الجمعة 10 شوّال 1445 هـ الموافق 19 أبريل 2024 م
حكمُ استعمال السُّبحة في عدِّ الأذكار
رقم الفتوى : 237
الثلاثاء 16 محرّم 1443 هـ الموافق 24 أغسطس 2021 م
عدد الزيارات : 40299

حكمُ استعمال السُّبحة في عدِّ الأذكار

السؤال:

ما هو حكم استعمال المسبحة، وقد قرأتُ بعضَ ما كُتب في حكمها، فرأيتُ منهم مَن يحكم بأنها بدعة، ومنهم مَن يستحبّها، وكلٌّ منهم يذكر أدلةً تؤيد قولَه، فأصبحتُ مشوشاً متردِّداً بين الرأيين، فهل تتفضلون ببيان الحكم التفصيلي للسُّبحة؟

الجواب:

الحمدُ لله، والصلاة والسلامُ على رسول الله، وبعد:

فاستعمالُ السُّبْحة (المسبحة) في عدّ الأذكار الشرعية جائزٌ عند عامّة العلماء، مع أفضلية عدِّ التسبيح بالأصابع، والحذرِ مِن المراءاة في طريقة استعمالها، وفيما يلي تفصيلُ ذلك:

أولاً:

السُّبحةُ أو المِسبحة اسمٌ للآلة التي يُعدّ بها التسبيح والأذكار الشرعية، وهذا الاسم مشتقٌّ مِن: التّسبيح، وهو قول: سبحان الله.

قال الخليل بن أحمد الفراهيدي في العين: "والسُّبْحةُ: خَرَزاتٌ يُسَبَّح بعددها".

وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: "والسُّبْحة بضم السين وإسكان الباء: خرزٌ منظومةٌ يُسبَّح بها، معروفةٌ يعتادها أهلُ الخير، مأخوذةٌ مِن التسبيح".

ثانياً:

الأصلُ في حكم السُّبحة سواء كانت تقليدية أو إلكترونية: الإباحة، والقولُ بالإباحة لا يفتقر إلى أدلة خاصة، وكلُّ ما نذكره بعد ذلك مِن دلائل وشواهد فهو مما يقوّي هذا الأصل، لا أنّ ثبوتَ إباحةِ السُّبحة متوقّفٌ عليه، فمناقشةُ بعض هذه الاستدلالات أو تطرّقُ الاحتمال إليها لا يعني التشكيكَ في ثبوت الحكم، ومِن هذه الأدلة:

1- أنّ السبحة إنّما هي وسيلةٌ لتحقيق العدد الذي تعلَّق به الفضلُ الوارد في السنة، وليست مقصودةً لذاتها، ولا هي عبادةٌ مستقلّةٌ، والوسائل المستعملة لتحقيق المقصود الشرعي غيرُ ممنوعة، كمكبّر الصوت، ووضع خطوط في الصفوف، واستعمال الصّنابير بدل الأحواض في المساجد للوضوء، وتسخير وسائل الاتصال والتواصل في الدعوة إلى الله.

2- ما ورد مِن آثار عن عددٍ مِن الصّحابة رضوان الله عليهم مِن عدّ التسبيح بالحصى ونوى التمر.

فقد رواه ابن أبي شيبة في المصنَّف عن علي وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما، ورواه أبو داود في سننه وابن أبي شيبة وابن سعد في الطبقات عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه الإمام أحمد في كتاب الزهد وابن سعد في الطبقات عن سعد بن أبي وقاص وأبي صفية مولى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ورواه عبد الله ابن الإِمام أحمد في زوائد كتاب الزهد لوالده عن أبي الدرداء رضي الله عنه.

وهذه الآثارُ وإن تُكلّم في بعض أسانيدها إلا أنّ منها ما هو ثابتٌ، ومجموعُها يدلّ على أنّ عدَّ الأذكار بالنوى والحصى معروف شائعٌ في زمنهم، وقد توارد العلماء على إثبات نسبة ذلك إلى الصحابة، ولم يؤْثَر عن أحدٍ نفيُ ثبوت التسبيح بالحصى والنوى عن الصحابة، وليس هناك فرقٌ مؤثرٌ في الحكمِ بين أن يكون العدُّ بحبّاتٍ منفردة، أو بحباتٍ منظومةٍ بخيط.

قال ابن حجر الهيتمي كما في "مرقاة المفاتيح": "والرواياتُ في التسبيح بالنوى والحصى كثيرةٌ عن الصحابة، وبعضِ أمهات المؤمنين، بل رآها عليه السلام، وأقرّ عليها".

3-استدلّ كثيرٌ مِن أهل العلم بما أخرجه أبو داود والترمذي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أنه دخل مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلم على امرأةٍ وبين يديها نَوىً -أو حَصًى- تُسبّح به، فقال: (أخبرُكِ بما هو أيسَرُ عليكِ مِن هذا، أو أفضل...)، وفي سنده ضعفٌ، وقد صححه ابن حبان والحاكم، وحسنه الحافظ ابن حجر.

