السؤال:
يكثر السؤالُ في الوقت الحالي عن حكم البقاء في المناطق التي يستعيدها النظامُ مِن الثوار، وحكم استمرار العيش في مناطق سيطرته، أو حكم السفر إليها ممّن يعيش خارجَها للزيارة، أو تسوية الأوضاع مع النظام، وخاصة أنها أصبحت تحت الاحتلال الروسي والإيراني، وهم الحاكمون فعلياً للبلاد..
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإنَّ المناطَ الشرعيَ الذي يُبنى عليه الحكمُ في هذه المسألة هو: قدرةُ الشخص على إقامة دينه، وأمنُه على نفسِه وعِرضه وماله، وما يترتب على هذا البقاء مِن تحصيل المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، وغلبة الظنّ في وقوع الضرر بالبقاء أو عدمه، وبالتالي فإنّ الحكمَ يختلف بحسب الأشخاص والأحوال.
وبيانُ ذلك فيما يلي:
أولاً: يختلف حكمُ البقاء في المناطق التي استعادها النظامُ بحسب حال الشخص ووضعه:
- فإنْ غلب على ظنِّه أنه لن يُترك وشأنَه، ولن يأمنَ على دينه أو نفسه أو عرضه، فلا يحلُّ له البقاء، بل يجب عليه الخروج، وأجرُه على الله تعالى، ويرُجى له أجرُ الهجرة في سبيل الله تعالى.
ويتأكّد هذا في حقِّ مَن كان معروفًا بنشاطه الثوري، أو مهدّدًا بالتجنيد في صفوف النِّظام؛ لما يترتب على هذا البقاء مِن مخاطر عظيمة، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97].
ولا ينبغي أن يكون كُرهُ ترك البلاد، وثِقَلُه على النفْس أو خشيةُ الضِّيق المادي مانعاً مِن الخروج؛ فإنّ حبَّ الوطن والدِّيار لا يُقدَّم على الحفاظ على الدِّين والعِرض، وقد هاجر خيرُ البشر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر أصحابُه لأجل ذلك، والرِّزقُ بيد الله تعالى، فكما يسّره للمحاصَرين سنواتٍ طويلةً فسييسره في غيره مِن الأماكن، قال تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100] ، ومعنى "مراغَماً" أي: مُهاجَراً ومكاناً يتحوّل ويأوي إليه.
-وإن غلب على ظنِّه السلامةُ في الدِّين والنفْس والمال والعِرض، فلا حرج عليه أن يبقى، وحالُه كحال الناس الساكنين في مناطق النظام مِن أول الثورة.
- ومَن غلب على ظنه أنَّ بقاءه فيه منفعة حقيقية للمسلمين مما لا يقوم بها غيرُه، مِن القيام بشؤونهم وخدمتهم، والحفاظ على دينهم، ورفع الظلم أو تخفيفه عنهم، والحفاظ على التركيبة السكانية بتكثير عددهم، وتفويت الفرصة على النِّظام في سعيه إلى تهجير أهل السنة مِن مناطقهم: فلا حرج عليه أن يبقى، بل يُرجى له الأجرُ في بقائه، وأن يكون ذلك مِن الرباط في سبيل الله تعالى.
ثانيًا: "التسوية الأمنية" التي تتضمّن التراجعَ عن معارضة النِّظام والثورة عليه، والإقرار على النّفس بالباطل : جُرمٌ كبيرٌ، لا يجوز السعيُ إليها ولا القبول بها؛ لما فيها مِن الدُّخول تحت حُكمِه، وتكثيرِ سوادِه، وإعانته على استعادة شرعيتِه، وتوطيد حكم الميليشيات الطائفية على البلاد والعباد، ولما يترتب عليها مِن مشاركته في إجرامه وأعماله العدوانية، سواء بالانضمام للجيش أو المؤسسات الأمنية، أو التعامل معه بالتّجسس لصالحه، أو العمل على إقناع الناس بالولاء له، ونحو ذلك، قال تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } [هود: 113].
قال الطبري في "تفسيره": "لا تميلوا، أيها الناس، إلى قول هؤلاء الذين كفروا بالله، فتَقبلوا منهم وترضوا أعمالهم، {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}: بفعلكم ذلك، وما لكم مِن دون الله من ناصرٍ ينصركم، ووليٍّ يليكم، {ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ}يقول: فإنّكم إنْ فعلتم ذلك لم ينصركم الله، بل يُخليكم مِن نصرته، ويسلّط عليكم عدوّكم".
ويُعد المنضمُّ لجيش النِّظام شريكًا له في جرائمه، ولا يعفيه الاعتذارُ بتضييق النِّظام عليه؛ إذ الواجب عليه أن يستنقذ نفسَه مِن ذلك بكلِّ الطرق الممكنة.
ولو فُرض أنه أُجبر على الانضمام للجيش لوجب عليه أن يمتنع مِن إيذاء الآمنين، وأن يحاول التخلّصَ منه قدرَ المستطاع، وللمزيد ينظر فتوى:
(حكم مَن أُكره على الالتحاق بحملة التجنيد الإجباري لجيش النظام السوري) .
وقد تدخل هذه التسويةُ في باب موالاة النظام، وهي خطرٌ عظيم على الدِّين، وتراجع فتوى (هل موالاة الكفار كفر بإطلاق).
كما أنَّ سيرةَ هؤلاء المجرمين مليئةٌ بالغدر والإجرام، وأخبارُ غدرِه بمن سوّى وضْعَه معهم سارت بها الركبان، ولا يجوز للشخص أن يعرّض نفسَه لهذا البلاء.
- أمّا التسوية الأمنية التي يكون الهدفُ منها الخلاصَ مِن احتمال التعرّض للاعتقال، أو بهدف الحصول على الأوراق الثبوتية الضرورية مِن غير أن يترتب عليها مشاركةُ النظام في شيء مِن أعماله الإجرامية، ويأمن فيها الإنسان على دينه وماله وعِرضه فهذه جائزةٌ للضرورة والحاجة الملحّة.
ثالثاً: الأصلُ عدمُ الرجوع للإقامة والسُّكنى في مناطق النظام ممّن هم خارجَها؛ لأنّ فيها دخولاً تحت حكم الطُّغاة بالاختيار، ويتأكد المنعُ عند غلبة الظن بتعرُّض الشخص للاعتقال أو الاحتجاز أو السَّوق للتجنيد الإجباري، أو الاستجواب والإضرار بالمجاهدين.
ومَن كان له عذرٌ في الانتقال إلى مناطق النِّظام لسببٍ مِن الأسباب المعتبرة في ترك منطقته أو بيته، كاستحالة العيش بسبب الجوع، أو الحصار، أو التدمير الشديد، أو لاضطراره لمرافقة أسرته المقيمين في مناطق النظام، أو للعلاج ونحو ذلك مِن الأمور الضرورية: فله أن يترخّص بتجنيب نفسه مظانّ القتل والهلاك.
وكذا السفر -العارض- للمناطق الخاضعة لسيطرة النظام: إن كان هناك حاجةٌ تدعو إليه، كتفقّد الأهل، أو رعاية المصالح، أو استكمال بعض الأوراق أو المعاملات المهمة، أو العلاج، أو غير ذلك مما لا يتوفر في غيره: فهو جائزُ؛ للحاجة إليه إذا لم يغلب على الظنّ وقوعُ ضررٍ أكبر، مع التنبُّه إلى أخذ الحيطة والحذر مِن الاعتقال أو الإيذاء.
نسأله تعالى أن يفرّج عن المسلمين، ويخفف عنهم مصابهم، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين.