الثلاثاء 9 رمضان 1445 هـ الموافق 19 مارس 2024 م
الاعتداء والاقتتال بين الفصائل والأحكام المترتبة عليه
الأحد 24 ربيع الآخر 1438 هـ الموافق 22 يناير 2017 م
عدد الزيارات : 56436

 

الاعتداء والاقتتال بين الفصائل والأحكام المترتبة عليه


السؤال: تقع اعتداءاتٌ مِن بعض الفصائل المقاتلة في سورية على بعضها الآخر، وقد يترتب على ذلك سفك للدماء، أو استحواذ على المقرات والأسلحة، وربما سُوّغ القتال بأنه لتنقية الصفوف من المتخاذلين عن قتال النظام، أو معاقبة الفاسدين، أو من أجل فرض الوحدة والاندماج. فما الموقف الشرعي من هذه الاعتداءات؟ وما هي الأحكام الشرعية المتعلقة بالأنفس والأموال والأسلحة التي تضررت بسببها؟  

 

الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصّلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فمِن المحرمات القطعية في الشّريعة الإسلامية ما يحصل مِن بعض الفصائل المقاتلة مِن بغيٍ وعدوان على الفصائل المجاهدة بسفك دمائها، وغصب أموالها تحت ذرائعَ متنوعة.

والواجبُ عند النِّزاع والخصام التّحاكمُ إلى الشّرع عبر لجانِ تحكيمٍ أو صلحٍ يُتفق عليها، كما يجب على بقية الفصائل السّعيُ لإصلاح ذات البَين، ونصرةُ المقتتلين بردّ المعتدي عن عدوانه، ومعاونة المظلوم في أخذ حقّه. وتفصيلُ ذلك فيما يلي:


أولاً: جاءت الشّريعة بتحريم البغي والعدوان على الآخرين، قال تعالى مبيّناً أعظمَ المحرّمات والكبائر: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
قال الطّبري في "تفسيره": "البغيُ: الاستطالةُ على الناس".
ولقد عظّم الإسلامُ حرمةَ المسلم في دمه وماله وعرضه، وكانت هذه وصيةَ النبي صلى الله عليه وسلم في حَجّة الوداع، كما في الصّحيحين مِن حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: خطبنا النّبيُّ يوم النّحر، فقال: (فإنّ دماءَكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ، كحرمةِ يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يومِ تلقون ربَّكم، ألا هل بلّغتُ؟ قالوا: نعم، قال: اللهمّ اشهد، فليبلّغ الشّاهدُ الغائب، فربَّ مبلَّغٍ أوعى مِن سامع، فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضُكم رقابَ بعض).
وقاتلُ المؤمنِ عمدًا ملعونٌ مغضوبٌ عليه، متوعَّدٌ بالعذاب الأليم في نار الجحيم، قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].
ومَن قتل نفساً فكأنما قتل النّاس جميعاً، قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. ومِن معاني الآية ما جاء في "محاسن التأويل": أنَّ "مَن قَتلَ: وجب على المؤمنين معاداتُه، وأنْ يكونوا خصومَه، كما لو قتلهم جميعًا؛ لأنّ المسلمين يدٌ واحدة على مَن سواهم".
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (لن يزال المؤمنُ في فسحةٍ مِن دينه ما لم يصب دماً حراماً) رواه البخاري.
قال في "مرقاة المفاتيح": "أي: المؤمنُ لا يزالُ موفّقاً للخيرات مًسارعاً لها ما لم يُصبْ دماً حراماً، فإذا أصاب ذلك أعيا وانقطع عنه ذلك؛ لشؤمِ ما ارتكب مِن الإثم" .
ويَعظُم جرمُ هذا الاعتداء إذا كان متوجهاً إلى قائد عسكري، أو قاضٍ، أو طالب علم، أو مَن لهم نكاية في العدو والجهاد؛ فالاعتداء على المجاهدين أو المرابطين أعظم إثماً، وأخطر جرماً، سواء كان ذلك بطريقٍ مباشر: كإخافتهم، أو سلب أموالهم، أو إخراجهم مِن مقرّاتهم وأماكن رباطهم، أو اعتقالهم، أو سفك دمائهم. أو طريقٍ غير مباشرٍ: بشقّ صفوف الفصائل المجاهدة، أو التّحريش بينها بهدف إضعاف قوتها والسّيطرة عليها، أو الكذب والافتراء والتّشويه الإعلامي، وإلقاء تهم العمالة أو الخيانة ونحوها.
فقد نهى الله تعالى المجاهدين أثناء جهادهم عن الاعتداء وقتال مَن لا يحلّ قتاله مِن الكفار، كغير المقاتلين مِن النّساء والأطفال والرُّهبان ونحوِهم، قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]، فكيف بقتال المسلم؟!
 

