الجمعة 19 رمضان 1445 هـ الموافق 29 مارس 2024 م
كي لا يكون الخلاف معولا للهدم ( 4 ) هل يمكن التعاون مع وجود الخلاف
الأربعاء 1 ربيع الأول 1438 هـ الموافق 30 نوفمبر 2016 م
عدد الزيارات : 19886

 

كي لا يكون الخلاف معولا للهدم ( 4 ) هل يمكن التعاون مع وجود الخلاف

د. معن عبد القادر كوسا 


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أسعد الله أوقاتكم، مشاهدينا الكرام، نحييكم في هذه الحلقة من صناعة الوعي التي نستكمل فيها الحوار حول موضوع الخلاف، علَّنا نسهم في صناعة الوعي، كيلا يكون خلافنا معولاً لهدم أمتنا.
أرحب بضيف هذه الحلقات فضيلة الدكتور معن عبد القادر الباحث الأكاديمي والأمين العام لهيئة الشام الإسلامية.
حياك الله دكتور.
د. معن عبد القادر: الله يحييك، أهلاً وسهلاً بكل الإخوة المشاهدين.
أ. تمام: دكتور معن، تحدثنا في الحلقة الماضية باستفاضة عن الخلاف السائغ وبعض صوره، وصور التعامل مع المخالف، لو انتقلنا اليوم إلى الخلاف غير السائغ، كيف نتعامل مع أصحابه وكيف نتعامل مع المخالفين؟
د. معن عبد القادر: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خير الأنبياء المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
في الحقيقة، أنت سألت عن أمرين، ويجب أن نفرق بينهما، عن التعامل مع الخلاف، وعن المسألة الخلافية التي يكون الخلاف فيها غير سائغ، أما المسألة الخلافية التي يكون الخلاف فيها غير سائغ فيجب تبيينها وفضحها ودحضها، فمن ذهب-مثلاً- إلى قول إن الحجاب غير واجب وإنه من العادات والأعراف التي كانت. ينبغي أن يواجه وأن يفضح وأن تذكر الأدلة في إنكاره، فهذه المسائل مهمة، وذكرناها في الحلقات الأولى، وإلا أصبح الخلاف معولاً للهدم إذا تساهلنا مع خلافات من هذا النوع، لأنها خلافات غير سائغة، خلافات في أمور ثابتة، أدلتها صحيحة وليس لها أي مساغ للاجتهاد فيها. فلو تساهلنا فهذا هدم في حدود الدين.
يقول تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيِّنُّنه للناس ولا تكتمونه} ويقول: يا يحيى خذ الكتاب بقوة}. هذه المسائل يجب أن يأخذ العلماء موقفاً قوياً منها.
مثلا موقف الشيخ (ابن العربي) رضي الله عنه من موضوع خلق القرآن، يعني أن نقول القرآن مخلوق، هذه القضية ليست خلافية، ولذلك فإن موقف ابن العربي صلب وشديد، موقف صبر لأجله، فقضايا الثوابت لا نقبل أن نتساهل في مواجهتها، وينبغي أن تُبَيَّن وتُدحض.
أ. تمام: هذا الموقف من المسألة، ماذا عن الموقف من صاحب المسألة؟
د. معن كوسا: هذا الموقف من المسألة، أما الموقف من صاحب المسألة، فقد ذكرنا سابقاً أن صاحب المسألة، وإن كانت غير خلافية وغير معذور فيها، قد لا يكون أصلاً من أهل العلم الذين يتكلمون في هذه المسألة، أو يريد من هذه المسألة ما بعدها، مثلاً عنده أجندة، فهنا ينبغي أن يُفرق في التعامل معهم، لكن على أي حال إذا كانت المسألة الخلافية غير سائغة هل يحل مع المخالف كل شيء؟ لا، هناك قواعد في الشرع ينبغي الالتزام بها مع المخالفين سواء كان
الخلاف سائغاً أو غير سائغ.
