السبت 11 شوّال 1445 هـ الموافق 20 أبريل 2024 م
مسلم اللّامبالاة
السبت 19 ربيع الأول 1436 هـ الموافق 10 يناير 2015 م
عدد الزيارات : 5256


كانت العرب في الجاهلية غارقة في الفوضى وهائمة في التوحش، لا تعرف انضباطًا في سلوكها، ولا رشدًا في تفكيرها، ولا انتظامًا في تدبيرها، حيث تعودت القبائل العربية على حياة النهب السلب والسبي، وألِفت الإغارة على بعضها البعض.


فكان قانون الغاب هو القانون الحاكم فيهم، وسادت فيهم نفسية التوحش حتى أكلت فطرتهم، إلى أن جاء الإسلام ونشر روحه السمحة الحضارية فيهم، فغيَّرهم تغييرًا تامًا، فصاروا رعاة الأمم بعد أن كانوا رعاة الإبل، وصار هَمُّ الواحد فيهم نشر مبادئ الإسلام ورسالته، في أصقاع الأرض، لا يدخر في ذلك جهدًا، ولا يشح بمال، فغيَّر الله الأرض على أيديهم، وملأها عدلًا وسعة، بعدما غرقت في الظلم والاستعباد قرونًا، حتى سرت هذه الروح في عمق النفس المسلمة، وصارت جزءًا محركًا لها، ولا ينفصم ذلك عن تكوينها.
فالمسلم هو التقدمي المتحضر، الذي لا يقبل السكون والقعود، بل حيثما كان غيَّر وأثَّر، وظل الأمر كذلك، إلى أن ابتلينا بهذه العقود الأخيرة، التي لم يعد المسلم فيها، يشابه سلفه الأول، إلا في الاسم، وبعض التقاليد، إنه مسلم التبعية والركود واللامبالاة، مسلم غارق في التسيب إلى رقبته، مهمل لأدنى الواجبات، معرض عن أغلى المهمات من حراسة الدين والدنيا.
ولا شك أن هذا الخَلْفَ نتاج لهذه المنظومات المتخلفة المستبدة، التي أخرجت أجيالًا قاعدة عن البذل والعطاء، بل وكرّست فيهم التسيب والإهمال والتواكل على الأخر، بل صار الواحد فيهم يتفوه بعبارات مثل (من العمل إلى المنزل) (تبعد عن راسي)..
لو تأملنا هذه العبارات ووقفنا أمامها وقفة تأمّل وتحميص، لوجدناها عبارات معبرة عن واقع الحال، من تردٍ في نفسية المسلم، وانحطاط في الهمة، وشلل في الإرادة، وقصور في الفكر، إنها تعني أن هذا المسلم لا يعنيه ما يقع حوله، وأنه مستقيل من تبعات الحياة، وأنه قد أقال نفسه من عملية التغيير والإصلاح والانجاز، وهو مسلم يخالف في ذلك أدنى ما كان يطلبه منه الإسلام، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يديم الاستعاذة من العجز، وكان يفعل ذلك كل صباح، حتى يربط الأمة بحياة العمل ونفسية البذل، وحمل همّ مواجهة الحياة، أما اليوم فان المسلم قد جمع العجز في الفكر واللسان واليد، بعد أن تنكّب هدي النبي عليه الصلاة والسلام في خوض معترك الحياة وتبعاتها الجمّة، لقد جعل الإسلام إماطة الأذى من الطريق من شعب الإيمان، وعلامة واضحة على حركيته في قلب المسلم- رغم أنه سلوك يحتقره الكثير من المسلمين - فكيف يفسر -اليوم- موقف المسلم المتخاذل حتى عن نصرة نفسه وعرضه، وصيانة ماله، وهو الذي يتلو آيات البذل والعطاء، ويمر بقصص أولي العزم، ويقرأ أحاديث العمل وأدعية القوة والنشاط؟


