* الكتائب المقاتلة كمهدد للأمن الإقليمي:
شابت أجواء التوتر اجتماعاً سرياً جمع ضباطاً سوريين منشقين مع مسؤولين بوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) نتيجة سوء فهم بسيط:
فقد كان ضباط الجيش الحر قد أعدوا قائمة بالأسلحة والذخيرة وأدوات الاتصال التي تتطلبها عملية إحكام السيطرة على المحافظات الجنوبية ومواجهة النظام في دمشق؛ لكنهم فوجئوا بأن المسؤولين الأمريكيين لم يعيروا اهتماماً كبيراً لمعركة المصير! بل كان اهتمام ضباط الاستخبارات الأمريكية منصباً على جمع معلومات عن الكتائب الإسلامية التي صنفت على أنها "متشددة"، وعن أعداد مقاتليها وأماكن تواجدها، ولم يلتفتوا إلى ما أتى السوريون لمناقشته.
ونقل الكاتب البريطاني "فيل ساندز" عن أحد الضباط السوريين قوله: إن الاجتماع انحرف عن موضوعه بصورة مفاجئة عندما عرض الأمريكيون خططاً لشن ضربات جوية بطائرات دون طيار ضد مواقع للكتائب "المتطرفة" في سوريا، ثم سألوا الوفد السوري عن مدى استعدادهم لتوفير معلومات تساعد على تحديد الشخصيات القيادية والمواقع التي سيستهدفها قسم العمليات الخاصة، وعن إمكانية المساهمة في تلك العمليات ميدانياً، وأردف رئيس الوفد الأمريكي قائلاً: "يمكننا تدريب ثلاثين من رجالكم كل شهر لمساعدتنا في قتال الكتائب المتطرفة"!
ويذكر الضابط السوري أن لسانه قد انعقد من الدهشة إثر ذلك العرض الغريب، ثم تدارك نفسه قائلاً: "لكن اهتمامنا ينصب في الفترة الحالية على توحيد صفوفنا للقضاء على نظام الأسد"!
فأجابه الضابط الأمريكي: "لن أكذب عليك؛ إننا نتجه في الوقت الحالي لقتال الكتائب المتشددة والقضاء عليها، ويمكننا بعد ذلك أن نتحدث عن محاربة جيش الأسد، يتعين علينا تصفية هذه العناصر المتطرفة، وسنقوم بالعمل منفردين إن لم تساعدونا في هذه المهمة"!
لا يتوقف التقرير عند سرد هذه الحقائق المثيرة للاستغراب؛ بل ينقل كاتب التقرير عن الضباط السوريين قولهم: إن أغلب الاجتماعات التي يعقدونها مع أجهزة الاستخبارات الأوروبية تركز على الكتائب "المتطرفة"، ولا يعير ممثلوا هذه الأجهزة اهتماماً كبيراً لمطالب الجيش الحر، ولا يبدون الاكتراث لمقترحاتهم حول: آليات حماية المدنيين، ومنع الشبيحة من ارتكاب المجازر، ووقف القصف العشوائي للمدن الآهلة بالسكان، وقال أحد ضباط الجيش الحر: "كلما اجتمعنا معهم يطلبون المزيد من المعلومات حول جبهة النصرة، يبدو أن هذا هو الأمر الوحيد الذي يهمهم في كل لقاء، لقد أصبح جمع المعلومات عن الكتائب المتطرفة أثمن بضاعة يمكن تقديمها للفت انتباه الاستخبارات الغربية إلينا".
لا شك في أن هناك عددا محدودا من الضباط الذين انشقوا عن النظام بحثاً عن دور أكبر في مرحلة ما بعد بشار، ولذلك فإنهم يرفضون الانضمام للثورة، ويعملون بالتنسيق مع الاستخبارات الغربية في جمع المعلومات ضد قوى الثورة التي لا تنسجم مع توجهاتهم؛ إلا أن هذا لا ينطبق على معظم الضباط المنشقين؛ إذ إن أجهزة الاستخبارات الغربية تشتكي من عدم تعاون قيادة الجيش الحر معه في: "محاربة الإرهاب".
