الجمعة 19 رمضان 1445 هـ الموافق 29 مارس 2024 م
الاستغفار.. وحاجتنا إليه
السبت 27 محرّم 1435 هـ الموافق 30 نوفمبر 2013 م
عدد الزيارات : 6937

 

استغفار الله والمداومة عليه جاء الأمر به من الله -تعالى- لنبيه في قوله: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ} [غافر: 55]، وفي قوله: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 106]، وفي قوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19]، وفي قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر: 3].
ولقد استجاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهذا الأمر خير استجابة؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (ما صلى النبي صلاة بعد أن نزلت {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلا يقول فيها: سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) رواه البخاري ومسلم.
وعنها -رضي الله عنها- قالت: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي؛ يتأول القرآن) رواه مسلم.
وكان يكثر الاستغفار في غير الصلاة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما¬- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه في اليوم مئة مرة) رواه مسلم.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، في المجلس قبل أن يقوم مئة مرة) رواه النسائي.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: (إنا كنا لنعد لرسول الله في المجلس: (رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم) مئة مرة)  رواه أبو داود، وابن ماجة، والترمذي.
وعن الأغر المزني -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة) رواه مسلم.
وقيل في معنى قوله: (إنه ليغان على قلبي) عدة معانٍ، وهي:
المراد بـ (الغين) : الفتور عن الذكر الذي شأنه أن يداوم عليه، فإذا فتر عنه لأمرٍ ما عدّ ذلك ذنباً، فاستغفر عنه، وحُكي عن عياض.
وقيل: هو شيء يعتري القلب مما يقع من حديث النفس.
وقيل: هي حالة كمثل جفن العين حين يسبل ليدفع القذى، فإنه يمنع الرؤية، فهو من هذه الحيثية نقص، وفي الحقيقة هو كمال. 
 
نماذج من استغفاره:
ولقد أخذ استغفاره نماذج عدة في مواطن كثيرة، منها: استغفاره بعد السلام من الفريضة، وعند الخروج من الخلاء، وفي خطبة الحاجة، وعند النوم، وفي كفارة المجلس.. وغيرها، نذكر منها على سبيل المثال ما يلي:
بعد الفراغ من الوضوء:
عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) أن الرسول قال بعد الوضوء: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك) أخرجه ابن السني.
عند القيام لصلاة الليل:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمدٌ حق، اللهم لك أسلمت، وعليك توكلت، وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت) رواه البخاري ومسلم .
في استفتاح الصلاة:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتة، قال: أحسبه قال: هنيّةً، فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، إسكاتُك بين التكبير والقراءة، ما تقول؟ ، قال: أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبَرَد) رواه البخاري ومسلم.
في آخر الصلاة:
عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: (اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت) رواه البخاري ومسلم.
عند موته:
عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصغيت إليه قبل أن يموت وهو مسند إليّ ظهره يقول: (اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى) رواه ومسلم.
وفي عامة دعائه:
عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو بهذا الدعاء: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جِدِّي وهزلي وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر، وأنت على كل شيء قدير) رواه ومسلم.
استشكال ورَدّه:
واستشكل وقوع الاستغفار من النبي وهو معصوم؛ فالاستغفار يستدعي وقوع المعصية، وأجاب العلماء على ذلك بعدة أجوبة، منها: قول ابن الجوزي: هفوات الطباع البشرية لا يسلم منها أحد.
وقال ابن بطال: الأنبياء أشد الناس اجتهاداً في العبادة لما أعطاهم الله -تعالى- من المعرفة، فهم دائبون في شكره معترفون له بالتقصير، فكأن الاستغفار من التقصير في أداء الحق الذي يجب لله تعالى.
وقال القرطبي في "المفهم": "وقوع الخطيئة من الأنبياء جائز؛ لأنهم مكلفون، فيخافون وقوع ذلك ويتعوذون منه".
 
حث الأمة على الاستغفار:
عَدّ ابن كثير أمر الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بالاستغفار تهييجاً للأمة على طلب المغفرة، إذ كيف يكون خطاب أفراد الأمة إذا أمر نبيها بالاستغفار؟.
وجاء في الكتاب العزيز حث على الاستغفار وترغيب فيه والثناء على أهله، في مثل قوله: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المزمل: 20]، ومن ذلك: قوله: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران: 17] .
يقول ابن كثير عن فضيلة الاستغفار وقت الأسحار:
وثبت في الصحيحين عن جماعة من الصحابة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ينزل ربنا -تبارك وتعالى- في كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ ، هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟) رواه البخاري ومسلم.
وفي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت:(من كل الليل أوتر من أوله وأوسطه وآخره، فانتهى وتره إلى السّحَر). رواه البخاري ومسلم .
وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل ثم يقول: يا نافع هل جاء السحر؟ 
فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح.
وعن حاطب قال: سمعت رجلاً في السحر في ناحية المسجد وهو يقول: يا رب أمرتني فأطعتك، وهذا السحر فاغفر لي، فنظرت، فإذا هو ابن مسعود رضي الله عنه .. وعن أنس بن مالك قال: (كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين مرة) رواه البخاري ومسلم.
 
