تكاثرت العهود والمواثيق والقرارات التي تحاول وضع ملامح "سورية الجديدة" وفق أسس ومعايير معينة، ومن هذه القرارات (وثيقة "العهد الوطني" كما أقرها مؤتمر المعارضة السورية المنعقد تحت رعاية جامعة الدول العربية بالقاهرة بتاريخ 3/7/2012م)، ومن خلال تتبع الأفكار الواردة فيها يتضح أن من أهم الموضوعات التي تطرح هي:
1_ عزل الدين عن هوية الدولة.
2_ إعطاء ضمانات"للأقليات" العرقية والدينية.
3_ فتح المجال أمام أي مواطن لتولي أي منصب في الدولة مهما كان جنسه أو دينه.
4_ النص على ""مكتسبات" المرأة و"حريتها" و"مساواتها" بالرجل، وإزالة كافة أشكال "التمييز" ضدها.
5_ وجوب تضمين كل ما سبق في أي دستور قادم للبلاد.
وإننا في المكتب السياسي لهيئة الشام الإسلامية نرى أنه من الواجب علينا في خضم هذه البيانات والرؤى المختلفة أن نوضح لشعبنا السوري أهم ملحوظاتنا على ما جاء في هذه الوثيقة:
أولاً: هوية الدولة:
أقرت الوثيقة بافتآت على الإرادة الشعبية علمنة الدولة وتنحية الشريعة الإسلامية ويتضح ذلك من خلال الآتي:
1_ خلو أي نص من نصوص الوثائق المقدمة على الإشارة للهوية الإسلامية للدولة السورية، على الرغم من أنَّ الغالبية العظمى من السوريين هم من المسلمين. ومن المفارقات أن دستور النظام الحالي ينص على المرجعية الإسلامية للدولة في مادته الثالثة!
2_ ضعف صلة الدولة السورية بالعالم الإسلامي إلا من خلال جذور تاريخية وقيم انسانية، مع التأكيد على انتمائها العربي والعالمي، والنصوص الدالة على ذلك كما يلي:
ففي الانتماء العربي قالت: (سورية هي جزء من الوطن العربي، ترتبط شعوبه بوشائج الثقافة والتاريخ والمصالح والأهداف الكبرى والمصير المشترك).
وفي الانتماء العالمي ذكرت: (سورية جزء من المنظومة العالمية وهي عضو مؤسّس في هيئة الأمم المتحدة والمنظمات المتفرّعة عنها).
وعندما جاء الحديث عن العالم الإسلامي كانت العبارة: (تربط الشعب السوري بجميع الشعوب الإسلامية الأخرى جذور تاريخية مشتركة وقيم إنسانيّة مبنية على الرسالات السماوية)!
إنَّ النظام المجرم المستبد إنما قام على أساس محاربة "التخلف والرجعية" وفرض علمنة الدولة والمجتمع وثقافة حزب البعث الإشتراكية العلمانية، وإبعاد الدين عن مجالات الحياة كافة طوال عقود من الزمن. فلم يقم الشعب السوري بثورته وما فيها من تضحياتٍ جسيمةٍ لاستبدالِ نظامٍ علماني غربي بآخر شرقي، بل قام بثورته وجهاده وتضحياته _كما وضح بشعاراته المختلفة_ حتى تكون ثورته لله.
ثانيًا: "المواطنة" و"الأقليات" في المجتمع السوري:
من خصائص المجتمع السوري تنوع فئاته السكانية وطوائفه الدينية، ومن المسلَّم به أنَّ من حق جميع الطوائف الدينية ممارسة شعائرها بحرية واطمئنان، كما كفلتها الشريعة الإسلامية، كما أنَّ من حق جميع الأعراق الاحتفاظ بهويتها الثقافية واللغوية في إطار الدولة الواحدة.
ولم يشهد المجتمع السوري استخدام مصطلح "الأقليات" في وصف أي جزء من مكوناته الاجتماعية أو الدينية، بل كان الاحتلال الأجنبي القديم هو من عمل على زرع الفتنة على شكل دويلات طائفية سرعان ما أثبتت فشلها وعدم واقعيتها، وهو ما تعمل عليه عدد من الاقتراحات الدولية المتعددة.
