التهديد “العسكري”: الإيراني لدول الخليج العربية: حقائق وأوهام
تنذر المفاوضات النووية الإيرانية بإمكانية وقوع تحولات إستراتيجية في سياسات الدول الغربية تجاه المنطقة العربية، وخاصة في العلاقة مع دول الخليج العربية التي تتوجس ريبة من سير المفاوضات وعدم إتاحة المجال لها للمشاركة الفاعلة في التفاوض حول مواضيع تتعلق بأمنها الوطني والإقليمي.
ويتزايد حجم التوتر كلما لاحت في الأفق بوادر التوصل إلى تفاهمات بين إيران والغرب في منأى عن دول الخليج العربية، ودأب طهران على توظيف الأزمات العراقية والسورية واليمنية واللبنانية كأوراق ضغط في المفاوضات النووية، وما تحمله الحقيبة الديبلوماسية الإيرانية من ملفات خليجية تلوّح بها في الأروقة الغربية في كل دورة تفاوض جديدة.
وفي ظل التهافت الغربي المحموم للتوصل إلى اتفاق مع إيران حول ملفها النووي؛ تنتشر ثقافة التخويف من الخطر الإيراني القادم على أمن منطقة الخليج العربية، وتحاول السطور التالية تحديد الحجم الفعلي للخطر الإيراني، وذلك بهدف لفت الانتباه إلى الفارق بين الحقيقة والوهم، وضرورة تناول المهددات الأمنية الإقليمية بنظرة شمولية تستوعب جميع المهددات الأمنية وتقدّر حجمها الطبيعي على أسس من العلمية والحياد.
المبالغة في تقدير الخطر الإيراني
تواجه الجمهورية الإيرانية مشكلات متعددة في تحقيق طموحات التوسع الإقليمي، ويكمن العائق الأكبر لديها في محدودية إمكاناتها الاقتصادية المتواضعة بالمقارنة مع جيرانها.
ففي عام 2014 بلغ حجم الإيرادات الإيرانية 64 مليار دولار، بالمقارنة مع دول مجلس التعاون التي بلغ مجموع إيراداتها 506 مليار دولار في العام نفسه (الإمارات 250 مليار دولار، السعودية 147 مليار دولار، قطر 40 مليار دولار، عمان 31 مليار دولار، الكويت 24 مليار دولار، البحرين 14 مليار دولار)، وهو ما يعادل ثمانية أضعاف الإيرادات الإيرانية.
ووفقاً لموقع الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA World Factbook) فإن الناتج المحلي الاجمالي لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في العام نفسه قد بلغ 1611 مليار دولار، بالمقارنة من الناتج المحلي الإجمالي الإيراني الذي لم يتجاوز 412 مليار دولار.
ويمكن سوق العديد من الأمثلة على تفوق الاقتصاد الخليجي على نظيره الإيراني حتى على الصعيد الاستشرافي للمرحلة المقبلة؛ إذ تؤكد تقديرات شركة النفط البريطانية (BP) نهاية عام 2013 أن احتياطيات النفط المؤكدة لمجلس دول التعاون الخليجي تبلغ 497 مليار برميل بما نسبته 29% من الاحتياطي العالمي مقابل 157مليار برميل بمعدل 9.3% لدى إيران، وكذلك هو الحال بالنسبة لاحتياطي الغاز حيث تشير تقديرات الشركة إلى أن دول مجلس التعاون لديها احتياطيات تقدر بنحو 1,475مليار متر مكعب من الغاز بما يساوي 23% من الاحتياطي العالمي، بينما تبلغ احتياطيات إيران 1193 مليار متر مكعب بما يساوي 18.2% من الاحتياطي العالمي.
وتمكن الخطورة في تعامل بعض النخب الخليجية مع إيران باعتبارها قوة عسكرية عظمى في المنطقة، وهو أمر تدحضه الحقائق والأرقام؛ إذ إن حجم التسلح الخليجي يفوق القدرات العسكرية الإيرانية بمراحل متقدمة، فقد أكدت دراسة لمعهد ستوكهولم لأبحاث السلام أن المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات تعتبران من بين أعلى خمس عشرة دولة في العالم من حيث الانفاق العسكري، حيث أنفقت المملكة العربية السعودية 67 مليار دولار على صفقات التسلح عام 2013، في حين بلغ حجم الإنفاق العسكري الإماراتي 19 مليار دولار في العام نفسه، في حين تغيب إيران عن هذه القائمة بسبب ضآلة إنفاقها العسكري حيث تقدر، حيث تقدر الدراسة حجم الإنفاق الإيراني ما بين 10 و14 مليار دولار، مما يجعل المملكة العربية السعودية متفوقة عليها بنحو 4.5 ضعفاً والإمارات بنحو 1.3 ضعفاً. أما المعهد البريطاني للدراسات الاستراتيجية (IISS) فيقدر تفوق حجم الإنفاق العسكري الخليجي بنحو 3.25 ضعفاً بالمقارنة مع الإنفاق الإيراني.
وتظهر نتيجة المفارقة في الإنفاق العسكري بين دول الخليج العربية وإيران على نمط التسلح ونوعيته، فقد حصلت دول مجلس التعاون على أحدث الأسلحة في العالم بينما لم تحصل إيران على أية منظومات أسلحة حديثة منذ عام 1980، خاصة وأن روسيا والصين لا تزالان تمتنعان عن تزويد إيران بمنظومات صواريخ S300 و S400 حتى الآن.
وتشير تقديرات الاستخبارات المركزية الأمريكية إلى أن مجموع ما أنفقته إيران على الأسلحة المتطورة لم يتجاوز 300 مليون دولار خلال الفترة (2008-2011)، وذلك بالمقارنة مع دول مجلس التعاون التي بلغ مجموع ما أنفقته على شراء الأسلحة المتطورة في نفس الفترة نحو 75.6 مليار دولار، أي بنحو 250 ضعفاً، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية التي بلغ حجم إنفاقها على الأسلحة المتطورة في هذه الفترة 52.1 مليار دولار لتزيد عن الإنفاق الإيراني بنحو 174 ضعفاً.
الإخفاقات العسكرية ومحدودية سلاح الجو
وفي مقابل تردي اقتصاد إيران وتراجع قدراتها العسكرية، تعمل حكومة طهران على تحقيق نمط من التوازن من خلال سياسة الردع الإستراتيجي، حيث تخصص الجزء الأكبر من نفقاتها العسكرية على بناء شبكة صواريخ بالستية متطورة من المنظومات الجوية والبحرية والمضادة للسفن، إضافة إلى مد نفوذها الاستخباراتي ودعم الميلشيات المسلحة التابعة لفيلق القدس في كل من: البحرين واليمن وقطاع غزة ولبنان والعراق وفي سوريا.
وعلى الرغم من كثافة الترسانة الإيرانية من المنظومات الصاروخية إلا إنه لا بد من التأكيد على أن هذه الصواريخ لا تتيح لإيران مجال شن حروب تقليدية شاملة، بل هي مجرد أسلحة ردع يمكن إطلاقها على مساحات شاسعة من الأهداف غير المحددة لأن معظم الصواريخ الإيرانية تفتقر إلى الدقة والقدرة الفتاكة، ولا ترقى على مستوى الدفاعات الصاروخية الأمريكية والخليجية المنتشرة في المنطقة.
وقد أثبتت الإخفاقات العسكرية الأخيرة لفيلق القدس والميلشيات التابعة له في كل من العراق وسوريا واليمن عدم قدرة إيران على خوض معارك شاملة، ولا يعني ذلك التقليل من القدرات العسكرية الإيرانية بقدر ما يؤكد ضعف قدراتها أمام التفوق النوعي الخليجي في حيازة التقنيات العسكرية ومستوى التسلح، فالجيش الإيراني لا يمتلك أية مقاتلات حديثة، ولم يتم تزويد سلاح الجو التابع له تتزود بأية طائرات أو صواريخ أرض-جو منذ عام 1980، في حين يعود تاريخ تجهيزات سلاح الجو الإيراني إلى سبعينيات القرن الماضي ولم تتمكن إيران من الحصول على أية طائرات أو أي صواريخ أرض- جو حديثة من الغرب منذ عام 1980، وتعود أعمار منظوماتها الجوية الى ستينات وسبعينات القرن الماضي، وعلى الرغم من سعيها الدؤوب لتحديث منظومات الدفاع الجوي لديها إلا أن ترسانتها تقتصر على حفنة من منظومة (TOR) قصيرة المدى، ولا يمكن مقارنة مقاتلاتها من طراز "ميغ" و"سيخوي" بأسراب "فانتوم" المتطورة لدى سلاح الجو السعودي أو الإماراتي.
هل ستتحول أمريكا للتحالف مع إيران؟
سؤال يطرحه المحلل العسكري الأمريكي أنتوني كوردسمان مع بعض السخرية، إذ يعتبر أن المسألة هي من أكثر نظريات المؤامرة شيوعاً في دول الخليج العربية، مؤكداً أن حجم الإنفاق الأمريكي على القواعد العسكرية في دول الخليج العربية يبلغ مليارات الدولارات وليست هنالك أية نوايا لإغلاقها أو إعادة تموضع القوات الأمريكية في إيران ضد دول مجلس التعاون!
كما تظهر الإدارة الأمريكية رغبتها في إبقاء التفوق العسكري الخليجي من خلال توفير أعلى مستويات التسلح وأفضل والالتزام بتوفير الدعم الاستخباراتي والمناورات المشتركة والتدريب، وتتعدى العلاقة العسكرية الأمريكية-الخليجية مفهوم التعاون إلى الشراكة الإستراتيجية، وهو أمر لا يمكن توقعه في الحالة الإيرانية.
وفيما يتعلق بالتوجهات الأمريكية نحو آسيا، وما يشاع عن رغبتها في التخلي عن التزاماتها في المنطقة؛ يؤكد كوردسمان أن كل ما يُقال عن "تحول اهتمام الولايات المتحدة نحو آسيا" في كُتيب الدليل الاستراتيجي الجديد لا يتجاوز مفهوم "إعادة التوازن مع قارة آسيا" وذلك من خلال نقل بعض القطع البحرية والجوية التي كان هنالك شعور حول عدم الحاجة إليها في أوروبا، مع التأكيد الواضح في الدليل نفسه على أولوية دعم الحلفاء في الخليج العربي والاعتراف بالأهمية الاستراتيجية للشرق الأوسط، ولا تزال الإدارة الأمريكية تعمل على تعزيز قواتها البحرية والجوية في الخليج العربي، وتنشر حاملات الطائرات وسفن القيادة التابعة للقوات الخاصة والتي تحمل دفاعات صاروخية بعيدة المدى، بالإضافة إلى كاسحات الألغام والسفن المخصصة للخفارة والدوريات.
وقد تم تكرار هذا الالتزام الأمريكي تجاه منطقة الشرق الأوسط عند إقرار أي ميزانية دفاعية كما في ميزانية المراجعات الدفاعية لعام 2015 التي تتم مراجعتها كل أربع سنوات، وتتحدد من خلالها الأولويات الاستراتيجية الأمريكية الطويلة الأمد والتي تمتد إلى العام 2040.
ويؤكد كوردسمان أن الفضل يعود الفضل إلى بعض دول الخليج العربية مثل الكويت وقطر والبحرين والإمارات في تمكين الولايات المتحدة أن تقوم من تعزيز قدراتها الجوية، حيث قام سلاح الجو الأمريكي بإضافة منظومات الشبح F22 الجديدة في الخليج العربي ويتوقع نشر مقاتلات إضافية من طراز "شبح (F35) في المستقبل القريب.
ونظراً لهذه الشراكة الإستراتجية مع دول الخليج العربية، فقد أصبحت الإمكانات الأمريكية في مجالات: التحكم والإنذار والدوريات البحرية وأقمار التجسس وتوجيه الضربات الدقيقة وإطلاق الصواريخ، وأصبحت منظومات الاستخبارات والمعلومات (IS&R) متاحة لهذه الدول، ومن غير المتصور أن تتخلى الإدارة الأمريكية عن هذا التحالف العسكري القائم منذ خمسينيات القرن الماضي لصالح نظام مراوغ يتزعمه مجموعة من الملالي الذي يطلقون على أمريكا لقب: "الشيطان الأكبر"
ولذلك فإن التحدي الأكبر لدى دول الخليج العربية يكمن في قدرتها على التصدي للمخاطر الإيرانية من خلال تقدير حجمها بصورة حقيقة وعدم المبالغة أو التهويل فيها، كما يتعين عليها الاستناد إلى الحقائق الميدانية لتوظيف مكامن الضعف الإيرانية لتقوية موقفها الدفاعي، وتحقيق الاندماج العسكري الإقليمي بدلاً من الانشغال بالتناحرات الإعلامية التافهة التي تعيق سبل التكامل وتوحيد منظوماتها في مجالات: الدفاع الجوي والمراقبة البحرية وإيجاد المنشآت والتدريبات المتكاملة والمناورات الفاعلة وتوحيد جهود مكافحة الإرهاب.
ولا شك في أن التوترات الخليجية البينية قد كان لها أثر سلبي في إعاقة الجهود الهادفة إلى التعامل مع الأخطار الإقليمية المشتركة وتأخير مشاريع الدفاع الجوي ونشر المنظومات الصاروخية، وعدم تطوير البحرية الإقليمية وخفر السواحل، وغيرها من العقبات التي تتيح لإيران فرصة زيادة نفوذها الإقليمي والتلاعب بالأوراق الطائفية وتوظيف الخلافات الإقليمية للتغلغل في المنطقة.
لم ين الهدف من هذه الدراسة هو التقليل من حجم الخطر الإيراني، بل التأكيد على أن نزعة النخب المثقفة في الخليج العربي إلى المبالغة في تقدير القوة العسكرية الإيرانية قد أدى إلى اختلال في تقدير أنماط التهديد الإيرانية وحجمها، فالخطر الحقيقي لا يكمن في التفوق العسكري، أو في إمكانية أن تتخلى واشنطن عن تحالفاتها التقليدية في المنطقة، بل تتمثل المهددات الأمنية الإيرانية في خلاياها النائمة التي تهدد الأمن الوطني لدول مجلس التعاون وتغلغل ميلشياتها الطائفية العابرة للحدود في الدول المجاورة.
لكن المشكلة الأكبر تكمن في عن غياب مفهوم الأمن التعاوني وعدم صياغة إستراتيجية أمنية إقليمية لمواجهة هذه المخاطر، بالإضافة إلى ضعف المنظومة العسكرية المشتركة لدى دول مجلس التعاون لدول الخليج العربي.