الخميس 18 رمضان 1445 هـ الموافق 28 مارس 2024 م
نساء في الهجرة
الكاتب : سهاد عكيلة
السبت 19 ربيع الأول 1436 هـ الموافق 10 يناير 2015 م
عدد الزيارات : 7138


لئن كانت الهجرة أعظم حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية، فإن ذلك مردُّه – بعد إرادة الله تعالى – إلى توافر الكوادر البشرية التي أعدّها الرسول صلى الله عليه وسلم والتي دفعت بعجلة المسيرة إلى الأمام.
ولئن كان المجتمع المسلم لا يقوم إلا باكتمال تعاون الجنسين (الرجل والمرأة) فيما بينهما، فإن المرأة المسلمة آنذاك قد فقهت حدود المسؤولية التي تبوّأتها – كونها مربية الأجيال وصانعة الرجال – وعملت بمقتضاها بما حباها الله عزّ وجل من فطرة سليمة، وعقل نيّر، وفكر واعٍ.


وبالطبع، فإن المسلمات المتقدمات لولا أن كانت لديهن مبادىء ترسخت في نفوسهن لما هاجرن مخلفات وراءهن الأهل والديار فارات بدينهن إلى الله ورسوله.
هذه المبادىء تلخصت في:

  •  تأصّل جذور العقيدة في النفوس والعقول والقلوب، حيث نتج عنها مفاصلة الجاهلية، واتضح من خلالها نهج الولاء والبراء.
  •  القناعة التامة بأن الإسلام هو دين الله الحقّ، ولإعلاء رايته لا بدّ من المجاهدة المطلقة بكافة أنواعها ومتطلباتها.
  •  اليقين بأنه لن ينصلح للمسلمين عيش إلا في ظل الدولة الإسلامية فهاجرن للمساهمة في إقامتها هناك في يثرب (المدينة المنورة).