إنَّ الحديث عن ضمانات لهذه "الأقليات" مُتكلَّف ولا داعي له: فلم يسبق أن تعرضت هذه المكونات لأي تهديد اجتماعي أو ديني من "الأكثرية" طوال قرون من العيش المشترك، بل إنَّ من يحتاج للضمانات والتعهدات هو أكثرية الشعب السوري الذي يذبح ويقتل ليلا ونهارًا تحت سمع وبصر المجتمع الدولي الذي يراهن على خضوع الشعب السوري تحت وطأة القتل والتنكيل.
إنَّ إعطاء "الأقليات" حقوقها لا يعني سلب حق الأكثرية _بعد أن حرموا منها لعقود طويلة تحت شعارات مختلفة_ في القيام بأمور دينها في المجالات الحيوية و المؤثرة في نهضة السوريين من جديد كالتعليم والاقتصاد والصحة والإعلام، ولا يعني الإقرار بحقوق الطوائف الدينية مصادرة حق الأكثرية في ذلك، بل من أهم حقوق "الأكثرية" أن تُعبر أنظمة الدولة عن هويتهم، وإلا فهو اضطهادٌ للأكثرية بحجة الأقلية، وبذلك، تكون هذه الحقوق الزائدة عن الحقوق الأساسية أقرب للإمتيازات التي أفسدت ما أفسدت في سوريا عبر عقود(1).
إنَّ ضمان مستقبل سورية المستقر الخالي من الاضطراب والاستبداد هو حكم الأكثرية برؤيتها وهويتها العربية الإسلامية، ذلك أن حكم الأقلية لأي بلد سيؤدي بالنهاية إلى استبداد حقيقي تلجأ إليه الأقلية للاستمرار في الحكم، وقد جربنا ذلك في سوريا عقوداً من الزمن آلت إلى ما وصلنا إليه، ولا سبيل لنا لإعادة تجربته.
كما أنَّ هذه الهوية هي المعبرة عن رابطة الدولة بمحيطها من الدول والمجتمعات، وأي عبث بهذه الهوية سيقطع الروابط الدينية واللغوية للدولة السورية بمحيطها الذي تنتمي إليه.
وقد احتوت الوثيقة على مبالغة في تطمين الأقليات والتنكُّر للهوية الدينية للشعب بزعم "المساواة التامّة في المواطنة".
إنَّ إعطاء الأقليات حقوقها وما بين فئات الشعب من روابط لا يعني نزع هوية بقية أفراد الشعب وقصر العلاقة على "مواطنة" علمانية لا تفرق بين حقوق "الأكثرية" و"الأقلية" وأثر ذلك في الدولة والمجتمع.
ثالثًا: هوية رئيس الدولة:
نصت الوثيقة على أنَّه: " يحقّ لأيّ مواطن أن يشغل جميع المناصب في الدولة، بما فيها منصب رئيس الجمهوريّة، بغض النظر عن دينه أو قوميّته، رجلاً كان أم إمرأة".
إنَّ تولي أيًا من مناصب الدولة ينبغي أن يكون مُعبِّرًا عن هوية الدولة وحاميًا لها، أما افتعال محاصصة طائفية في الحكم أو مؤسسات الدولة، أو التكلف في تنصيب من لا يعبر عن هوية الدولة بزعم "المساواة" أو "صيانة حقوق الأقليات" فليس من العدل ولا الإنصاف ولا الحكمة في شيء، ولا يعود على البلاد والعباد بخير، وهو مرفوض بكل المعايير والمقاييس.
بل إنَّ العديد من الدساتير والنظم الغربية التي تسعى لفرض ذلك علينا قد حصرت مناصب "سيادية" على طوائف بعينها تمثل الأكثرية فيما لا مجال للتفصيل فيه في هذا الموقف.
