السبت 2 ربيع الآخر 1446 هـ الموافق 5 أكتوبر 2024 م
اللحظة التي توقف عندها موسى عليه السلام
الكاتب : أمير سعيد
الأربعاء 18 ذو القعدة 1436 هـ الموافق 2 سبتمبر 2015 م
عدد الزيارات : 2813

 


هناك لحظة تحول يجد الداعية أو المفكر أو الموجه أنه مدعو إلى اعتبارها في طريقه مع الناس إلى الله، تلك لحظة لا ينبغي لها أن تتقدم أو تتأخر عن توقيتها الصحيح، حيث يؤدي التأخر عنها أو تقديمها لعواقب وخيمة لحظة يتوقف فيها المجادل عن الجدل..
أو لحظة يتحول عندها الداعية إلى الجهر بها..

أو لحظة يرى فيها الموجه أن سلوكه هذا الطريق لنهايته سيودي بمن يوجههم..
عندها يتوقف صاحب العقل والحكمة عن الاستمرار، ولو كان طريقه الذي سلكه منذ البداية صحيحًا، لكنه ليس صحيحًا في امتداده؛ إذ لكل طريق بداية ونهاية؛ فلا يعني صواب البداية أن استمرارها على الدوام دون انعطاف يصيب الحق.
الانعطاف عن الفعل الرتيب ضرورة في كثير من الأحيان، وذلك حينما لا يكون المناخ مهيئًا للاستمرار على وتيرة واحدة..
دعونا نتأمل هذا التحول من المناظرة إلى ميدان آخر من التحدي أمام الناس، برع نبي الله موسى عليه السلام في اتخاذه في لحظة رأى عندها أن الاسترسال في المناظرة أمام ملأ فرعون، وفي ظل ارتفاع منسوب الغيظ لدى فرعون حدا به إلى البدء في استخدام لغة السباب، ثم ارتفع إلى التهديد بالسجن، في صورة بالغة الدلالة على ما تقدم في مستهل سورة الشعراء، لا يسعنا إلا نقلها كاملة لتأمل هذا التدرج ثم التحول الحواري من موسى عليه السلام إلى طور آخر من وسائل تبيان الحق.
يقول عز وجل:
{قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ} [الشعراء: 15-34].
كان النقاش متدرجًا، ولم ينزو فيه الكليم عليه السلام في نقاشه مع فرعون، بل خاطبه بكل قوة جهرًا بالرسالة، واستنقاذًا لبني إسرائيل، وإلزامًا لفرعون الحجة بشأن العبودية التي فرضها على بني إسرائيل ثم منته بهذه العبودية عليه وعليهم! عبورًا بالتعريف بالخالق عز وجل، وبعض آثار قدرته سبحانه، مكانًا (السماوات والأرض)، (المشرق والمغرب)، وزمانا (آبائكم الأولين)..
ثم أتت اللحظة الفاصلة..
تلك التي لابد أن يدركها وينتبه له كل داعٍ، ومفكرٍ، وصانع رأي، فالاستمرار على نحو واحد وإن كان محمودًا في بدايته، فالتأخر عن التحول عنه قد يجر إلى مصيبة.. فماذا لو تأخر موسى عليه السلام؟ أكان يمكن للباطل أن ينكشف في يوم الزينة؟ أكان لفرعون أن ينكسر، ويبدأ عده العكسي سريعًا لمغادرة التاريخ؟
إن الصمود حتى انزهاق النفس أو السجن ليس دومًا بطولة، بل قد يكون رعونة إذا ما واتت العالم أو الداعية أو الموجه وسائل أخرى لإظهار الحق دون هذا الثمن، أو به، لكن بانتشار أكبر وظهور أعلى.. وليس بطولة إذا كان بالإمكان التمهل ريثما تتاح فرصة أخرى بالتراجع لخطوة وبالصبر لتجنب الأشد خسارة وللحفاظ على ما استقر من مكتسبات لا ينبغي أن يُفرط فيها.
لقد ظل انعدام هذه الرؤية لدى كثيرين مدعاة لدفع أثمان باهظة فيما لا طائل حقيقيًا وراءه، عدا ربما تحقيق بعض المكتسبات الظرفية أو الذاتية التي يمكن أن تكتب لأصحابها في أخراها أو دنياها من دون أن ينعكس ذلك أثرًا بالغًا في مسيرة المؤمنين.
حصل كثيرون على ألقاب "شهداء" بين الأنام، لكن مصطلح "الانتصار" ذاته ربما غاب وسط تقديرات طائشة غفلت عن لحظات مصيرية، وتحولات استحقاقية، نفد وقتها.. إذ إن البعض تأسره من معاني الانتصار تلك التي يتحقق فيها الجانب المعنوي وحده على النحو الذي تحقق لأهل الأخدود، ظانًا أن ذلك كافيًا في كل حال، ولو تيسر ما هو أشمل.
لا، إن التقدير الشامل، واختبار الأرض التي يقف عليها الدعاة أمر ضروري لا فكاك عنه لم أراد أن يستلهم خط الكليم موسى عليه السلام، أما دونه، فضرب من ضروب العشوائية والرعونة المذمومة.