ونظراً لانعدام التوافق في الأهداف وتحديد الأولويات؛ فإن الضباط السوريين الذين التقاهم "فيل ساندز" قد أكدوا له أنهم فقدوا الأمل من الحصول دعم الدول الغربية التي لا تقدم سوى التصريحات والوعود، وبأن إستراتيجيتهم العسكرية تهدف إلى: تطوير تقنيات التصنيع المحلي، والحصول على الأسلحة النوعية من السوق السوداء، وأضاف أحدهم: "بات واضحاً لدينا أن حكومات الغرب لا تخوض المعركة التي نخوضها نحن؛ السوريون يقاتلون من أجل نيل حريتهم، بينما تريد الدول الغربية منا أن نقاتل بعضنا، ولا تكترث بسفك المزيد من دماء السوريين".
وقد دفعت حالة ضعف التعاون بين الإدارة الأمريكية وعموم القوى الثورية في سوريا إلى محاولة واشنطن تحقيق إستراتيجيتها من خلال البحث عن نقاط الالتقاء مع موسكو؛ حيث يبدي الروس تفهماً أكبر للحساسيات الغربية؛ ففي اللقاء الذي جمع كيري ولافروف بموسكو (7 مايو 2013) كانت مشكلة القضاء على "الجماعات المتطرفة" في سوريا أحد أهم النقاط التي توافق عليها الجانبان، وأقر كيري بأنه يتفق مع رؤى موسكو في مواجهة هذه الجماعات.
وبعد مرور أسبوع على اجتماع الاستخبارات الأمريكية مع ضباط الجيش الحر؛ عُقد اجتماع آخر في منتجع "سوتشي" بالبحر الأسود بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، واستمر الحديث بينهما مدة ثلاث ساعات حول مخاطر الأزمة السورية وسبل احتوائها، حيث طلب بوتين من ضيفه أن يعمل على استخدام نفوذ تل أبيب في واشنطن لإقناع الإدارة الأمريكية بعدم جدوى محاولة الإطاحة ببشار أسد، وضرورة عدم تسليح المعارضة، مؤكداً أن موسكو معنية في الوقت الحالي بتدمير البنى التحتية للجماعات المسلحة التي تمثل خطورة على مصالح كل من موسكو وتل أبيب والدول الغربية على حد تعبيره.
وألمح بوتين إلى أنه أخبر وزير الخارجية الأمريكي ورئيس الوزراء البريطاني في لقاءات سابقة أن الهدف من العمليات العسكرية الحالية في سوريا هو القضاء على عدو مشترك، وأنهم كانوا متفهمين لضرورة حسم هذه المواجهات قبل مؤتمر "جنيف 2" المزمع عقده في شهر يونيو.
ثم دار الحديث في الاجتماع -الذي حضره كذلك رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (Aviv Kochavi) وقائد القوات الروسية الخاصة (Mikhail Fradkov)- حول تفاصيل عمليات استنزاف "الجماعات المتطرفة" والقضاء على قياداتها، وهي الخطة التي لا تختلف من حيث المضمون عن الخطط التي كان موظفو الاستخبارات الأمريكية يعملون عليها من قبل.
فقد نشر "مايكل مالوف"، وهو عضو سابق في القوات الخاصة الروسية تقريراً (في 29 مايو 2013) تحدث فيه عن طبيعة العمليات التي أوكلت إلى القوات الخاصة الروسية عقب اجتماع كيري-لافروف، مؤكداً أن الاستخبارات الروسية قد أوفدت إلى دمشق فرقة مهام خاصة يطلق عليها: (Zaslon) أي "الظل"، وهي قوة "كوماندوز" أسست عام 1998 للقيام بمهمات خاصة خارج البلاد كاستهداف مواقع إستراتيجية والاغتيال وتحرير الرهائن، ولا تتبع لقيادة الجيش أو القوات الخاصة بل تعمل تحت إمرة الاستخبارات الروسية.
وأشار "مالكوف" إلى أن المهمات الخاصة المتعلقة بحماية الخبراء وأعضاء البعثة الدبلوماسية في دمشق وتأمين الأسلحة النوعية والمنظومات الصاروخية قد أوكلت بالفعل إلى فرقة أخرى من القوات الروسية الخاصة التابعة لمشاة البحرية، وبناء على ذلك فإنه رجح أن يكون الهدف من إرسال فرقة (Zaslon) في الأيام الماضية هو القيام بمهام قتالية نوعية بالتزامن مع المعارك الدائرة في القصير، خاصة وأن قائد هذه القوة (Mikhail Fradkov) قد زار دمشق قبل بدء العمليات لمساعدة النظام في تحديد الأهداف النوعية وطرق استهدافها، وبناء على ذلك فقد استنتج "مالكوف" أن المهمة التي تقوم بها فرقة "الظل" في الوقت الحالي هي: "استهداف قادة جبهة النصرة وغيرهم من قادة الكتائب الإسلامية السنية في البلاد".
