السؤال:
ما حكم بناء القباب والمقامات والمشاهد على قبور وأضرحة من اشتهر بين الناس بالصلاح أو العبادة؟ وما حكم هدمها وإزالتها؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن سار على هديه إلى يوم الدين، أما بعد:
أولاً: كرَّم ديننا الحنيف المسلمَ ميتاً كما كرَّمه حياً، فأمر بتغسيله وتطييبه وتكفينه، ثم الصلاة عليه ومواراته في القبر. كما نهى عن امتهان القبور، فحرَّم المشي أو القعود عليها، ودعا إلى زيارتها، والسلام على أهلها، والدعاء لهم.
كما حَرِص الدين القويم على عقائد الناس وتوحيدهم، فسدَّ أبواب الفتنة ومنع ما يؤدي إلى الغلوِّ في القبور أو أصحابها، فنهى عن الصلاة في المقابر، وتشييد البناء والمشاهد والقباب عليها، كما أمر بتسوية القبور المشرفة، وأرسل نبي الإسلام _صلى الله عليه وسلم_ الرُّسل في سبيل ذلك:
فعَنْ جَابِرٍ _رضي الله عنه_ قَالَ: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ) رواه مسلم. وتجصيص القبور: تبييضها بالجصّ، وهو الجير.
وعَن عَائِشَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ _رَضيَ اللهُ عنهما_ قَالَا: (لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا) رواه البخاري. ومعنى (لَمَّا نَزَلَ): أي نزلت به سكرات الموت، و(طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً): جعل يلقي كساء مربعًا أسود له خطوط. قال العيني _رحمه الله_ في" شرح سنن أبي داود":" إنما لعنهم لكونهم بنوا مساجد على القبور".
وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ _رضي الله عنهما_: (ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَذَكَرَتَا لِلنَّبِيِّ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ فَقَالَ: إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) متفق عليه.
قال ابن رجب _رحمه الله_ في "فتح الباري":"هذا الحديث يدل على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين".
ثانياً: قد تواتر عن أهل العلم النهي عن البناء على القبور:
قال الكاساني _رحمه الله_ في"بدائع الصنائع":"وكره أبو حنيفة البناء على القبر وأن يُعلَّم بعلامة".
وقال القرطبي _رحمه الله_ في "تفسيره":" فاتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها، إلى غير ذلك مما تضمنته السنة من النهي عنه ممنوع لا يجوز".
وقال الشوكاني _رحمه الله_ في"نيل الأوطار" :"السُّنة أن القبر لا يُرفع رفعاً كثيراً من غير فرق بين من كان فاضلاً ومن كان غير فاضل، والظاهر أن رفع القبور زيادة على القدر المأذون فيه محرم، وقد صرح في ذلك أصحاب أحمد وجماعة من أصحاب الشافعي ومالك".
وقول بعض أهل العلم (مكروه) محمولٌ على التحريم، كما هي عادتهم في تسمية المحرم مكروهًا قبل استقرار المصطلحات، قال ابن حجر الهيتمي _رحمه الله_ في كتابه "الزواجر عن اقتراف الكبائر": "والقولُ بالكراهة محمولٌ على غير ذلك؛ إذْ لا يُظنُّ بالعلماء تَجويزُ فعلٍ تواترَ عن النَّبيِّ _صلى الله عليه وسلم_ لعْنُ فاعلِهِ".
وهَبْ أن البناء على القبور كان مكروهاً، فهل حِرصُ الناس عليه وإنفاقُ الأموال لأجله، ودفاعهم عنه ضدَّ من يتعرض له دليل على كراهيتهم له، أم علامة على أن القلوب قد أُشربت حبه والنفوس تعلقَّت به؟! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثالثاً: فإذا تبين حرمة بناء المشاهد والقباب على القبور، فالواجب إزالتها متى وجدت، وقد جاء ذلك جلياً في أمر النبي _صلى الله عليه وسلم_، ووردت بمثله الآثار عن الصحابة _رضوان الله عليهم_، وعليه كان العمل عند أهل العلم وحكام المسلمين:
1 - فعن أَبِى الْهَيَّاجِ الأَسَدِيّ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَلاَّ أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَني عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_ أَنْ لاَ تَدَعَ تِمْثَالاً إِلاَّ طَمَسْتَهُ، وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا [أي مرتفعًا عن الأرض] إِلاَّ سَوَّيْتَهُ) رواه مسلم.