منها موضوع (الإنصاف)، حتى عندما نتحدث عن المخالف نتحدث عنه في سياق هذه المخالفة، ولا ننتقل للحديث عن كل شيء، عن سلوكه وعن زوجته وعن بناته، ليكون هناك إنصاف وعدل في الحديث.
الأمر الثاني من الإنصاف أيضاً، وهو أن نتثبت من الكلام المنقول عنه.
أ. تمام: مما نُقل عنه.
د. معن كوسا: نعم، مما نُقل عنه، يجب أن تكون المصادر موثوقة، أو تكون المصادر عنه شخصياً، وقد رأينا أمثلة كثيرة، خاصة في هذه الأيام بسبب انتشار هذه الوسائل، يعني مثلا قول يُكذب تماماً ويُقتطع من سياقه، فنأتي ونهجم عليه، ويكون سياقه -في الحقيقة- مختلفاً تماماً، فلابد من التثبت من الكلام الذي نُقِل عنه دون أن نخوض في الأمر.
النقطة الثالثة: أن نتحدث عما قال ولا نتحدث عن النيات، يعني لا نقول نيته أو قصده كذا ما لم تكن القرائن واضحة وظاهرة، هذا عندما يكون المخالف معروفاً بسوئه ومواقفه الشنيعة والبشعة، لكن عندما لا تكون هذه القرائن واضحة وظاهرة فنحن نتحدث عن الفعل، ولا ينتقل الحديث عن النيات ولو كان الأمر بالنسبة إلى المتحدث الناقد واضحاً.
يا أخي، انظر كيف يستقبل الناس الكلام، فإذا رأوك تطعن في النيات سيرفضون كلامك ولو كان حقاً، فيجب عليك أن تستعمل الحكمة، فقد يكون كلامك كله صواباً، لكن لأنك طعنت في النيات سيرفض الناس كلامك ويقولون هذه القضية أصبحت شخصية، والناس عندهم تشنج من هذا الأمر.
فليس من الحكمة الرد على المخالفين في الخلاف غير السائغ بأن تطعن في نياتهم، لأنك إما أن تكون غير مصيب ولا تدري نيته، أو أن تنفر الناس من أن يأخذوا الحق، لأنك دخلت في النيات.
الأمر المهم حقيقةً ألا نستطرد هذا الخلاف معه بالخلاف مع جماعته وأصحابه، لا نقول بما أن هذا من جماعة كذا، إذاً هذا الكلام ينسحب على كلهم. كلامه ينسحب على من يوافق قوله، ولا ينسحب على الجميع.
النقطة الأخيرة أريد أن أؤكد عليها هنا، هي أننا في الحقيقة نكون دعاة ائتلاف، فنحن حتى في ردنا على هؤلاء المخالفين ينبغي أن نستحضر نية أننا نريد أن نرجعه إلى الحق، ولذلك نريد أن نترك له منفذا يرجع منه، يعني لا نريد محاصرته بحيث نقتله، نحن نريد -إن أمكن- أن نعيده إلى الحق، فإذا وجدنا عنده مخرجاً والقليل من التنازل فمن الجيد أن يغير في كلامه.
أ. تمام: ويعود إلى الحق، هذا المطلوب.
د. معن كوسا: حقيقةً ينبغي أن نستحضر مع القوة في الرد موضوع الشفقة، ونريد لهؤلاء أن يعودوا إلى طريق الحق.
الله عزَّ وجلَّ يقول: {لعلك باخع نفس على آثارهم}
النبي صلى الله عليه وسلم على من يبخع وتذهب نفسه حسرات؟ على كفار، كيف كان شعور النبي صلى الله عليه وسلم تجاههم؟ شعور الشفقة، ويريد أن يعودوا إلى الحق. فقضيتنا مع هؤلاء ليست الغاية منها أن نحرقهم ونعذبهم، بل نريد الطريقة الأمكن لنفتح لهم طريق العودة.