ثانياً: الاعتداء على المجاهدين أو إخافتهم أو سلب أموالهم مِن الحرابة وقطع الطريق، قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].
قال أبو بكر السَّرخسي في "المبسوط": "والذّاعر الذي يخوّف الناس، ويقصد أخذَ أموالهم، فكان في معنى قطّاع الطّريق؛ قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ...}" .
وقال ابن عبد البر في "الكافي في فقه أهل المدينة" : "كلُّ مَن قطع السُبُل وأخافها، وسعى في الأرض فساداً، بأخذ المال، واستباحة الدِّماء، وهتك ما حرم الله هتكَه مِن المحرمات، فهو محاربٌ داخلٌ تحت حكم الله عز وجل في المحاربين، الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فسادًا، سواء كان مسلمًا أو كافرًا، حرًّا أو عبدًا، وسواء وصل إلى ما أراد مِن أخذ الأموال والقتل، أو لم يصل".
ولا يجتمع عدوانٌ وجهادٌ في سبيل الله، فمَن يستحلُّ دماء المسلمين، وبخاصة دماء المجاهدين: ليس له اسمٌ في ديوان المجاهدين في سبيل الله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن قاتل تحت رايةٍ عِمّية يغضب لعصبةٍ، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبةً، فقُتل، فقِتلةٌ جاهلية، ومَن خرج على أمّتي، يضرب برَّها وفاجرَها، ولا يتحاشى مِن مؤمنها، ولا يفي لذي عهدٍ عهدَه، فليس مني ولستُ منه) رواه مسلم .
بل إنّ أذية عامة النّاس وتضيّق الطرق عليهم يذهب بالجهاد، كما جاء عن معاذ بن أنس الجهني قال: (غزوتُ مع نبى الله صلى الله عليه وسلم غزوةَ كذا وكذا، فضيّق الناسُ المنازل، وقطعوا الطريق، فبعث نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي في النّاس: أنّ مَن ضيّق منزلاً أو قطع طريقاً، فلا جهادَ له) رواه أبو داود، فكيف بالاعتداء على المجاهدين؟
 

ثالثًا: إذا انطلقتْ بعضُ الفصائل في اعتدائها على الفصائل الأخرى مِن الاتهام بالردّة، أو العمالة، أو الولاء للكافرين، وأنَّ القضاء عليها أولى مِن القضاء على النّظام، ولو أدى ذلك إضعاف بعض الجبهات، أو سقوط بعض المناطق في يد النظام المجرم؛ لما يزعمونه مِن خطر مشاريع هذه الفصائل على مستقبل البلاد، فقد جمعوا إلى ما سبق:
- الغلوّ في الدّين، ومشابهة الخوارج في تكفير المسلمين، والخروج على جماعتهم. قال القرطبي في "المفهم": "وذلك أنّهم لـمّا حكموا بكفرِ مَن خرجوا عليه مِن المسلمين، استباحوا دماءهم"، وقال ابن عبد البر في "الاستذكار"  : " وهم قومٌ استحلّوا بما تأوّلوا مِن كتاب الله عز وجلّ : دماءَ المسلمين، وكفّروهم بالذّنوب، وحملوا عليهم السّيف".
وللمزيد في هذه المسألة ينظر: فتوى هل تنظيم (الدولة الإسلامية) من الخوارج؟
- إعانة النّظام الكافر على المجاهدين، وتسليطه على مناطق المسلمين وإعادة حكمه وظهوره عليهم، وتمكينه مِن أرضهم، وتعريضهم للقتل، وانتهاك الأعراض، وضياع الثروات، وتغييرِ هويةِ البلاد، والرّضا بذلك، وقد يصل ذلك إلى موالاة الكفّار والخروج مِن الدّين.
 

رابعًا: لا يبيح الاعتداءَ على الفصائل الأخرى، ولا الاستيلاءَ على مقراتها وأسلحتها وأموالها ما يرميه به خصومُها مِن الفساد، أو عدم القيام بواجب الدّفاع ضدَّ العدو دون اللجوء إلى القضاء. 
ولو ثبت وجودُ المخالفات عند بعض الفصائل: فإنّ ذلك لا يُبيح الاعتداءَ عليها؛ لأنَّ إقامة جهاد الدفع مع من تلبَّس ببعض المخالفات مُقدَّم على إنكار منكره، لا سيما إذا ترتب عليه ضرر أكبر، مع أنَّ إقامةَ الجهاد في سبيل الله لا يمنع منه وجودُ الجور أو الظُّلم، ولا وقوعُ الفسق مِن بعضِ الجنود، لكن ينبغي الاجتهاد في اجتناب المنكرِ، والعمل على تخفيفه وإنكاره، وألا يعينَهم على فعله قدرَ المستطاع.
وينظر فتوى:  حكم الجهاد مع الفصائل والكتائب التي لديها مخالفات شرعية.
كما لا يُسوغ الاعتداء على الفصائل ادعاءُ أنَّ المصلحة تقتضي أنْ يُخضع القوي الضّعيف لحكمه تغلُّبًا بالقوة والقهر؛ فقد اتفق العلماء على تحريم التغلُّب ابتداءً وتجريم فاعله.
قال ابن حجر الهيتمي في "الصواعق المحرقة ": "المتغلّبُ فاسقٌ معاقَب، لا يستحق أَن يُبشّر ولا يُؤمر بالإِحسانِ فِيما تغلّب عليه، بل إِنّما يسْتَحق الزّجر والمقت، والإعلام بقبيح أفعاله وفساد أَحواله".
وقال أبو المعالي الجويني في "غياث الأمم": "فإنّ الذي ينتهض لهذا الشّأنِ لو بادره مِن غير بيعةٍ وحاجة حافزةٍ، وضرورة مستفزّة، أشعر ذلك باجترائه، وغلوِّه في استيلائه، وتشوُّفه إلى استعلائه، وذلك يَسِمُه بابتغاء العلوِّ في الأرض بالفساد ".
فلا يسوغ لفصيلٍ مِن الفصائل أن يحاول التغلّبَ على غيره ساعياً لإلغائه وإخضاعه لحكمه محتجّاً بالتغلّب؛ فليست الفصائل بمنزلة الحاكم العام في ذلك، وليس لها أحكامه.
كما أنَّ ما يدّعونه مِن تغلُّبٍ هو في حقيقته بغيٌ وظلمٌ واعتداءٌ على الأنفس المعصومة، والأموال المحترمة؛ وفي الحديث القدسي أنّ الله تعالى قال: (يا عبادي إنّي حرّمتُ الظّلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّماً، فلا تظالموا) رواه مسلم.
وهذا العدوان يفتح بابَ الشّر والفتنة بين المسلمين والمجاهدين، والقتالُ إنّما شُرع مِن أَجلِ رفع الفتنة، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193]، ولـمّا دعا أحدُهم سعدَ بن أبي وقاص رضي الله عنه للقتال الدائر بين المسلمين فأبى عليه، فقال له رجلٌ: " ألم يقل الله {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} فقال سعدٌ : قد قاتلنا حتى لا تكون فتنةٌ، وأنت وأصحابُك تريدون أنْ تقاتلوا حتى تكون فتنةٌ" رواه مسلم.
 