قال النووي _رحمه الله_ في "شرحه على صحيح مسلم":"فيه أن السُّنة أن القبر لا يرفع على الأرض رفعاً كثيراً ولا يُسَنَّم [يرفع عن الأرض بحيث يكون مثل السَّنام] بل يُرفع نحو شبر".
2_ وقال الإمام الشافعي _رحمه الله_ في كتاب" الأم":"وقد رأيت من الوُلاة مَن يَهدم بمكَّة ما يُبنى فيها، فلم أَرَ الفقهاءَ يَعيبونَ ذلك".
3_ وقال ابن كثير _رحمه الله_ في "تفسيره": "وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب_رضي الله عنه_ أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق، أمر أن يُخفى عن الناس، وأن تُدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده"؛ وذلك حفاظاً على عقائد الناس وتوحيدهم، حيث أن أهل فارس كانوا يغلون فيه، فأمر_رضي الله عنه_ بإخفائه خشية الغلو فيه مرة ثانية.
4_ وقال ابن قيم الجوزية_رحمه الله_ في "إغاثة اللهفان": "وأبلغ من ذلك: أن رسول الله أمر بهدم مسجد الضرار، ففي هذا دليل على هدم ما هو أعظم فساداً منه كالمساجد المبنية على القبور، فإن حكم الإسلام فيها أن تهدم كلها حتى تسوى بالأرض، وهي أولى بالهدم من مسجد الضرار، وكذلك القباب التي على القبور يجب هدمها كلها؛ لأنها أسست على معصية الرسول؛ لأنه قد نهى عن البناء على القبور؛ فبناءٌ أُسِسَ على معصيته ومخالفته بناءٌ محرم، وهو أولى بالهدم من بناء العاصب قطعًا".
5_ قال ابن حجر الهيتمي _رحمه الله_ في "الزواجر عن اقتراف الكبائر":" تجبُ المبادرة لهدم المساجد والقباب التي على القبور؛ إذ هي أضر من مسجد الضرار؛ لأنها أُسست على معصية رسول الله، وكانت هذه الفتوى في عهد الملك الظاهر, إذ عزم على هدم كل ما في القرافة من البناء كيف كان، فاتفق علماء عصره أنه يجب على ولي الأمر أن يهدم ذلك كله".
رابعاً: إلا أنَّ هدم هذه المشاهد والأبنية وإزالتها مشروط بألا يؤدي هدمها إلى منكر أعظم منه، فإن النبي _صلى الله عليه وسلم_ كان كثيراً ما يترك الأمر، وهو يحب أن يأتيه، مخافة أن يؤدي إلى فساد أكبر، فعن عائشة _رضي الله عنها_: أنَّ النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال لها: (يَا عَائِشَةُ، لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالْأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ: بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ) متفق عليه.
قال الحافظ ابن حجر _رحمه الله_ في "فتح الباري": "ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة".
وقال الإمام النووي _رحمه الله_ في "شرح صحيح مسلم": "وفي هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام، منها: إذا تعارضت المصالح، أو تعارضت مصلحة ومفسدة، وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة، بدئ بالأهم؛ لأن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أخبر أنَّ نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم عليه السلام مصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه، وهي خوف فتنة من أسلم قريبًا، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة فيرون تغييرها عظيمًا".
والناظر لحال البلادِ التي تنتشرُ فيها تلك القباب والأضرحة يُدرك أن في الاستعجال بهدمها مفاسد عظيمة، فطوائف من الناس متعلقون بها أشدَّ التعلُّق، ويرون تعظيمها من الدين، فهدمها قبل تبيين أمرها سيزيد من التعلُّق بها والتعصب لها، وسيستعدي المجتمع على الدعاة المصلحين بما يؤدي إلى كُرههم والتنفير منهم، وفي هذا من الصد عن سبيل الله ما فيه. فلا بد أن يسبق ذلك النصحُ والبيانُ للناس حتى يتمكن الإيمان من القلوب.