رابعًا: "حقوق" المرأة:
مكانة المرأة مصانة في الإسلام كما جاءت بها شريعة رب العالمين، وقد وقع على المرأة السورية أثناء حكم هذه العصابة المجرمة من الظلم والأذى الشيء الكثير، تارة بإرغامها على التخلي عن خصائص هويتها الإسلامية بزعم الحرية والتقدمية، وتارة بزجها في مواقف لا تناسبها باسم التحرر أو التخلص من أدران التخلف والرجعية، وتارة بالسجن وانتهاك الكرامة باسم محاربة الإرهاب، وغير ذلك.
إنَّ "تحرير" المرأة السورية من نير هذا النظام الغاشم هو جزء من تحرير المجتمع السوري بكامله، وإعادة حقوقه المسلوبة، ويجب أن يكون هذا "التحرير" بما يتوافق مع خصوصية المرأة وهويتها الإسلامية وبما كرمتها الشريعة به، وليس بفرض معايير تتوافق مع ثقافات وهوية أقوام آخرين بزعم "إزالة كافة أشكال التمييز".
ومما يدعو للاستغراب إلحاح الوثيقة على موضوع المرأة وما سمته من مكتسبات غامضة أو "إزالة أشكال التمييز" وفق "المواثيق الدوليّة" دون مراعاةٍ لهوية البلاد والموقف الشرعي من هذه الأمور.
خامسًا: المبادئ "فوق الدستورية":
إنَّ أخطر ما تضمَّنته "وثيقة العهد" عدم الاكتفاء بتبني الأمور السابقة والدعوة إليها، بل عملت على محاولة فرضها على الشعب السوري الحر الثائر في وجه طغيان الأسد وزمرته، وهو منشغل في معركة التحرر الكاملة، وذلك من خلال إعطاء هذه القرارات صفة شرعية دائمة يجب أن يتبناها أي دستورٍ قادم وعدم جواز خلوه منها، فقد سميت الوثيقة بـ (وثيقة العهد الوطني التي تضع الأسس الدستورية لسورية المستقبل)، مع أنها لم تعرض على الشعب ولم يوافق عليها، ولم تطرح في استفتاءٍ ولا مشورة، فهي مصادرة للإرادة الشعبية باسم الحرية، وسلب للحقوق بزعم إعطاء الحقوق، وفرض للرأي الواحد في سياق ادعاء حرية الرأي والتعبير(2).
إنَّ مصادرة حق الشعب في اختيار دستوره ونظام حكمه والاستقواء في سبيل ذلك بدول العالم ومنظماته، يكشف زيف الحرية والديمقراطية المدعاة، ويكشف حقيقة نظرة هذه الفئات للشعب وتعاملهم معه.
كما أنَّه لا يجوز لأي جهةٍ كانت أن تفرض نفسها على الشعب وتصادر حقه فيما يختاره ويقرره، لا سيما وإن كانت هي نفسها جهة غير "شرعية" ولا منتخبة.
والحمد لله رب العالمين
-------------------------------------------------
(1) قال القنصل البريطاني (1945) في دمشق:
"لقد أفسد الفرنسيون أبناء الطوائف بإضفاء الحماية عليهم وتفضيلهم على غيرهم، وبالتالي زرعوا في نفوسهم الشعور بالاستعلاء مما جعلهم يبالغون في المطالبة بحقوقهم أو التعبير عن مظالمهم. وإذا استطاع هؤلاء أن يتخلوا عن هذه المشاعر والتصرف على أساس أنهم مواطنون سوريون بالدرجة الأولى فإنه لن يكون هناك مبرر لشعورهم بالخوف".
(2) ويلحظ أن ما جاء في جانب الدين والمعتقد: جعلت فيه الحرية المطلقة دون شرطٍ أو قيد (لا يجوز لأحد فرض دينٍ أو اعتقادٍ على أحد، أو أن يمنع أحداً من حريّة اختيار عقيدته وممارستها)، أما في جانب اختيار هذه المبادئ فهي لازمة لكل سوري وفي أي دستورٍ قادم!