خامسًا: أباح الشرع لمن اعتُديَ عليه أن يردّ العدوان بمثله، كما قال تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 42]، وقال : {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت إنْ جاء رجلٌ يريد أخذَ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار) رواه مسلم .
فالقتالُ دفاعاً عن النّفسِ والمالِ جهادٌ في سبيل الله، وليس هو مِن قتال الفتنة الذي يكون بين طائفتين مِن المسلمين كلتاهما على باطل، أو يلتبس فيه أمرهما، فلا يُعلم الـمُحقّ مِن الـمُبطل، أو يتقاتلان لمغانمَ دنيوية، فالدخولُ في هذا القتال منهي عنه، وقد أُمرنا باعتزاله وعدم المشاركة فيه بأيِّ حال من الأحوال، وهو المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتلُ والمقتولُ في النّار) متفق عليه.
قال الجصاص في "أحكام القرآن" تعليقاً على هذا الحديث: "فإنّما أراد بذلك إذا قصد كلُّ واحدٍ منهما صاحبَه ظلماً على نحو ما يفعله أصحابُ العصبية والفتنة" .
أمّا قتالُ مَن ظهر ظلمُهم وبغيهم وعدوانهم وصيالهم على النفس والمال، فهو قتال مشروع؛ لكفِّ شرهم ودفع أذاهم.
قال الطّبري: "لو كان الواجبُ في كلِّ اختلافٍ يكون بين فريقين مِن المسلمين الهربُ منه ولزوم المنازل لَما أُقيم حقٌّ، ولا أُبطل باطلٌ " نقله عنه القرطبي في تفسيره.
 

سادسًا: الواجبُ على بقية الفصائل وأهل العلم والوجهاء أن يسعوا في نزع فتيل الخلاف عند وقوعه قدر الإمكان والسعي في إصلاح ذات البين، ويتأكدُ العمل على حمل الطرفين على التحاكم للمحاكم أو لجان الصلح والخضوع لحكمها، ولا يجوز لمن علم حالَ هذا الفصيل وفسادَه السكوتُ عن منكره والبقاء على الحياد، بل يجب عليه الإنكارُ بحسب الاستطاعة، والشهادة بالحق متى طُلب منه ذلك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال رجلٌ: يا رسول الله ، أنصرُه إذا كان مظلوماً، أفرأيتَ إذا كان ظالماً كيف أنصره؟ قال : تحجزه أو تمنعه مِن الظلمِ، فإنّ ذلك نَصرُه) رواه البُخَارِي.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لـمّا وقعت بنو إسرائيل في المعاصي فنهتْهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالَسوهم في مجالسهم وواكَلوهم وشارَبوهم، فضرب الله قلوبَ بعضِهم على بعضٍ ولعنهم {عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} قال: فجلس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وكان متكئاً فقال: لا والذي نفسي بيده حتى تأطُروهم على الحقّ أطراً) رواه الترمذي.
فإن لم ينكفَّ أذى المعتدي إلا بقتاله فيُشرع قتاله، قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 9، 10].
قال ابن بطال في "شرحه لصحيح البخاري": "فأمّا إذا ظهر البغي في إحدى الطائفتين، لم يحلّ لمسلم أن يتخلف عن قتال الباغية؛ لقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتي تَبْغِى حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}، ولو أمسكَ المسلمون عن قتالِ أهلِ البغي لَبطَلت فريضة الله تعالى".
كما أنَّه لا يجوز لمن علم حالَ فصيله، وما هو عليه مِن الظلم والبغي والعدوان، وسفك الدّماء، وكسب المال الحرام أن يبقى مع فصيله، ويقاتل في صفوفه، ويعيش مِن أمواله التي اكتسبها مِن طريق حرام، بل عليه مفارقتُه، والانتقال إلى فصيلٍ ليس لديه هذا البغي والعدوان.
 

سابعًا: الواجبُ على مَن دُعي إلى التّحاكم لشرع الله أن يقبل به ويخضع للحكم ولو لم يوافق هواه ورأيه، وإن كان خصمه متهمًا بالفساد، أو الردة، ونحو ذلك؛ فإنّ القبول بحكم الله تعالى مِن علامات الإيمان، كما أنّ رفضَه مِن علامات النفاق، قال تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}، [النور: 48-52].
كما أنَّ في رفض التحاكم للشرع أو التحايل عليه مشابهة لليهود الذين يفرون مِن حكم الله بأدنى الحيل، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران: 23]، وقال صلى الله عليه وسلم: (قاتل الله اليهود، إن الله لـمّا حرّم عليهم الشّحومَ جمَلوها، ثمّ باعوها وأكلوا أثمانَها). رواه أحمد.
ومِن تعطيل حكم الشرع وعدم القبول بالتّحاكم إليه: إيواءُ المعتدين من الفصائل الأخرى، ومنحهم الأمان، ومنع إقامة حكم الله فيهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لعن اللهُ مَن آوى محدثاً) رواه مسلم. قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" : "مَن نصر جانياً أو آواهُ وأجارَه مِن خَصْمه، وحالَ بينه وبين أنْ يقتصّ منه... ويكون معنى الإيواء فيه : الرضا والصبر عليه "، فلا يمنع حكم الله شيء مهما كانت الذرائع والأسباب.
 