وتحقيقُ هذا المقصود لا يكون إلا بأخذ الناس بالرفق والتدرُّج بعد عقودٍ طويلةٍ من التجهيل والبعد عن الدين، وهذا أمر معلوم من سيرة أهل العلم رحمهم الله تعالى:
أ_ فإنَّ الخليفة عمر بن عبد العزيز _رحمه الله_ لما تولى الخلافة لم يتعجَّل في تغيير ما أنكره ممن كان سبقه، فَدَخَلَ عليه ابنه عبد الملك وقال له: "يَا أَبَتِ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَمْضِيَ لِـمَا تُرِيدُهُ مِنَ الْعَدْلِ؟ فَوَاللهِ! مَا كُنْتُ أُبَالِي لَوْ غَلَتْ بِي وَبِكَ الْقُدُورُ فِي ذَلِكَ! فقَالَ:"يَا بُنَيَّ! إِني إِنَّمَا أُرَوِّضُ النَّاسَ رِيَاضَةَ الصَّعْبِ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْيِيَ الْأَمْرَ مِنَ الْعَدْلِ، فَأُؤَخِّرَ ذَلِكَ حَتَّى أخرجَ مَعَهُ طَمَعاً مِنْ طَمَعِ الدُّنْيَا، فَيَنْفِرُوا مِنْ هَذِهِ وَيَسْكُنُوا لِهَذِهِ" أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه.
ب_ وجاء في "البيان والتحصيل": "سئل الإمام مالك _رحمه الله تعالى_ عن الرقيق العجم، يُشترون في شهر رمضان، وهم لا يعرفون الإسلام، ويرغبون فيه، لكن لا يفقهون ما يُراد منهم، فهل يُجبرون على الصيام أم يُطعمون؟ فقال: أرى أن يُطعموا ولا يُمنعوا الطعام، ويرفق بهم حتى يتعلموا الإسلام، ويعرفوا واجباته وأحكامه".
لذا فإننا نرى -في هذا الوقت- عدم الاستعجال بهدمها أو إزالتها، والانصراف بدلاً من ذلك إلى تعليم الناس الدين الصحيح، وتحذيرهم من هذه البدع وآثارها على الدين.
قال ابن القيم _رحمه الله_ في "إعلام الموقعين": "وتأخير الحدّ لعارض أمر وردت به الشريعة، كما يؤخر - أي الحد - عن الحامل والمرضع، وعن وقت الحر والبرد والمرض. فهذا تأخير لمصلحة المحدود، فتأخيره لمصلحة الإسلام أولى".
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبصرنا وإخواننا من طلبة العلم بواجبهم العظيم في نصح هذه الأمة، وتذكيرها بما هو خيرٌ وصلاحٌ ونجاةٌ لها في الدنيا والآخرة، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الأخ منذر وفقه الله لكل خير: 1_ أما قول (فالقباب والمقامات المقامة فوق القبور والأضرحة هي أقرب ما تكون إلى أصنام المشركين) فغير مُسلَّم به، فمع تحريم البناء على القبور إلا أنه ليس شركًا في حد ذاته بإجماع العلماء، فلا يلزم أنَّ كل من بنى على القبر قد وقع في الشرك. فالشرك في فعل الناس عند القبور وليس في البناء، كما أن الشرك موجود مع وجود البناء وعدمه . لذا فالصحيح أنه وسيلة للشرك. 2_ إزالة البناء لن يقضي على الشرك أو الغلو في أصحاب القبور: لذا لا بد من العناية بتعليم الناس الدين الصحيح في المقام الأول. 3_ بقية كلامكم يدور حول التفريق بين أصول الدين والعقيدة وبين التشريعات الفقهية، والمصلحة: أ_ فأما التفريق بينهما فليس في كلام الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم تفريق، بل القيام بهما يكون في حدود القدرة والاستطاعة وتحقيق المصلحة دون تفريق. فقد دلت النصوص الشرعية على إباحة التنازل عن بعض الأمور العقدية تغليبًا لجانب المصلحة، أو لعدم القدرة، كما في قوله تعالى: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}، وقوله: { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}. ب_ وأما المصلحة: فتكون بالنظر إلى الفائدة التي تعود على المجتمع من إزالتها، وتحقيق الهدف من ذلك، ونرى أن هذا غير متحقق الآن لأمور كثيرة، بل لا يقتصر الضرر على فاعله فقط، وإنما يتعدى لغيره من أهل العلم والدعوة، فالواجب الاهتمام بتبليغ دين الله والدعوة إليه وعند ذلك لن يبقى لهذه المخالفات مكان في المجتمع. 