قال ابن حزم في المحلى: "وهذا لا حجةَ لهم فيه لوجهين:

أحدهما: أنّ ذلك كان قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدة؛ لأنّ أبا طلحة قديمُ الإسلام، مِن أول الأنصارِ إسلامًا، ولم يكن نزل إيجابُ إيتاءِ النِّساءِ صَدُقاتهن به.

الثاني: أنه ليس في ذلك الخبر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ذلك".

خامسًا:

لو انعقد النكاح وحُكِم بفساد المهرِ، فإنّ النكاح لا يفسد، بل يكون صحيحًا، وللمرأةِ مهرُ أمثالها ونظرائِها مِن النساء ممن تساويها في الصفات.

قال الماوردي في الحاوي الكبير: "فسادُ الصَّداق لا يُوجِب فسادَ النكاح، ويكون لها مهرُ مثلِها".

وقال الغزالي في الوسيط: "وقاعدةُ الباب: أنّ النكاحَ لا يَفسدُ بفسادِ الصَّداقَ؛ لأن المذهبَ الصحيحَ أنّ النكاحَ الخاليَ عن ذِكر الصَّداقِ: ينعقدُ موجِبا للصَّداقِ، تعبُّدًا؛ فلا يؤثّر ذكرُ الصّداقِ إلا في التعيين والتقدير، فيفسد التعيينُ والتقديرُ، ويبقى وجوبُ مهرِ الـمِثل".

وقال ابن قدامة في المغني: "لها مهرُ المثل، وكذلك كلُّ موضعٍ قلنا: لا تصحُّ التّسميةُ -يعني تسمية المهر-".

والله أعلم