اسمح لي هنا أن أنبه على نقطة ينبغي أن نستحضرها للمخالف أو من يريد أن يرد على مخالفه، ضع نفسك في موضع الآخر، لأنه كما ترى أنت أن الخلاف غير سائغ ولذلك تهاجمه، هو يرى أيضاً أن خلافك غير سائغ، فترى أن ما يجوز ينبغي أن نجيزه له منك، وكذلك الشيء الذي ترى أنه يحق لك أن تفعله.
أ. تمام: هذا ما لم يكن ظاهراً ومعروفاً أنه متبع للهوى.
د. معن كوسا: أحسنت، لكنه يجب أن يفترض هذا الأمر، هل تريد أن ينصف معك؟ إذاً أنصف معه.
تريد أن تتهم نيتك؟ لا، إذاً لا تتهم نيته.
تريد أن يفحش عليك بالقول؟ لا، إذاً لا تفحش عليه بالقول، ولا تستخدم الألفاظ الفاحشة. يعني ضع نفسك في موضعه.
عندي كلام جميل بين (أبو شامة) و (أبو قدامة) وهما من العلماء الأجلاء، لكن عندهما تباين في عقيدتهما في الأسماء والصفات، يعني (أبو شامة) مدرسة و(أبو قدامة) مدرسة أخرى.
يقول (أبو شامة) في (أبو قدامة): كان إماماً في العلم والعمل لكن كلامه في العقائد على الطريقة المشهورة عن أهل مذهبه، فسبحان من لم يوضح له الأمر فيها على جلالته بالعلم.
وهو هنا يلمز به عن رأيه بالأسماء والصفات، ولم يقل سبحان من أضله، أدباً منه.
أ. تمام: مع إثبات العلم له.
د. معن كوسا: الآن (الذهبي) يعقب على الكلام، فيقول مخاطباً (أبو شامة) وهو وأمثاله أيضاً متعجب منكم مع علمكم وذكائكم كيف قلتم الذي قلتم في العقائد، وكذا كل فرقة تتعجب من الأخرى، ولا عجب في ذلك، وأرجو لكل من بذل جهده في تطلب الحق أن يغفر الله له من هذه الأمة، فأنت تنظر كيف يخطئ هذا الرجل ويتصرف، هو أيضاً عنده نفس النظرة تجاهك، فاستحضار هذا يجعلك منصفاً متأدباً بآداب الإسلام في الخلاف.
أ. تمام: هذا رقي في الخلاف.
طيب، هناك خلافات نشهدها اليوم على الساحة الإسلامية، وربما ما تحدثت به عن الخلاف غير السائغ والموقف منه ومن أصحابه يُفهم منه أكثر الخلافات الشرعية والخلافات الفقهية.
اليوم الخلافات في عالمنا الإسلامي وفي قضايا أمتنا الإسلامية الكبرى، ربما هي في معظمها خلافات غير سائغة، فما السبيل لوحدة الصف واجتماع الكلمة في ظل كل هذه الخلافات والنزاعات؟
كيف نصل إلى هذا المستوى الراقي من الخلاف الذي تفضلت به؟
د. معن كوسا: أولاً: أنا أتفق معك أن قدراً كبيراً من الخلاف قد يكون في مسائل غير سائغة، حتى نكون موضوعيين ينبغي ابتداءً أن نختبر هذه الفرضية، للأسف ما نجده الآن هو أن علمهم عن الآخر قليل، وعلمهم عن الآخر من مصادر غير موثوقة، وأنا أدعو الناس إلى أن يتحاوروا ويفهموا بعضهم بعضاً ابتداءً، حتى يقدروا نوع الخلاف الذي بينهم، هل هو من الخلاف السائغ أو غير السائغ.
يعني أحياناً تكون معلوماتي عنك من خصمك ومعلوماتك عني من خصمي، وما حصل بيننا حوار حتى نرى مدى التباعد والتقارب، فلنفترض هذه الفرضية، لنرى إلى أي درجة نحن مختلفون، وهل هو سائغ أو غير سائغ، وأين هو القدر السائغ؟ فالحقيقة نحتاج إلى أن يتعرف الناس على بعضهم أكثر فأكثر، خاصة نحن في سورية، فقد عشنا فترات طويلة نخاف أن نتحدث مع بعضنا في قضايا كثيرة، وبالتالي فإن القدر الذي نعرفه عن بعضنا البعض قليل جداً، ثم جاءت الثورة، ولم يبقَ ضوابط، وكل أحد يقول ما يشاء، ودخلت الإشاعات والأشياء المغرضة، فنحن في أمس الحاجة إلى أن نتعرف على بعضنا البعض.
أذكر أني عندما انقطعتُ فترةً عن سورية وعدت إليها جلست مع بعض أقاربي ومع قريبة لي كبيرة في السن، فقالت: الحمد لله أنت، لا تخيف. قلت لها: لماذا أخيف؟! قالت: قالوا لي قبل حضورك أن أنتبه منك، وإنك قادم من بلاد كذا، وتوجهك وهابي وكذا. فخفت أن تصرخ بي.
أ. تمام: هذه الصورة التي وصلت.
د. معن كوسا: الحقيقة عندنا أن الناس الذين عاشوا في السعودية، بالنسبة إليهم حجاب المرأة، إذا كانت المرأة كاشفةً وجهها فيكون غير طبيعي، فيستصحبون صورة أن المرأة التي تلبس كذا وكذا لديها شيء من التحرر والتساهل، مع أن هذا الأمر ليس موجوداً هناك، وأنا وجدت هذا، ووجدت إحدى قريباتي سافرة، لكنها محافظة على الصلاة حفاظاً كبيراً، فصار التشوش في البداية.
أ. تمام: تناقض.
د. معن كوسا: فصار عندي تشوش، وهذه الصورة لم تكن عندي، إذا لم تكن المرأة محجبة فهي سيئة في كل الجوانب! في الحقيقة أولاً يجب أن نتعرف على بعضنا البعض حتى نعرف قدر الأمر.
أ. تمام: حتى نعرف الأرضية المشتركة.
د. معن كوسا: الأرضية المشتركة، وقضية تحليل المصطلحات أيضاً مهمة، فأحياناً نختلف اختلافاً كبيراً عندما نتكلم على مصطلح، وكل واحد يقصد بالمصطلح شيئاً غير قصد الآخر، ففهم المصطلحات ربما يحل كثيراً من الإشكالات.
أ. تمام: تحليل مصطلحات مثل ماذا؟
د. معن كوسا: يعني مثلاً: عندما أقول أريد مشروعاً وطنياً، يقال: لا.. لا، أعوذ بالله، أنت علماني، أنت كذا..، يا أخي ليس مشروع وطني.
دعنا نحرر المصطلح، أول شيء عندما نحرره ممكن أن أقصد شيئاً جيداً، هو فعلاً مصطلح سيء، لكني لا أقصد به المعنى السيء، فلا تعاملني مثل الذي يقوله ويقصد به المعنى السيء، فماذا نقصد بتحرير المصطلحات؟
ذات مرة كتبت عن المشروع الوطني والمشروع الإسلامي ففاجأت الكثير، فالكثير يقصد بالمشروع الوطني أنه مشروع علماني، يا أخي، لا يوجد في اللغة ولا في الشرع أن وطني تعني علماني، الوطني هو حال الوطن حال أهل البلد، حالهم مسلمون، ولذلك سيكون مشروعهم مسلماً، وإن كان حالهم غير ذلك فسيكون مشروعهم غير ذلك، فلماذا تحملني أموراً لا تحتمل؟
أ. تمام: هل يمكن أن يتعاون هؤلاء المختلفون، وهو يرى أن مخالفه يخالفه في أمر غير سائغ، هل يمكن أن يتعاونوا؟
هل يمكن أن يتحدوا؟
د. معن كوسا: قد لا نصل إلى مرحلة الاتحاد، لكن ليست المسألة إما أن نتحد أو نتحارب، هناك صور كبيرة من التعامل المشترك حتى بين المختلفين اختلافاً غير سائغ، ماذا يقول الله عزَّ وجلَّ عن التعاون؟  يقول: {تعاونوا على البر والتقوى}. إذاً، موضوع التعاون يكون في البر والتقوى بغض النظر مع من نتعاون، إذا كان موضوع التعاون برا وتقوى فليكن.
