تثبيتُ أثمانِ البيوع الآجلة وتوثيقها بالدولار بسبب تذبذب أسعار الليرة
الكاتب : المكتب العلمي ـ هيئة الشام الإسلامية
الثلاثاء 15 يونيو 2021 م
عدد الزيارات : 36666

تثبيتُ أثمانِ البيوع الآجلة وتوثيقها بالدولار بسبب تذبذب أسعار الليرة

السؤال:

أنا تاجرٌ أبيع السلع بالليرة السورية إذا كان المشتري سيدفع الثمن حاضرًا، أمّا إذا كان يريد أن يشتريها بالدين فأسعّرها له وأقيّدها بالدولار؛ فما حكم ذلك؟

الجواب:

الحمدُ لله، والصّلاة والسّلامُ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعدُ:

فإنَّ الأسلمَ والأبعدَ عن النزاع في ظلّ اضطراب أسعار الليرة السورية إجراءُ التعاقدات التجارية بالذهب أو عملةٍ أخرى مستقرّة، ولا حرج في تقييد ثمن البيوع الآجلة بالذهب أو الدولار أو أيّ عملة يتراضيان عليها، ولا يجوز ربطُ الثمن بعملةٍ أخرى إلا عند الحاجة لدفع الضرر والحرج، وفيما يلي بيانُ ذلك:

أولًا:

الاتفاقُ على الثمن الآجل عند إجراء عقود البيع والإجارة وغيرها مِن التعاقدات، له عدَّة صور:

الأولى: أن يتّفق المتعاقدان على أن يكون الثمن بالدولار أو أيّ عملة يتراضيان عليها.

فهذه الصورة لا حرج فيها، بل هي الأفضل والأسلم في ظلّ الاضطرابات التي تخضع لها الليرة السورية، ويكون ثمن السلعة هو ما اتفقا عليه، ولا أثر لارتفاع الليرة السورية أو انخفاضها؛ لأنّ العقد تم بالدولار.

جاء في قرار مجمّع الفقه الإسلامي [75(8/6)] : "يجوز أن يتفق المتعاقدان عند العقد على تعيين الثمن الآجل أو الأجرة المؤجلة بعملةٍ تُدفع مرة واحدة، أو على أقساطٍ محدَّدة من عملات متعددة، أو بكمية من الذهب، وأن يتمّ السداد حسب الاتفاق".

وفي قرار [115(12/9)] : "يمكن في حالة توقعِ التضخمِ: التحوُّطُ عند التعاقد بإجراء الدَّين بغير العملة المتوقع هبوطُها".

ولا يضرّ ذكر ثمن السلعة بالليرة السورية أثناء المساومة لأجل التقدير إذا كان التعاقد النهائي بالدولار.

 

الثانية: أن يتساوم المتعاقدان على ثمن السلعة بالليرة السورية، مع تقييد الثمن بالدولار.

وهذه الصورة لا حرج فيها؛ لأنّ تراضيَهما على التقييد بالدولار يعني أنّ العقد وقع بهذه العملة، ولكن ليس للتاجر تقييد الثمن بالدولار مِن تلقاء نفسه دون التراضي مع المشتري والاتفاق معه على ذلك.

روى ابنُ أبي شيبة في المصنف عن عمرو بن دينار قال: "سألتُ عطاءَ بن أبي رباح: أشتري بألف درهم، فأقول قبل عَقْدِه: اجعلها مئةَ دينار؟ قال: لا بأس".

وفي المدونة الكبرى: "قلتُ: أرأيتَ إن باع سلعةً بعشرة دنانير إلى أجل، على أن يأخذ بها مئةَ درهمٍ، أيكون هذا البيعُ فاسدًا أم لا؟

قال: لا يكون فاسدًا، ولا بأس بهذا عند مالك.

 قلت: لِمَ؟

قال: لأنّ اللفظَ ها هنا لا يُنظر إليه؛ لأنّ فعلهما يؤوب إلى صلاحٍ وأمرٍ جائز.

 قلت: وكيف يؤوب إلى صلاح؟ وهو إنّما شرط الثمنَ عشرةَ دنانير يأخذ بها مئةَ درهم!

قال: لأنّه لا يأخذ بها الدنانيرَ أبدًا، إنّما يأخذ دراهم، فقوله: عشرة دنانير لغوٌ، فلمّا كانت العشرة في قولهما لغوًا؛ علمنا أنّ ثمنَ السلعةِ إنّما وقع بالمئة درهم، وإنْ لفَظَا بما لفظا به".

وليس هذا من باب البيعتين في بيعة؛ لأنّ العقدَ تمَّ على سعرٍ محدَّدٍ معلومٍ لهما.