إن الأسباب كثيرة، ولكن السبب الرئيس هو هذه المنظومات، التي مجدت وقدست شخص الحاكم عبر عقود طويلة، وهمشت وألغت دور الفرد من الحياة، حتى لم تعد له غاية سوى الأكل والشرب والنوم، وتم ترسيخ أفكار هدامة لكل محاولة توثب إيجابي في الحياة، فقضايا المسلمين من اختصاص الحاكم وحده، وتقرير مستقبل الأجيال من صلاحيات الحاكم وحده، وهو وحده المخول في التصرف في ثروات الأمة ومقدراتها، وفق ما يراه هو ويشتهيه، وهو صاحب الشأن الأوحد في التعامل مع المنظومات التربوية تبديلًا وإلغاءً وتلاعبًا، وهو صاحب الأمر الوحيد في تحديد المنكر، وأما الرعية الضائعة، فإن مهمتها تقتصر على الجلوس خلف شاشات التلفاز، والإشادة بإنجازات فخامته وعصابته، أو الجلوس وراء جدران الجريدة وقد سلمها عقله طواعية وسلمًا، تشكل له المشهد وفق رغبات صاحب الجلالة وحاشيته، وهكذا تتوالى الأيام على المسلمين تصفيقًا وقعودًا، فلا دور لهم، بعد أن ترسخ ما أرادته هذه المنظومات في نفوسهم المنسحقة، من أنه لا أهمية لهم في الحياة، ولا دور لهم في تحريك دفة السفينة، إنما عليهم الخضوع والسكون، وترك الأمر للحاكم الراشد وعصابته الشريفة، فذلك سر بقائهم واستقرار أمنهم، وأي محاولة لأخذ زمام مبادرة راشدة، أو إحياء فقه الحياة الصالح، فإنها تعني الفوضى، والجوع، والأمن، وبالتالي الضياع في غياهب المجهول، والانحدار في غير ما هو مأمول.
لقد بنت هذه المنظومات جدرانًا متعالية في حياة المسلمين، مادتها التسيب، وأساسها التميع، وإسمنتها الركود، ولبناتها اللّامبالاة، وأعمدتها التقاعس، فحالت بين المسلم وبين الحركية في الحياة، والتفاعل الإيجابي معها، تغييرًا وتقريرًا وإصلاحًا وترشيدًا، فصرنا نقرأ إحصائيات رهيبة عن ارتفاع عدد الجرائم في المجتمع، وتفشي ظاهرة الانتحار، وظهور الشذوذ وكثرة الطلاق، وتغلغل الاكتئاب والإدمان في حياة المسلمين بشكل مخيف، ولذلك وجب أن نساهم جميعًا في هدمها من نفوسنا، وأسرنا، ومدارسنا، وجامعاتنا، ومساجدنا، ومؤسساتنا، وإزالتها عن كل مساحات الحياة، قبل أن يعم القحط روح المجتمع، وقبل أن يزحف الخراب على الضمائر المتبقية، ويفسد الأجيال القادمة.
أخي المسلم أختي المسلمة:
لقد علمنا الإسلام أن لا نترك أهم الواجبات في أحلك الظروف، فشرع لنا الصلاة على الفرس حال الحرب والنزال، وشرع لنا تغيير الأوطان إن حالت بيننا وبين ديننا وحياتنا فقال تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}.
وعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس الفسيلة حتى وإن قامت القيامة، وأُغلق باب العمل والأمل، فقال: (إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ)  صححه الألباني.
فلا يليق بنا بعد هذا أن نرضى بحياة التسيب والتيه عن دورنا الحضاري الحركي النافع فيها، ويتأكد دورنا اليوم أكثر فأكثر مع ما تعانيه أمتنا من ضياع وتشتت، وقد تداعت عليها الأمم تنهشها طولًا وعرضًا.
فالله الله أخي المسلم في منطق البذل والعطاء، وحياة الجد والعمل {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}.