تعليم النبي -صلى الله عليه وسلم- الاستغفار لأصحابه:
ومن مظاهر اهتمامه بالاستغفار: تعليمه لأصحابه، بل لخيرة أصحابه، وصاحبه في الهجرة، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: إن أبا بكر الصديق قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي وفي بيتي. قال: (قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كبيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم). رواه البخاري ومسلم .
وعن قوله: (مغفرة من عندك) قال الطيبي: دل التنكير على أن المطلوب غفران عظيم لا يحيط به وصف، وقال ابن دقيق العيد: يحتمل وجهين، أحدهما: الإشارة إلى التوحيد، كأنه قال: لا يفعل هذا إلا أنت، فافعله لي، والثاني: أنه إشارة إلى طلب مغفرة متفضل بها لا يقتضيها سبب من عمل حسن ولا غيره، وبهذا الثاني جزم ابن الجوزي فقال: المعنى: هب لي مغفرة تفضلاً، وإن لم أكن لها أهلاً بعملي.
 
ومن اهتمامه بشأن الاستغفار:
تعليمه للرجل حديث الإسلام دعاءً يبدأ بالاستغفار، فعن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: كان الرجل إذا أسلم علّمه النبي الصلاة، ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات: (اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني) رواه البخاري ومسلم.
إن الأمة في هديه محتاجة إلى الله بالاستغفار، ابتداءً من حديث العهد بالإسلام إلى خير الأمة وصدِّيقها، فكيف بمن جاء بعدهم؟ 
ومن مظاهر حث الأمة على الاستغفار: ترغيبهم في سيد الاستغفار، فعن شداد بن أوس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (سيد الاستغفار: أن يقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، قال: من قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة) رواه البخاري.
قال ابن حجر: (وفي ذلك إعلام لأمته أن أحداً لا يقدر على الإتيان بجميع ما يجب عليه لله، ولا الوفاء بكمال الطاعات والشكر على النعم، فرفق الله بعباده، فلم يكلفهم من ذلك إلا وسعهم.
وقال ابن أبي جمرة: جمع في هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أن يسمى "سيد الاستغفار"، ففيه الإقرار لله وحده بالإلهية والعبودية، والاعتراف بأنه هو الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذ عليه، والرجاء بما وعده به، والاستغفار من شر ما جنى العبد على نفسه، وإضافة النعماء إلى موجدها، وإضافة الذنب إلى النفس، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً) رواه ابن ماجه.
 
الحاجة إلى الاستغفار:
قال ابن القيم -رحمه الله- في بيان حاجة العبد للتوبة والاستغفار: (انسب أعمالك وأحوالك إلى عظيم جلال الله، وما يستحقه، وما هو له أهل، فإن رأيتها وافية بذلك مكافأة له فلا حاجة حينئذ إلى التوبة، وإذا رأيت أن أضعاف أضعاف ما قمت به من صدق، وإخلاص، وإنابة، وتوكل، وزهد، وعبادة: لا يفي بأيسر حق له عليك، ولا يكافئ نعمة من نعمه عندك، وأن ما يستحقه لجلاله وعظمته أعظم وأجل وأكبر مما يقوم به الخلق: رأيت ضرورة التوبة، وأنها نهاية كل عارف وغاية كل سالك، وإذا لم يكن للقيام بحقيقة العبودية سبيل فعلى التوبة المعول... ولولا تنسم روحه التوبة لحال اليأس بين ابن الماء والطين وبين الوصول إلى رب العالمين، هذا لو قام بما ينبغي عليه من حقوق لربه، فكيف والغفلة والتقصير والتفريط والتهاون وإيثار حظوظه في كثير من الأوقات على حقوق ربه لا يكاد يتخلص منها؟ !).
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعدٌ تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به هكذا) رواه البخاري.
قال ابن حجر: (المؤمن يغلب عليه الخوف؛ لقوة ما عنده من الإيمان، فلا يأمن من العقوبة بسببها، وهذا شأن المسلم: أنه دائم الخوف والمراقبة، يستصغر عمله الصالح، ويخشى من صغير عمله السيء.
وقال المحب الطبري: (إنما كانت هذه صفة المؤمن؛ لشدة خوفه من الله ومن عقوبته، لأنه على يقين من الذنب وليس على يقين من المغفرة).
 
ثمار الاستغفار:
أولاً: غفران جميع الذنوب، ويشمل ذلك ذنوب العبد التي لم يحصها أو نسيها وقد أحصاها الله عليه مهما صغرت أو مضت عليه السنون، وقد حكى الله تعالى عن أناس غفلوا عن أعمالهم ففجأتهم يوم القيامة، قال الله عنهم: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47].
ثانياً: الدخول على الله من باب الخضوع والخشية والإخبات، وهذا يورث التواضع باطناً وظاهراً.
ثالثاً: الاقتداء بالرسول، وظاهرٌ ما في الاقتداء به من البركة وحصول الخيرات.
رابعاً: الاعتراف بالتقصير في الطاعات والخوف من الذنوب هو مطية الإقبال على التزود من النوافل وعمل الصالحات والاستكثار من الحسنات.
خامساً: المحافظة على سلامة القلب وصفائه من آثار الذنوب، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب: صقل قلبه) رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه.