الأربعاء 15 شوّال 1445 هـ الموافق 24 أبريل 2024 م
قصة قصيرة
الجمعة 26 شعبان 1434 هـ الموافق 5 يوليو 2013 م
عدد الزيارات : 2439
 
في ليلة مظلمة من كل نور.. إلا نور الإيمان يملأ قلبها.. كانت تجلس في زاوية منزلها.. تستجدي النعاس الذي فارق مقلتيها منذ زمن.. جرحٌ عميق بصدرها تحاول أن تضمدّه.. فالموت يمسح كل يوم اسماً من سجل عائلتها.. لتودعه بدموع الألم والأمل.. ألم لفراقه.. وأمل بأن يكون جسد هذا الشهيد وغيره جسراً إلى نصر قريب.
 
بالأمس غرس الباغي خنجره في صدر أخيها.. وقبلَه خرج زوجُها ولم يعد.. ففقدت رفيقَ دربها وأُنسَ حياتها.. لا عجب فالطغاة لا يعرفون لغة المشاعر.. ولا يجيدون إلا لغة الخيانة للعقيدة والوطن.. لغة العداوة مترجمة بكل صور الدمار ليعيها الناظر من كل أنحاء العالم.
حاولت أن تُبعد هذه الذكريات عن مخيلتها.. ولكن دموعها كانت أقوى من جَلَدها وأكبر.. فتعزّي نفسها قائلة: بقي الحبيب .. إنه ولدها.. تلقي عليه نظرتَها كل مساء.. خشية أن تكون النظرة الأخيرة.. وتودِّعه كلَّ صباح حين ينسلَّ إلى صفوف المجاهدين .. فربما لا يعود كغيره.
شريط حياته يمر أمام ناظريها كل لحظة وثانية .. يحوي ألفَ قصة وحكاية .. تتذكره طفلاً صغيراً يعبث في زوايا المنزل في يده لعبه .. وبين عينيه فرح الصغار.. تتذكره مراهقاً مشاكساً يَقلب الأمور كلما أرادت أن ترسمها له في الوضع الصحيح.
 
ثم ها هو اليوم شاب يافع تزدان به صفحة الحياة.. بإشراقة فكره وسمو روحه. 
نعم اكتمل المشهد .. وانتهى عهد التعب .. والغرس الذي عانت فيه سنينَ، يُثمر اليوم لتراه رجلاً يحمل همًّا ورؤية .. فقد أصبح سندها بعد الله في هذه الحياة .. وبقايا شجرةٍ قطَع الباغي جميعَ أغصانها المورقة..
حينها ذهبت مسرعة لتوقد مصباحها الصغير بما تبقى فيه من غاز قليل .. تسابق الزمن قبل أن ينطفئ لتقرأ شيئا من كتاباته الأخيرة .. فوجدته قد خط فيها:
 (أماه .. الموت أفضل من حياة المذلة هذه .. لن ندَعَ الطغاة يتحكمون بمصيرنا .. ويستعمرون بلادنا .. ويحطّمون جهادها .. لن ندعهم يتآمرون ويفسدون.
أماه .. سيظهر الفجر يزدحم أفقه بجموع الكُماة الثائرين .. ابحثي عني .. ستجدينني بينهم .. نحارب الكفر والظلام ليعمّ الحق والنور أرجاء وطننا الحبيب.
أماه .. قلتِ لي يوماً: (ولدَتْكَ أمُّك للشهادة) وها أنا أسلك اليوم طريقها.. فوداعا أمي وفي جنان الخلد الملتقى).
 
تلاشى الغاز من المصباح فانطفأ .. ذهبت لتبحث عنه .. فعرفت أنه قد غادر سريره .. وربما غادر الحياة!
ومع الفجر أتاها خبر استشهاده .. ومعه صدى صوته يردد: (تذكّري أماه .. بأن إلهنا أكبر .. وأن الحق لن يُقهر) واصبري فإنه لا عزاء للأحرار في دنيانا.
ما عَزَّ قومٌ بالكلام وإنما ... بفعالهم يتسلَّمون زِماما
 
 
 
إحساسك بـ (الحُرْقةِ).. كافٍ لأنْ تضع قدمك في أول طريق النُّصرة..
هي الحرقة التي وجدها القاضي بن شداد عند صلاح الدين، فقال عنه: " كان -رحمه الله- عنده من أمر القُدسِ أمرٌ عظيم لا تحمله الجبال! وهو كالوالدة الثكلى يجول بنفسه من طلبٍ إلى طلب ويحثُّ الناس على الجهـــاد، ويطوفُ بين الأطلاب بنفسه وينادي: (ياللإســلام)، وعيناه تذرفان من الدموع!"