وهكذا فإن المرأة حين خاضت تجربتها هذه قد أثبتت أنها على قدر عالٍ من القيام بالتكليف الرباني. وفيما يلي بعض الصور التي تُثبت أن المرأة في جميع الأزمنة والعصور تستطيع _ إن أرادت- تقديم الكثير في سبيل نشر دين الله تعالى بين الأمم.
أم سلمة مثالٌ قلما نجده في النساء اليوم:
قد كان من أمرها أنها لما أرادت الهجرة مع زوجها أبي سلمة وابنها سلمة، اعترض طريقهم بنو المغيرة (قبيلة أم سلمة) وقالوا لزوجها: هذه نفسكَ قد غلَبْتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد؟ فنزعوا خطام البعير من يده، وأخذوا زوجته منه. وغضب بنو عبد الأسد (قبيلة أبي سلمة) وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها صاحبنا، فتجاذبوا الطفل سلمة حتى خلعوا يده، ثم انطلقوا إلى موطنهم، وحبس بنو المغيرة أم سلمة عندهم، وانطلق أبو سلمة وبقي ابنه وقد خُلع كتفه عند قومه.
وهنا تروي لنا أم سلمة ما حدث لها من جرّاء ذلك فتقول: فكنت أخرج كلّ غداةٍ فأجلس في الأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريبًا منها، حتى مرّ بي رجل من بني عمي أحد بني المغيرة، فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تَحَرَّجُون من هذه المسكينة؟ فرّقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها، فقالوا: الحقي بزوجك إن شئتِ. فردّ بنو عبد الأسد إلى عند ذلك ابني، فارتحلتُ بعيري ثم أخذت ابني فوضعته في حِجْري، ثم خرجتُ أريد زوجي بالمدينة، وما معي أحد من خلق الله (السيرة النبوية لابن هشام(.
مسارعاتٌ في الخيرات:
لما نوى صلى الله عليه وسلم الهجرة مع الصدّيق كان للسيدة عائشة وأختها أسماء ابنتيْ أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين دور بارز في تجهيز عُدّة السفر للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، تقول السيدة عائشة: فجهزناهما أحَثَّ الجهاز وصنعنا لهما سُفرة في جراب. (وأفاد الواقدي أنه كان في السُّفرة شاة مطبوخة). قالت عائشة: فشقّت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، وفي لفظ: قطعتْ نطاقها قطعتين فأوْكَت بقطعة منه الجِراب وشدّت فم القِربة بالباقي. فسُمِّيت ذات النطاق، رواه البخاري، وفي لفظ النِّطاقين. وعند البلاذُري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن لها نطاقين في الجنة) فسُمّيت ذات النطاقين.
الحكمة في تدبير الأمور  لصالح الدعوة:
لقد كان لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما مواقف أخرى إن دلّت على شيء فإنما تدلّ على عمق فهمها للإسلام الذي تكبّدت من أجل نصرته عظيم التضحيات. قالت أسماء: "وخرج أبو بكر بماله، خمسة آلاف درهم، فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه".
قالت: قلتُ: كلا، يا أبتِ، إنه قد ترك لنا خيرًا كثيرًا، قالت: فأخذت أحجارًا فوضعتها في كُوّة في البيت، كان أبي يضع ماله فيها، ثم  وضعت وضعتُ عليها ثوبًا، ثم أخذت بيده فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه فقال: لا بأس، إن كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. ولا والله ما ترك لنا شيئًا ولكن أردت أن أتسكن الشيخ بذلك".
هذا وقد ورد عند ابن اسحاق أن أسماء بنت أبي بكر كانت تأتي التبيّ وأباها إذا أمست بما يُصلحهما من الطعام.
احتمال الأذى في سبيل الله:
قالت أسماء رضي الله عنها: "لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام فخرجتُ إليهم فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ فقلتُ: والله لا أدري أين أبي؟". فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشاَ خبيثًا، فلطم خدي لطمة خرج منها قرطي، ثم انصرفوا. شغف الأنصاريات بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يثرب: لما قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحبة أبي بكر رضي الله عنه جعلت العواتق (أي النساء) يصعدن فوق البيوت يتراءينه يقُلن: أيهم هو؟ أيّهم هو فما رأين منظرًا شبيهًا به يومئذٍ.
هذا وقد روى البيهقي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقُلن:
طلع البدر علينا
من تنيّات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع (البداية والنهاية).
زاد رزين:
أيّها المبعوث فينا
جئت بالأمر المُطاع
وروى الحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل على أبي أيوب خرجت جَوار – أي: بنات صغيرات – من بني النجار يضربن بالدفوف ويقُلن:
نحن جوار من بني النجار
يا حبذا محمدٌ من جار (البداية والنهاية).
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ؟أتُحبِبْنَني"؟ قُلن: نعم يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنا والله أحبكن" قالها ثلاثًا.
من روائع إكرام الضيف والإيثار وحُسن الجِوار:
ولا ننسى هنا موقف زوجة أبي أيوب الأنصاري التي كانت خير معين لزوجها على إحسان جوار رسول الله وإيثاره في المنزل المريح على أنفسهما، والتفاني في خدمته وصنع الطعام له وتحري ما يحب من الأصناف والتماس البركة في موضع يده حين يردّ لهما فضل طعامة صلى الله عليه وسلم.
المزيد من النساء يتوافدن مهاجرات إلى الله ورسوله:
قال ابن اسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة وأعطاهما بَعيرين وخمسمائة درهم فقَدِما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه وسودة بنت زمعة زوجته، وحمل زيد بن حارثة امرأته أم أيمن مع ابنها أسامة بن زيد، وخرج عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر فيهم عائشة وأختها أسماء زوج الزبير وأم رومان (أم عائشة) فلما قدموا المدينة أُنزلوا في بيت حارثة بن النعمان.
هذا غيض من فيض المواقف النسائية المتميزة، ولو أردنا رصد جميع المشاهد لما اتسعت صفحات المجلة لذلك. فحسبنا فيما أوردناه أن تقتدي القارئات بأخلاق نساء السلف الصالح. وبعد، أخواتي الداعيات: فهولاء من خيرة النساء وصفوتهن، لم تكن الواحدة منهنّ لتضع العوائق في طريق جهاد زوجها أو أخيها أو أبيها بحجة أنها لا تستطيع تحمّل شظف العيش، بل – على العكس – كانت لهن مواقف مشرفة في مختلف ميادين الجهاد. فهنّ خير أسوة تقتدين بها وتقتفين أثرها في صفوف دعوتكن، فلتكن المقياس الذي تبني عليه جميع النساء مواقفهن. والله الهادي إلى الحقّ.