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد شهدت مع عمومتي خلفاً مع عبد الله بن جدعان ولو دعيت به في الإسلام لأجبت"، وفي حديث آخر في الحديبية يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها" من هم الذين يسألون؟ هم كفار قريش.
(ابن القيم) يقول في التعليق على هذا الحديث: "فكل من التمس المعاونة على محبوبة لله تعالى ومُرضٍ له أجيب إلى ذلك كائناً من كان، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه)
كائناً من كان، ولو كان كافراً، إذا كنا نتكلم على موضوع جيد ومحبوب لله ورسوله فليكن.
فإذاً، حقيقةً، لا يوجد ما يمنع تعاوننا حتى لو كان بيننا خلاف غير سائغ، وطالما أن موضوع التعاون جميل وجيد، وكلنا نحتاج له.
أ. تمام: إذاً، العمل المشترك لا يعني بالضرورة توافقاً تاماً؟
د. معن كوسا: هذه عبارة جديدة في العمل المشترك لا يلزم له التوافق التام، ولا يلزم منه التوافق التام.
أ. تمام: كيف ذلك؟
د. معن كوسا: لا يلزم له التوافق التام يعني لا يلزم أن نكون متفقين في كل شيء حتى نشتغل مع بعضنا، نحن نشتغل في القدر المتفقين عليه.
ويلزم منه التوافق التام، يعني التعاون مع الآخرين في مشروع معين لا يعني أنني موافق في كل ما عندهم، وهذا الذي يجعل بعض الناس يزهدون في التعاون المشترك، فإذا اشتغلت مع نصراني يقول لك: أنت تصحح النصارى. أو إذا اشتغلت مع شخص معروف بالتحرر فيقول لك: أنت موافق على التحرر أو.. إلخ.
لا يا أخي، النبي صلى الله عليه وسلم لما قال لا يدعوني إلى حلف إلا أجبتهم له، هل قال أوافقهم على كل شيء؟  لا، هو يوافقهم على هذا القدر الذي نحن متفقون عليه، فلا يلزم من تعاوني مع نصراني أو مع علماني أو مع متحرر أو مع عصراني أنني موافق على كل ما عنده، أنا بيني وبينه مشروع مشترك، بيني وبينه مشروع إسقاط النظام، وطالما هذا المشروع بيني وبينه فليكن، بيني وبينه محاربة الفساد، إذاً، هذا أمر مشترك بيني وبينه، فليكن على نصرانية وليكن على يهودية، هذا قدر مشترك.
أ. تمام: ألا يفتح هذا الباب مفسدة عظيمة؟
د. معن كوسا: وهي؟
أ. تمام: أن الناس قد يظنون أنك توافق على باطله، كونك عملت معه.
د. معن كوسا: أحسنت، نحن نحتاج هنا إلى أمرين:
الأمر الأول: أن نوعّي الناس إلى مثل هذه القواعد، يا جماعة، كون فلان يعمل مع فلان لا يعني أنهم أصحاب في كل شيء، نوعيهم لأن المسألة تحتاج إلى توعية.