قال الخطابي في معالم السنن: "فأما إذا باتَّه على أحد الأمرين في مجلس العقد: فهو صحيحٌ لا خُلفَ فيه، وذِكْرُ ما سواه لغوٌ لا اعتبار به".

 

الثالثة: أن يتفق المتعاقدان على الثمن بالليرة السورية وتقييده بذلك، مع اشتراط ربط الثمن بالذهب أو الدولار أو أيِّ عملةٍ أخرى، بحيث يُسدد الثمن بالليرة حسب قيمته من الذهب أو الدولار وقت السداد.

فهذا الشرط مَنَعَ منه كثيرٌ مِن العلماء المعاصرين، وصدرت بالمنع قراراتٌ مِن بعض المجامع الفقهية والهيئات الشرعية؛ لما يترتّب على هذا الربط مِن غرر وجهالة بحيث لا يَعرفُ كلُّ طرَفٍ ما له وما عليه.

ورخص في ذلك بعض أهل العلم.

ولا شك أن المنع هو الأحوط والأسلم والأبرأ للذِّمّة.

إلا أنَّ العمل بالمنع فيه مشقةٌ وحرجٌ في البلدان التي يعاني أهلُها مِن عدم استقرار عملتِها النقدية، ومنع تداول العملات الأخرى كما هو الحال في سورية الآن.

ورفعًا لهذا الحرج: نرى العمل بقول من رخص بذلك من أهل العلم، وجواز إجراء التعاقدات الآجلة مع اشتراط ربط الثمن بحسب قيمته مِن الذهب أو الدولار؛ لما تتسم به النقود الورقية في هذه البلدان مِن كثرة التذبذب والتقلّب، ولأن تعاملات الناس التجارية لا يمكن أنْ تستقيمَ في الوضع الراهن إلا بذلك؛ ودفعًا للنزاعات والخصومات التي تحصل بين المتعاقدَين وأرباب الأعمال والتجارات.

والذي يُنصح به المتعاقدان أن يكون العقدُ أصالةً بالدولار أو الذهب إن أمكن ذلك، فهذه الصورة جائزةٌ بلا خلاف، كما سبق.

 

الرابعة: أن يكون العقد بالليرة السورية تثمينًا وتقييدًا، دون اشتراطٍ واتفاقٍ على ربطه بشيء من العملات الأخرى.

وفي هذه الحال يلزم سدادُ المبلغ المتفق عليه بالعملة السورية، لكن إذا انخفضت قيمة العملة انخفاضًا كبيرًا يبلغُ ثلثَ قيمتها وقت التعاقد، ففي هذه الحال يكون العمل وفق فتوى (سداد الديون)، ويردّ له المال بحسب قيمة السلعة من العملات الأخرى وقت عقد البيع، أو يتصالحان على ثمنٍ يتراضيان عليه.

ثانيًا:

أما سداد أثمان السلع الآجلة، فالأصل فيها أن يكون بالعملة التي جرى التعاقدُ بها.

ولا يجوز بعد إبرام عقد البيع وانقضاء مجلس التعاقد: الاتفاقُ على أن يكون السدادُ بعملةٍ أخرى تختلف عن العملة التي تم عقد البيع بها؛ لأنّ هذا مِن باب التصارف بين العملات في الذمّة، والصرفُ يشترط فيه التقابض في المجلس.

ولكن يجوز للمتعاقدَين وقت السداد: الاتفاقُ على الدفع بعملةٍ أخرى بحسب سعرها يوم السداد.

ويلزم حينئذ: أن تتم المخالصةُ بينهما في المجلس نفسه، بحيث لا يبقى في ذمة المتعاقد شيءٌ مما تمّت عليه المصارفة في الذمة.

وأما إذا كان الثمن مقسّطًا يُسدد على دفعات: فلهما أن يتّفقا عند سداد كلّ دفعة على أخذها بسعر يوم السداد.

روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن سعيد بن جبير قال: رأيت ابن عمر يكون عليه الوَرِق (الدراهم الفضية)، فيعطي قيمتها دنانير إذا قامت على سعر (أي حسب سعرها في السوق)، ويكون عليه الدنانير فيعطي الوَرِق بقيمتها.

قال الترمذي في الجامع: "والعمل على هذا عند بعض أهل العلم: أن لا بأس أن يقتضي الذهب من الورق، والورق من الذهب".

والذي ننصح به الجميع:

إجراءُ الديون طويلة الأمد، وعقود الشراكات، والالتزامات التعاقدية الممتدة: بالذهب أو العملات المستقرّة، فهو أكثر أمانًا وثباتًا وحفظًا للحقوق من الضياع، وبُعدًا عن المنازعات والمشاحنات والخصومات المستقبلية.

والله أعلم

 

 


https://islamicsham.org