4_ القدرة على الإزالة غير موجودة، وليس المقصود مجرد هدم بعضها أو أحدها، بل القدرة على إزالتها والاستمرار في ذلك دون ترتب أذى أكبر. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قادرًا على هدم الأصنام بمكة وفي الأماكن الأخرى في الجزيرة ولو بطرق خفية أو خلسة ، لكنَّه أخَّر ذلك لما بعد فتح مكة ، مما يوضع معنى الاستطاعة الشرعية. فإن قال قائل: لم يهدمها في مكة لأن ذلك سيؤدي لمفاسد عظيمة، فهذا يعني انه ممكن نراعي المفاسد والمصالح حتى في باب التوحيد والشرك. 5_ من المصالح المطلوبة: مراعاة الناحية الإعلامية، وهي أمر معتبر شرعًا، فقد امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين _وهو أمر يتعلق بالإيمان ولا يخفى تأثيرهم على إيمان الناس_ مراعاة للناحية الإعلامية (حتى لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه). ولا ندري أيهما أعظم ضررًا على الدين وأهل : ترك المنافقين يعيثون في المجتمع فسادًا، أم ترك القبب والأضرحة على قبر؟ والله أعلم.الأخت ميس وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ليس في الآيتين دليل على جواز اتخاذ القبور على المساجد: فالآية الأولى الأمر باتخاذ القبور مساجد، أو بناء المساجد على القبور؛ إذ يس المراد بمقام إبراهيم قبره باتفاق أهل العلم، بل اختلفوا في تفسيره، قال البغوي -رحمه الله- في "تفسيره": "{مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} قال ابن يمان: المسجد كله مقام إبراهيم، وقال إبراهيم النخعي: الحرم كله مقام إبراهيم، وقيل: أراد بمقام إبراهيم جميع مشاهد الحج، مثل عرفة ومزدلفة وسائر المشاهد. والصحيح أن مقام إبراهيم: هو الحجر الذي في المسجد يصلي إليه الأئمة، وذلك الحجر الذي قام عليه إبراهيم عليه السلام عند بناء البيت، وقيل: كان أثر أصابع رجليه بينا فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي، قال قتادة ومقاتل والسدي: أمروا بالصلاة عند مقام إبراهيم ولم يؤمروا بمسحه وتقبيله". أما آية الكهف فلا دليل فيها لبناء المساجد على القبور، فهي من قصص الأقوام من قبلنا، وليست من قول أو عمل نبيٍ، بل هي من اجتهاد عامة الناس، وليس هذا بمصدر للتشريع، فكيف إذا عارض ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر من تحريم بناء المساجد على القبور ولعن فاعليها. قال الشنقيطي -رحمه الله- في "أضواء البيان": "أما الجواب عن الاستدلال بالآية فهو أن تقول: من هؤلاء القوم الذين قالوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} أهم ممن يقتدى به! أم هم كفرة لا يجوز الاقتداء بهم؟ وقد قال أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله تعالى في هؤلاء القوم، ما نصه: وقد اختلف في قائل هذه المقالة، أهم الرهط المسلمون أم هم الكفار؟ فإذا علمت ذلك فاعلم أنهم على القول بأنهم كفار فلا إشكال في أن فعلهم ليس بحجة، إذ لم يقل أحد بالاحتجاج بأفعال الكفار كما هو ضروري. وعلى القول بأنهم مسلمون كما يدل له ذكر المسجد؛ لأن اتخاذ المساجد من صفات المسلمين، فلا يخفى على أدنى عاقل أن قول قوم من المسلمين في القرون الماضية إنهم سيفعلون كذا لا يعارض به النصوص الصحيحة الصريحة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم إلا من طمس الله بصيرته فقابل قولهم: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً}، بقوله صلى الله عليه وسلم في مرض موته قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى بخمس: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" الحديث...". والله أعلم