وفي الحديث إقرارُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم للمرأة على التسبيح بالحصى، وعدم بيان مخالفته للشريعة، وتأخيرُ البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

قال ابن رسلان في شرح سنن أبي داود:"فيه فضيلةُ التّسبيح بالحصى والنوى ونحو ذلك، ولعلَّ السبحة التي تُنظَم في الخيط لم تكن عرفت حينئذٍ، ثم حدث استعمالُها، وهو أنظفُ مِن الحصاة، وأسرع للتسبيح، وقد استعملها المتقدمون مِن السلف الصالح".

وقال الملا علي القاري في مرقاة المفاتيح: "وهذا أصلٌ صحيحٌ لتجويز السبحة بتقريره صلى الله عليه وسلم؛ فإنه في معناها؛ إذ لا فرقَ بين المنظومة والمنثورة فيما يُعدُّ به، ولا يُعتدُّ بقول مَن عدَّها بدعةً".

وفي "عون المعبود": "والحديثُ دليلٌ على جواز عدّ التسبيح بالنوى والحصى، وكذا بالسبحة؛ لعدم الفارق لتقريره صلى الله عليه وسلم للمرأة على ذلك وعدم إنكاره، والإرشادُ إلى ما هو أفضل لا ينافي الجواز، وقد وردت بذلك آثار".

وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "وأما عدُّه بالنوى والحصى ونحو ذلك فحسنٌ، وكان مِن الصحابة رضي الله عنهم مَن يفعل ذلك، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أمَّ المؤمنين تسبح بالحصى وأقرَّها على ذلك، وروي أن أبا هريرة كان يسبح به.

وأما التسبيحُ بما يُجعل في نظام مِن الخرز ونحوه فمِن الناس مَن كرهه، ومنهم مَن لم يكرهه، وإذا أُحسنت فيه النية فهو حسنٌ غير مكروه".

4-أنّ ورود الأحاديث النبوية بمشروعية أعدادٍ محدّدة مِن الأذكار يقتضي مشروعيةَ عدّها لتحصيل ذلك العدد، وما ورد مِن عدّها بالأنامل يتضمن التنبيهَ على جواز استعمال ما يضبط العددَ مِن غيرها؛ لأنّ المقصودَ هو تحصيلُ ذلك العدد بأيِّ طريق كان، وهذا الذي فهمه العلماء.

وقد استدلّ الإمام أحمد بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم مِن عدّ التسبيح على جواز عدِّها بالنوى، فقد جاء في مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه لإسحاق بن منصور الكوسج أنه قال للإمام أحمد: "قُلْتُ: يُسبِّحُ الرجلُ بالنَّوى؟ قال: قَدْ فَعلَ ذلك أبو هريرةَ وسعد رضي اللَّه عنهما، وما بأسٌ بذلك! النبيُّ صلى اللَّه عليه وسلم قد عَدَّ، قال إسحاق بن راهويه: كمَا قال".

فقوله: "النبي صلى اللَّه عليه وسلم قد عَدَّ" يعني بذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم مِن مشروعية عدّ التسبيح بالأصابع.

5-أنّنا لم نقف على قولٍ لعالمٍ معتبر مِن المتقدمين وفقهاء الأمصار في تحريم السبحة والمنع منها.

قال السيوطي في رسالته في السبحة: "ولم يُنقل عن أحدٍ مِن السلف ولا مِن الخلف المنعُ مِن جواز عدّ الذكر بالسُّبحة، بل كان أكثرهم يعدّونه بها، ولا يرون ذلك مكروهاً"، ونقله مقراً له الشوكاني في "نيل الأوطار"، والمباركفوري في "تحفة الأحوذي".

ثالثاً:

الأفضلُ عقد التسبيح وضبط العدد بالأصابع كما وردت به سنة النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية.

أخرج أبو داود والترمذي عن يُسيرةَ رضي الله عنها: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لهن: (عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس، واعقدن بالأنامل؛ فإنهن مسؤولات مستنطقات، ولا تغفلن فتنسين الرحمة)، وفي سنده مقال، ولكن صححه ابن حبان وحسنه النووي والعراقي والحافظ ابن حجر.

قال السّندي: "قوله: (واعقدن) أي: احفظن العددَ بالأنامل، (مستنطَقات) أي: يُطلب منها النطقُ يوم تشهد عليهم ألسنتُهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فينبغي استعمالُها في صالح الأعمال؛ لتشهد بها".

وأخرج أبو داود والترمذي وحسّنه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "رأيتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلم - يعقِدُ التسبيحَ".

قال ابن رسلان في شرح سنن أبي داود: "ويؤخذ منه أنه -أي: عقد التسبيح بالأصابع- أفضل مِن عدّ ذلك بالمسبحة؛ فإنّ اتباعَ السنّةِ أولى، وإن كانت السبحةُ في معنى ذلك".

وقال الشوكاني في نيل الأوطار: "وقد علّل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذلك في حديث الباب بأنّ الأناملَ مسؤولات مستنطقات، يعني أنهن يشهدن بذلك، فكان عقدُهن بالتسبيح مِن هذه الحيثية أولى مِن السبحة والحصى".