الأمر الثاني: لا أقول أضرب بهذه الصورة الذهنية عرض الحائط، أقول اجعلها من المفاسد، عُرض علينا مشروع مشترك لقضية مشتركة مع ناس علمانيين ندخل أم لا ندخل؟
لا نرفض الأمر من البداية لأنهم علمانيون ونقول أعوذ بالله، لا ندخل معهم، ما نرفض هذا الأمر ابتداءً، إنما نقول العمل مع هؤلاء قد يشوش على جمهور المسلمين وقد يقولون: إذاً، أنتم تصححون علمانيتهم، فنضعه ضمن المفاسد.
قد نرى عندما ندرس الموضوع أنه ليس لنا مصلحة، لأن فيها مفسدة كبيرة، والناس وعيهم بهذه القضية قليل، ولا بأس أن نخرج بالنتيجة بألا نتعاون، ولكن لا نلغي فكرة التعاون، لأننا نحن مختلفون معهم خلافاً غير سائغ، هذا ليس صحيحاً أبداً، نحن نتعاون، ولكن ندرس المصالح والمفاسد.
كما قال ابن القيم في العبارة: "ما لم يترتب على إعانته مبغوض لله أعظم منه".
نحن نوازن المسألة، لكن أنا أتكلم على من يرفض فكرة مبدأ التعاون، لأن هؤلاء مشركون أو كفار أو علمانيون أو جيش حر..
حتى لو كان هذا الكلام صحيحا وفيهم منكرات، وأحياناً يكون غير صحيح، ولو كان هذا صحيحاً فلا يمنع أبداً.
أ. تمام: لكن ألا يلزم أن أبين أنني أعمل معهم للمصلحة العامة ولا أوافقهم على ما أخالفهم فيه؟
د. معن كوسا: نعم، هل يلزم أو لا يلزم؟ تعرف أن العمل أحيانا له سياسة وأدبيات لا يلزم أن أقول للشخص تعال أنا أعرف أنك كافر ومآلك جهنم لكن سنتعاون، لا يلزم، ولكن لا أداهنه، أي: أقول له لا تدري، ممكن أن يدخلك ربنا الجنة ولو كنت نصرانياً لا تعرف؟ لا، ولكن لست مضطراً أن أعطيه قواعد المكفرات، ليس هذا من الأدبيات، وليس هذا حال النبي صلى الله عليه وسلم.
أ. تمام: إذاً، المطلوب مني أن أوعّي الناس بأن العمل المشترك لا يلزم منه التوافق التام كما تفضلت.
د. معن كوسا: نعم، لا يلزم له التوافق التام حتى نبدأه، ولمّا أتعامل معهم لا يلزم أنني متوافق معهم في كل شيء.
أ. تمام: دكتور، لعلنا نختم ببيان الأسس والأسباب التي يمكن من خلالها تحقيق نجاحات وعمل مشترك حتى بين المختلفين.
د. معن كوسا: نعم، حقيقة العمل المشترك هو ثقافة، ويجب أن تُبنى، ولذلك فإن الاخفاقات في بدايتها متوقعة جداً، والناس لم يعتادوا على عمل مشترك ولذلك فسيقع هذا الخلاف في بدايات الشراكات، لكن إذا تعلمنا من التجارب السابقة فهذا يقلل من الإخفاقات، فمن ذلك، أول شيء في العمل المشترك لابد أن يكون هناك قناعة، أي لا يكون شيئاً مصطنعاً، من أين تأتي القناعة؟
من قناعتي أنني وحدي لا أستطيع أن أفعل، والآخر وحده لا يستطيع أن يفعل، ممكن أن نفعل سوياً، أو قد يكون عندي جوانب نقص يكملها الآخر، وإلا فسأشعر في البداية أنني أستطيع كل شيء ولست محتاجاً، فهنا ستكون المشاركة نوعاً من اللف والدوران أو نوعاً من الخضوع،  لذلك نقول مشكلتنا في الثورة السورية هي الفصائل التي كانت تشعر أنها يمكن أن تشتغل سياسة ومدنية وعسكرية وأن تطعم وتعلم الناس وليست محتاجة للتعامل مع مجالس محلية أو جهات سياسية، تظن أنها يمكن أن تعمل كل شيء بنفسها، حتى وإن ضغط عليها فلا تدخل في عمل مشترك، لن ينجح هذا الأمر لأنها لا تشعر أنها في حاجة لهذا العمل المشترك. يجب أن يشعرون ابتداءً أنهم محتاجون لهذا العمل المشترك.
الأمر الثاني: لابد من الصدق والصراحة والتبيين، حتى في البيع والشراء، فإن صدق وبيّن بورك له ما في البيعين، فنحن أيضاً في هذه العلاقات لابد من الصدق والتبيين، ولا وجود هنا للاحتيالات واللف والدوران، وأنا أقول عمل مشترك ولا أقصد أن أستحوذ عليك، لابد أن يكون هناك صراحة وأن أبيّن لك دائرة الخلاف بيننا، وينبغي ألا نحرج أنفسنا فيها، لا تحرجني في مثل هذا، ولا أحرجك في مثل هذا، ولا أقرُّكَ عليه، فيكون في وضوح وصراحة، هذا موقفي وهذا موقفك ونحن نتعاون لمصلحة.
الأمر الثالث: لابد من اختيار الشخصيات التوافقية في العمل المشترك، فالناس تكوينهم الروحاني مختلف، فهناك ناس لديها القدرة على العمل المشترك وهناك توافق، وهو لا يعني التساهل، بل هو قدرة وهبها الله لبعض الناس، بمحافظته على مبادئه، ويستطيع أن يتعامل مع الآخر، فلابد أن نختار الشخصيات التوافقية، أحياناً تفشل بعض الأعمال المشتركة، لأننا اخترنا لها الصقور كما يقال، فكل شخص سيستعرض على الآخر، ولم نحسن في هذه الحالة اختيار الشخصيات.  وحتى اختيار الشخصية الضعيفة لا يُنجح العمل المشترك، فبعد فترة سيشعر الفريق أن حقهم مهضوم، لأن صاحبهم ليس بمهارة الآخر، فلا بد مراعاة هذا الأمر.
أمر أخير يجب أن يراعى هو أننا عندما نعمل مشتركين ونتفق على دائرة الاشتراك ستحصل بيننا خلافات، فلابد أن نتفق منذ البداية على مرجعية الفصل، يعني لو حصل خلاف هل انفرط عقد الموضوع؟ لا، دعنا نتفق إذاً، لو حصل بيننا خلاف كيف نحله؟
نحله بالأغلبية، نحله بالإجماع، نحله بالرجوع إلى جهة أخرى، نتفق على المرجعيات حتى لا نجعل الشراكة في مهب الريح عند أول عقبة تقع فيها، فيجب مراعاة مثل هذه الأمور لإعطاء الأعمال فرصة النجاح مع ما بيننا من خلافات.
أ. تمام: إذاً نحن بهذه المبادئ والأسس التي تفضلت بها التي نحن أحوج ما نكون إليها في هذه الأيام، نطوي ملف الخلاف ونسدل الستار عليه، ونسأل الله أن ينهي أي خلاف بين أبناء هذه الأمة، سائلين سبحانه وتعالى أن يجمع الكلمة ويوحد صف المسلمين وينصرهم على عدوهم عاجلاً غير آجل.
لم يبق لي –دكتور- في هذه الحلقات إلا أن أشكر حضورك وبيانك الرائع التأصيلي لهذا الموضوع، وأسأل الله أن يكون ما قدمناه لبنة بناء لهذه الأمة بعيداً عن معاول الهدم.
ولكم مشاهدينا الكرام من الشكر جزيله على حسن متابعتكم لحلقاتنا هذه.
ترقبوا قضايا جديدة ومحاور غاية في الأهمية في حلقات قادمة بإذن الله.
حتى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.