وتشير المصادر إلى أن نتنياهو خرج من الاجتماع مطمئناً وهو يحمل في جعبته ضمانات روسية بعدم تهديد أمن تل أبيب خلال المعارك الدائرة في محافظات: درعا وحمص ودمشق وريفها، وألمح مصدر مقرب من الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية إلى أنه لم تجر العادة بالتزام إسرائيل الصمت تجاه عمليات يشنها جيش النظام السوري وميليشيات "حزب الله" في مناطق متاخمة لحدودها، لكنها تغض الطرف عن المعارك الدائرة مما يؤكد وجود ضمانات مسبقة.
وكان قائد البحرية الروسي الأدميرال (Viktor Chirkov) قد أعلن يوم الأحد 12 مايو عن تشكيل قوة دائمة للإشراف على عمليات البحرية الروسية في البحر الأبيض المتوسط، وإيفاد ست سفن حربية وغواصات النووية لهذا الغرض، لكن مصادر أمنية تؤكد أن الهدف الحقيقي لوجود هذه القوات هو ترسيخ التعاون الاستخباراتي بين روسيا وإيران والميليشيات التابعة لها في عملياتها ضد كتائب المعارضة غربي البلاد، وذلك لمنع وصول قوى المعارضة إلى المناطق الساحلية وبسط سيطرتهم عليها، وأكدت مصادر غربية أن الطائرة الروسية التي حطت في مطار اللاذقية مؤخراً بدعوى توصيل مساعدات إنسانية ومعونات غذائية يوم الأربعاء 29 مايو، كانت تحمل في حقيقة الأمر 60 طناً من المعدات العسكرية والذخيرة التي يتم استخدامها حالياً ضد الثوار في معركة القصير.
كما أشار تقرير جديد لمعهد الحرب أن الاستخبارات الغربية قد رصدت 117 رحلة جوية سيرتها شركات طيران إيرانية هي: (Yas Air) (Iran Air) و(Mahan Air) من روسيا إلى مطارات سورية عبر الأجواء العراقية، وكانت تحمل على متنها: ذخيرة، وتقنيات صاروخية، وقطع غيارات طائرات مروحية مقاتلة من طراز (Mi-25)، بالإضافة إلى نحو 200 طن من الأوراق النقدية السورية التي طبعت في روسيا وشحنت إلى دمشق في عدة دفعات.
في هذه الأثناء كان حسن نصر الله قد وضع مع قائد فيلق القدس في طهران اللمسات الأخيرة لعملية عسكرية شاملة تهدف إلى إعادة التوازن لنظام بشار، حيث تعهد اللواء قاسم سليماني بفتح أربع جبهات في: دمشق، وريفها، وحمص، وحوران، ونشر عشرة آلاف مقاتل من ميليشيات: "عصائب الحق" و"حزب الله العراق"، و"حزب الله" اللبناني.
ثم أوكلت مهمة تحويل الإستراتيجية الروسية-الإيرانية إلى نبؤات دينية ولطميات بكائية إلى الحمقى من أتباع ولاية الفقيه في لبنان والعراق، حيث شرع ملالي هذه الميليشيات في التحريض على قتال السوريين بهدف: حماية المقامات الدينية، والتمهيد لظهور المهدي، ومواجهة أعداء آل البيت!
ولم يخرج حسن نصر الله عن هذا الإطار في خطابه الذي ختمه بوعد أزلي لأتباعه بالنصر، مؤكداً في الوقت ذاته لإسرائيل والدول الغربية أن عمليات ميليشياته الطائفية لا تتجاوز مهمة القضاء على "التكفيريين" الذين يهددون الأمن الإقليمي!