ثامنًا: ما ترتب على هذه الاعتداءات مِن سفكٍ للدّماء واستيلاءٍ على الأموال: فيجب أداؤه والتّحلّل منه، فما كان فيه دمٌ فيكون وفاؤه بالقِصاص ممن اشترك في قتله عمداً، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]، فإن عفا أولياء الدم أو بعضهم ففيه الدية، قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178].
فإن لم يُعرف القاتل بعينه ففيه الدية على الفصيل المعتدي: فعن ابن عبّاسٍ رضي الله عنه رفعه إلى النّبي صلى الله عليه وسلّم قال: (مَن قَتل في عِمّيه أو عصبيةٍ بحجرٍ أو سوطٍ أو عصاً فعليه عَقْلُ الخطأ، ومَن قَتل عمداً فهو قوَدٌ، ومَن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله والملائكة والنّاسِ أجمعين، لا يُقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ) رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث": "والمعنى أنْ يوجدَ بينهم قتيلٌ يَعمى أمرُه ولا يتبيّن قاتلُه، فحُكمُه حكمُ قتيل الخطأ تجب فيه الدِّية ".
أمّا المقرّاتُ والأموال والأسلحة المغصوبة: فالواجبُ ردُّها إلى أصحابها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (على اليدِ ما أخذت حتى تؤدِّيَه) رواه الترمذي، وقوله: (لا يأخذْ أحدُكم متاعَ أخيه جادّاً ولا لاعباً، فإذا أخذ أحدُكم عصا أخيه فليردَّها عليه) رواه الترمذي.
فإن كانت باقيةً على حالها: فيردُّها بعينها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (مَن وجد عينَ مالِه فهو أحقُّ به) رواه أبو داود.
وإن تلفت فتردُّ قيمتُها وقتَ تلفِها، جاء في الموسوعة الفقهية: "فإنْ هَلَكَ المغصوبُ أو فُقد أو هرب ردّ الغاصبُ إلى المغصوب منه مِثلَه إن كان له مِثلٌ، أوقيمتَه إنْ لم يكن له مِثلٌ ".
ومهما طال الزّمن وتغيرت الأحوال فإنّ هذه الحقوق لا تسقط، وتبقى في ذمّة المعتدي حتى يؤدّيها أو يعفو عنها صاحبُ الحق، فالمحاربون إذا تابوا قبل القدرة عليهم تسقط عنهم حقوقُ الله تعالى دون حقوق الآدميين مِن الدّماء وما غصبوه مِن أموال.
قال ابن قدامة في "المغني": "فإن تابوا مِن قبل أن يُقدر عليهم سقطت عنهم حدودُ الله، وأُخذوا بحقوق الآدميين مِن الأنفس والجراح والأموال إلا أنْ يُعفى لهم عنها، لا نعلم في هذا خلافاً بين أهل العلم ... فعلى هذا يسقط عنهم تحتّمُ القتل والصَّلب والقطع والنّفي، ويبقى عليهم القِصاصُ في النّفس والجراح وغرامة المال والدِّية لما لا قصاص فيه".
وختامًا: ليعلم أولئك الذين يعتدون على الآخرين -مهما سوّغوا لأنفسهم وبرروا- أنهم ظالمون معتدون، وأنّ الله مطّلعٌ على ما في قلوبهم، وأنه مهما طال ظلمُهم واغتروا بقوتهم فإنّ سنة الله في الظالمين لا تتغير ولا تتبدّل مهما رفعوا مِن شعارات، وزينوا خطاباتهم بالنّصوص والآيات، وأنّ عاقبة أمرهم ومشروعهم الخسران؛ فـ {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81].
والحمد لله رب العالمين،،