الجمعة 19 رمضان 1445 هـ الموافق 29 مارس 2024 م
من أصول السياسة الشرعية في القرآن 1-2
الأربعاء 17 ربيع الآخر 1437 هـ الموافق 27 يناير 2016 م
عدد الزيارات : 3160

 

الغرض هنا ذكر بعض الآيات التي تُعدّ من أصول السياسة الشرعية في القرآن الكريم، لا كلّ الآيات التي تضمنت شيئاً من السياسة الشرعية، فهذه لا يسعها مقام المقالات، كيف وقد أُلِّفت فيها مؤلفات فلم تستوفها؟
وأولى الآيات هنا: قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ [النساء: 58-59].
وهاتان الآيتان من أصول السياسة الشرعية في القرآن الكريم، بل وصفهما أبو العبّاس ابن تيمة -رحمه الله- بآيتي الأمراء، وانطلق منهما في تأليف كتابه : "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية عليهما".
وقال عنهما الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: " هاتان الآيتان هما أساس الحكومة الإسلامية، ولو لم ينزل في القرآن غيرهما لكفتا المسلمين في ذلك [أساس الحكومة الإسلامية]، إذا هم بنوا جميع الأحكام عليهما". وذلك لأنَّهما أثبتتا وجوب أداء الحقوق، ووجوب إقامة العدل، وبيان مرجعية الحكم ووجوب التزامها، وتأكيد وجوب طاعة من يلتزم بالمرجعية من ولاة الأمر في حكمه وغيرها من الأسس ..
وفي الآيتين من الفوائد والمعاني ما جعل بعض الباحثين يُفردها بمؤلفٍ خاصّ، بل سُجٍّلت فيها رسالة علمية في مصر .. غير أنّي أقتصر هنا على بعض القضايا الدستورية العامّة، وذلك أنَّها اشتملت على كليات موضوعات الدساتير:
الأولى في حقوق الرعية أو المواطنة الإسلامية، والثانية في حقوق أولي الأمر المسلمين.
كما نصت على مبدأ العدل، ومبدأ السيادة، وعلى الولايات الثلاث الشهيرة، أو ما يعرف بالسلطات الثلاث ..
فقد تضمنت الآية الأولى: التأكيد على المعاني الشرعية للمواطنة، إذ أوجبت أداء الأمانات بكل أنواعها بما فيها ما يدخل في حقوق المواطنة بضوابطها الشرعية، ووجوب إقامة العدل بين كلّ الرعية، بوصفه مبدأ حكمٍ لا معنى للدولة بدونه، بل ولا بقاء.
وتضمنت الآية الثانية : تأكيد المرجعية في الدولة، فصرّحت بسيادة الكتاب والسنة هنا في قول الله تعالى: ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ﴾، فلا سيادة لفردٍ ولا لجماعة ولا لشعبٍ ولا لأمةٍ فوق سيادة الكتاب والسنة؛ بل واجب الجميع الخضوع لسيادة الشرع، والانطلاق منه في إيجاد الولايات والسلطات وتحديد الصلاحيات وإقامة الحكم الرشيد.
وقد جاءت فيها الإشارة إلى الولايات أو السلطات المشهورة بالثلاث؛ ففي قوله سبحانه: ﴿وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾، بيّن العلماء أنَّه لم ترد هنا لفظة (أطيعوا) كما وردت في طاعة الله والرسول، لبيان أنَّ طاعة أولي الأمر إنَّما هي تبع لطاعة الله والرسول مقيّدة بهما، لا مستقلة عنهما؛ وهو تأكيد لمبدأ سيادة الشريعة السابق ذكره و وجوب خضوع الحاكم والمحكوم لها؛ وهو موضوع قرّرته نصوص عديدة في الكتاب والسنّة، وليس هذا محلّ التفصيل فيه ..
وأولو الأمر هنا إشارة إلى ولاية التنفيذ (السلطة التنفيذية)، و ولاية التنظيم (السلطة التنظيمية).
أمَّا ما يُعبّر عنه ب ـ(السلطة التشريعة) فقد سبق في تقرير مبدأ السيادة، إذا التشريع المطلق حقٌ لله تعالى كالخلق: ﴿ألا له الخلق والأمر﴾.
وفي قوله تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ﴾، إشارة إلى ولاية القضاء (السلطة القضائية) عند التنازع بين النّاس؛ كما أنَّه بيان لآلية ومرجعية التنازع في كل الأشياء، سواء كان بين الفرد والفرد أو الفرد والدولة أو بين سلطات الدولة ذاتها؛ فالحَكم في ذلك شرعُ الله، الذي يُتلقّى عن أهل العلم به حقّا؛ وهو بيان لما يمكن أن يُعبّر عنه بدستورية نصوص الكتاب والسنة، وتفسير علماء الشريعة لها وفق أصول التفسير والاستنباط الشرعي، ثمّ القضاء الدستوري المستقلّ بها ..
كما تضمنت الآية الثانية أيضاً: التأكيد على نفي مقتضيات المواطنة الباطلة؛ فبينت أنَّ أولي الأمر الذين توسد لهم الولايات السيادية في الدولة الإسلامية إنَّما هم أهل ديانتها وحماة هويتها ﴿أولي الأمر منكم﴾، وإن استثنى بعضُ العلماء تولية المواطن غير المسلم في الولايات الخدمية التنفيذية غير السيادية عند الحاجة إليه وبشروط محدّدة؛ وقد استنبط بعض أهل العلم من هذه الجملة: وجوب التخلص من الحكم الأجنبي إذا ما احتلّ بلداً إسلامياً؛ وهو استنباط لطيف، وإن كانت نصوص الجهاد واضحة في ذلك أيضاً..