* أين ذهب الأصدقاء؟
مع اشتداد وطأة القصف المكثف على مدينة القصير، ومعاناة نحو 40 ألف مدني محاصر في المدنية؛ لم يحضر مؤتمر "أصدقاء الشعب السوري" في عمّان (23 مايو 2013) سوى 11 دولة من أصل 80 دولة "صديقة" شاركت في المؤتمر السابق بتونس، ولم يخرج المجتمعون بأية نتائج حاسمة؛ إذ اقتصر المؤتمر على تكرار تصريحات سابقة حول مطالبة بشار بالتنازل عن الحكم، والتأكيد على عدم حضور مؤتمر "جنيف 2" أي من الشخصيات الرسمية التي تلطخت أيديها بالدماء.
في هذه الأثناء بدا الامتعاض التركي-الخليجي من السياسة الأمريكية واضحاً؛ ففي زيارته الأخيرة لواشنطن (16 مايو 2013) اصطحب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان تقريراً أعده فريق من الأطباء الأتراك الذين عالجوا ضحايا القصف بالأسلحة الكيميائية في سوريا، وأورد التقرير معلومات أكدها السفير الأمريكي لسوريا روبيرت فورد في رحلته الخاطفة داخل الأراضي السورية والذي تحدث استخدام النظام أسلحة كيميائية ضد معارضيه، وهي النتيجة التي توصل إليها جهازي الاستخبارات البريطانية (MI6) والموساد.
إلا أن وزير الخارجية الأمريكي كيري اختار التعامي عن هذه المعلومات مؤكداً للمرة الثانية أنه لا يمتلك أدلة دامغة حول استخدام النظام السوري أسلحة كيميائية، مما دفع بأردوغان للإدلاء بتصريح لقناة (NBC) الأمريكية قال فيه متهكماً: إن خطوط أوباما الحمراء قد تم تخطيها بالكامل من قبل النظام السوري، لكن الإدارة الأمريكية لا تزال مترددة في مواقفها!
وكرر وزير الدفاع الأمريكي نبرة إدارته المترددة في محاضرة بإحدى مراكز الفكر التابعة للوبي اليهودي بواشنطن عندما تحدث عن الإستراتيجية الأمريكية من محورين رئيسين، أولهما: التأكد من عدم انسياب الأزمة خلف الحدود وعدم تأثيرها على أمن إسرائيل، وثانيهما: الاعتماد على القوى الإقليمية الحليفة لتشكيل منظومة دفاعية واستخباراتية متكاملة بدلاً من التورط مباشرة في الصراع.
وقد أبدى تقرير إستراتيجي أوروبي القلق من إمكانية أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية تغض الطرف عن الإستراتيجية الروسية-الإيرانية لإقامة جيب طائفي في حمص وبانياس يمهد لتقسيم البلاد على الأسس الطائفية التي تم تقسيم العراق عليها قبل نحو عشر سنوات، وهو أمر لا تعارضه الإدارة الأمريكية من حيث المبدأ.
وحذر التقرير من أن إدارة أوباما ترتكب خطأ فادحاً بترك المحور الثلاثي (روسيا-إيران-العراق) يرسم مستقبل سوريا في معزل عن الدور الغربي في هذه المرحلة الحاسمة، كما تحدث التقرير عن تعهد روسي لإيران بتأخير مؤتمر "جنيف 2" حتى تتم عملية تطهير القصير وحمص من المعارضة بصورة نهائية.
وبدا قرار الاتحاد الأوروبي رفع الحظر عن إرسال السلاح إلى سوريا متماشياً مع مفهوم "إمهال الإستراتيجية العسكرية الروسية-الإيرانية حتى تستكمل أهدافها"؛ إذ إن القرار الأوروبي لا يسري إلا بعد ثلاثة أشهر، وهي فترة لا تتناسب مع الحالة المأساوية التي يعيشها سكان القصير وسائر أبناء القطر السوري.
أما بقية "الأصدقاء" فقد ظهروا بصورة مفاجئة في مؤتمر آخر جمع "أصدقاء النظام السوري" في طهران (الأربعاء 29 مايو)، وحضرته 44 دولة تضم ممثلين عن كل من مصر والعراق ولبنان والجزائر وعمان، واختتم الاجتماع بالتشديد على: "رفض أي تدخل أجنبي والاعتداء على الأراضي السورية وقتل المواطنين"، مع تجاهل كامل للمعارك المعلنة التي يخوضها نحو 6000 مقاتل من ميليشيات حزب الله، و3000 من الميليشيات الطائفية العراقية، وأكثر من ألف مقاتل من الحرس الثوري الإيراني الذي يشن معارك واسعة ويقتل المواطنين في ريف دمشق وفي حمص والقصير ودرعا!
وتزامن انعقاد المؤتمر مع ظهور وفد فرنسي بشكل مفاجئ في طهران للتفاوض حول الترتيبات الممهدة لمؤتمر "جنيف 2" ومصير بشار أسد، وقد أكد مصدر فرنسي وجود خلافات بين مجموعة "أصدقاء سوريا"، خاصة وأن الأمريكان قد أبدوا ليونة كبيرة تجاه المطالب الإيرانية، وعبر المصدر عن قلقه من اتجاه كيري لتقديم تنازلات كبيرة للروس والإيرانيين بهدف التوافق معهم على حل دبلوماسي للأزمة السورية دون الالتفات إلى رأي حلفاء واشنطن في أوروبا والعالم العربي.
ويؤكد هذا المشهد الانقسامي أن مشكلة تمثيل المعارضة السورية لا تقتصر على عجز المعارضة عن تنظيم صفوفها بل إن المعضلة الأكبر هي فشل "الأصدقاء" في اتخاذ مواقف موحدة تجاه تصلب المحور الروسي-الإيراني.
ولا تخفي بعض القوى الإقليمية قلقها من الترتيبات الممهدة لمؤتمر "جنيف2" ومن اختيار توقيت عقد المؤتمر، فالإدارة الأمريكية قد تبنت سياسة تغليب الحل الدبلوماسي عبر التوافق مع موسكو حتى وإن أفضى ذلك إلى تقديم تنازلات على حساب الثورة التي تبدو قواها السياسية مفككة ومنهكة، وبعد مرور أكثر من ستة أشهر على تأسيسه؛ لا يزال الائتلاف الوطني يخوض معارك داخلية حول توسيع عضويته واختيار رئيسه!
ولا يتوقع من هذا الكيان الذي لم يستكمل بنيته الأساسية بعد أن يحقق إنجازات دبلوماسية في أروقة المؤتمر، خاصة وأن أعضاء الائتلاف يتباينون في رؤاهم وتصوراتهم حول آليات التعامل مع النظام، ومن غير الإنصاف أن يطلب من هذه المجموعات المتنافرة أن تختار رئيسها ومجلسها وأعضاءها ثم تجلس مباشرة للتفاوض مع القوى العظمى دون أن تمر بمرحلة تأسيسية لتحقيق التوافق والتجانس فيما بينها.
ولا يعني ذلك أن وضع النظام سيكون أفضل في المؤتمر؛ خاصة وأن جيش بشار قد فقد السيطرة على معظم المطارات والمعابر الحدودية والطرق الرئيسية، ولا تتحكم قواته إلا بثلث البلاد من خلال الاستعانة بحشود ميليشيات طائفية تقاتل نيابة عنه للسيطرة على مدينة لا يتجاوز سكانها 40 ألف نسمة، دون تحقيق أي اختراق عسكري يذكر.
ولذلك فإن المؤتمر لن يمثل في حقيقته سوى عملية توافق بين أطراف التنافس الدولي، مع وجود رمزي لأطراف الصراع في الساحة السورية لمباركة هذه الاتفاقات.
وإذا أخذنا في الحسبان تماسك المحور الروسي-الإيراني من جهة، وتباين الآراء بين الولايات المتحدة وأوروبا ودول الخليج العربي من جهة أخرى؛ فإن من الواضح أن هناك اتجاه لترجيح كفة النظام في أروقة المؤتمر، خاصة وأن واشنطن تتفق مع موسكو على ضرورة الإبقاء على النظام بمؤسساته الأمنية والعسكرية كضمان لأمن إسرائيل، وتتفق معها كذلك على توسيع مفهوم: "الجماعات المتطرفة" وخطرها، لتشمل بذلك عدداً كبيراً من كتائب المعارضة الإسلامية التي تتسم بالتوازن والاعتدال.
وقد حاول السفير روبيرت فورد والسيناتور جون ماكين عبثاً إقناع الإدارة الأمريكية بأن ظاهرة التطرف في صفوف المعارضة قد تم تضخيمها لتشويه صورة الثورة، لكن الحكومة الأمريكية قد تبنت هذه الجدلية لتبرر تقاعسها عن دعم الثورة، ومنع السلاح عنها، ورغبتها بترسيخ دور مؤسسات النظام في الترتيبات المستقبلية للبلاد، وهو ما يتوافق مع المخططات الأمنية والإستراتيجية لتل أبيب.