ومِن أهل العلم من فصّل في ذلك فرأى تفضيلَ السبحة إذا خُشي الغلطُ في العدد دونها، أو كانت أعونَ على حضور القلب.

قال ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الفقهية الكبرى": "وعن بعض العلماء: عقدُ التسبيح بالأنامل أفضل مِن السبحة؛ لحديث ابن عمرو، وفصّل بعضهم فقال: إنْ أمن المسبحُ الغلطَ كان عقدُه بالأنامل أفضل، وإلا فالسبحةُ أفضل".

وقال ابن علّان في الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية: "وحاصلُ ذلك أنّ استعمالَها في أعداد الأذكار الكثيرة التي يُلهي الاشتغالُ بها عن التوجّه للذّكر أفضلُ مِن العقد بالأنامل ونحوه، والعقدُ بالأنامل فيما لا يحصل فيه ذلك سيما الأذكار عقب الصلاة ونحوها أفضل".

رابعاً:

أما ما ورد مِن الآثار عن بعض الصحابة والتابعين في كراهة عقد التسبيح، فإنهم كرهوا العقدَ نفسَه وضبط العدد مطلقًا، لا خصوص عقده بالسبحة أو بالحصى والنوى، وإنما كرهوه لمعنى آخر، وهو المنُّ على الله، وعدُّ الحسنات عليه، كما ثبت عند ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي قال: "كان عبد الله -يعني ابن مسعود رضي الله عنه- يكره العَدَّ، ويقول: أّيُمَنُّ على الله حسناته؟!".

ونُقل عن ابن عمر أنه قال: "تحاسبون الله!".

ويؤكّد ذلك أن ابن أبي شيبة بوّب على هذه الآثار بقوله: "مَن كره عقدَ التسبيح".

خامساً:

الذي ينبغي الحذر منه في استعمال السبحة أمور، منها:

*إظهارها وتعليقها بالعنق للرياء والسمعة.

* وجعلُ إظهارها أو استعمالها مِن شعار الدين الذي يُذم مَن يتركه.

* وجعلها وسيلةً للغفلة وعدم حضور القلب.

* والإسراف والتغالي في ثمنها.

*والخروج بها عن المعتاد في الطول والشكل واللون.

قال الحصكفي في "الدر المختار": "لا بأس باتخاذ المسبحة لغير رياء".

وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "وأما اتخاذُه مِن غير حاجة، أو إظهارُه للناس مثل تعليقه في العنق أو جعله كالسوار في اليد أو نحو ذلك فهذا إما رياء للناس أو مظنة المراءاة ومشابهة المرائين من غير حاجة؛ الأولُ محرم، والثاني أقلُّ أحوالِه الكراهة؛ فإنّ مراءاةَ الناس في العبادات المختصة كالصلاة والصيام والذكرِ وقراءة القرآن مِن أعظم الذنوب".

ولكن إذا صار مِن عادة بعضِ الناس حمل السبحة للزينة، ولم يَعُد لها مدخلٌ للرياء أو التظاهر بالعبادة، وصار لها أنواعٌ معروفة لا تُستخدم إلا للزينة فتصير مِن أمور العادات التي تبقى على أصل الإباحة.

سادساً:

أما استدلال بعض المعاصرين على تحريم السبحة بأنها مأخوذة مِن الأمم السابقة، فيكون من التشبه المحرم فليس صحيحًا، ويدلّ على ذلك:

1-أنّ ما ورد مِن الآثار عن الصحابة ومَن بعدهم مِن التسبيح بالنوى يدلّ على أنّ أصل معنى السُّبحة مِن العدّ بغير الأصابع ليس مأخوذاً عن الأمم السابقة.

2- أنّ العلماء السابقين الذين تعرّضوا لحكم السبحة لم يذكر أحدٌ منهم أنها أُخذت مِن غير المسلمين، وإنما ظهرت هذه الدعوى في هذا الزمان مما يدلّ على عدم صحتها.

3-أنّ ما أُخذ مِن الأمم السابقة -على فرض صحةِ ذلك في السبحة- لا يكون محرّماً دائماً، بل يُعرض على نصوص الشريعة وقواعدها، ثم يكون حكمُه بحسب ذلك.

4-أنّ التشبه المحرم إنما يكون فيما هو مِن خصائصهم الدينية وشعائرهم التعبدية، ولم يثبت ذلك في السبحة، فعدّ الأذكار بالسبحة لا مدخلَ له في التعبديات المحضة.

5-أن استعمال السُّبحة في الأمم السابقة كان مرتبطًا بطقوس واعتقادات، وليس مجرد أداة لعقد التسبيح وعدّ الأذكار.

وبهذا يتضح أنّ استعمال السبحة في عدّ الأذكار لا بأس به مع الحذر مِن الرياء والسُّمعة، والمغالاة فيها، ومَن لم ير استعمالها فليعقد التسبيح بالأصابع دون إنكارٍ على مَن اختار العدّ بها؛ لأنها ليست من مسائل الإنكار، ولما سبق مِن أدلة الجواز.

والله أعلم.