* معركة القصير وانكشاف العجز الإيراني:
يعتبر انكشاف المحور الإيراني أمام الإرادة الشعبية في سوريا أحد أهم منجزات معركة القصير؛ فقد أشار محللون إستراتيجيون إلى أن لجوء إيران للتدخل المعلن والمباشر في العمليات العسكرية في سوريا يأتي نتجية لحالة الإحباط التي يشعر بها الإيرانيون من أداء نظام بشار، خاصة وأن جيش النظام قد أهدر المساعدات المالية والعسكرية والفنية التي قدمت له بسخاء، ووقع في إخفاقات إستراتيجية وأمنية دفعت بطهران إلى التدخل العسكري المباشر.
فقد أثبت النظام السوري فشله في مواجهات المدن، واعترف بشار في خطاب سابق أن قواته لا تملك الخبرة الكافية في مجال فض المظاهرات، وكان عجز القوى الأمنية عن استخدام تقنية القنص سبباً في إرسال نخبة من القناصة اللبنانيين والإيرانيين إلى دمشق وحمص الزبداني دون طائل، كما فشل فيلق الصواريخ السوري في تحديد الأهداف الإستراتيجية وضرب مواقع المعارضة، وكادت منشأة "السفيرة" العسكرية الأكثر خطورة أن تقع بيد المعارضة في مطلع هذا العام، مما دفع بإيران إلى إرسال فرق متخصصة في استخدام صواريخ "فاتح" بهدف مساعدة النظام على استهداف مواقع المعارضة بالصواريخ البالستية بعد انهيار سلاح الجو أمام ضربات الجيش الحر.
لكن وجود الخبراء الإيرانيين على الأراضي السورية قد جعل منهم طعماً سهلاً لكتائب المعارضة، حيث وقع العديد منهم أسرى بيد الجيش الحر، ومن ضمنهم 48 إيرانياً من فيلق القدس تم أسرهم في عملية واحدة مما تسببت بأزمة كبيرة في العلاقة بين دمشق وطهران، وبعد الإفراج عنهم في شهر يناير الماضي؛ جاءت عملية اغتيال القيادي في فيلق القدس اللواء حسن شاطري في شهر فبراير لتثير حفيظة الإيرانيين وتدفعهم إلى التدخل المباشر لحماية خبرائهم والمحافظة على مصالحهم ومواقعهم الأمنية والعسكرية، فقد نقلت وسائل الإعلام الإيرانية تصريحاً للواء قاسم سليماني في جنازة شاطري قال فيه: "لو توفر لدى الحكومة السورية شخصيات شبيهة بالأبطال المجاهدين لدينا لما وصل الأمر إلى ما هو عليه، إن ما تفتقده تلك البلاد هو وجود شخصيات مستعدة للتضحية لأجل مبادئها".
وترددت تصريحات الغضب من أداء النظام السوري إثر مجزرة الحولة، حيث أبدى نائب قائد فيلق القدس اللواء إسماعيل غساني غضبه من سوء تقديرات النظام وحاجته الدائمة إلى دعم الخبراء الإيرانيين قائلاً: "لولا الدعم الذي تقدمه الجمهورية الإيرانية لكان عدد الضحايا أكبر من ذلك بكثير في سوريا"، ونقل عن سليماني قوله: "نقول للأسد أن يرسل قوة بسيطة من الشرطة لضبط الأمن في موقع ما فيرسل جيشاً بأكمله إلى المنطقة"!
غير أن معركة القصير قد أثبتت أن المشكلة لا تقتصر على سوء تعامل النظام مع الأزمة؛ بل تكمن في إصرار الشعب السوري على نيل حريته وكرامته رغم أنف القوى الإقليمية والدولية؛ فعلى الرغم من القدرات التي توفرت لمقاتلي "حزب الله" في القصير كالصواريخ البالستية من طهران، والدعم الجوي من دمشق، ومنظومات الاتصال المتطورة من موسكو؛ إلا أن الحزب يقف عاجزاً عن تسجيل أي اختراق في المدينة، بينما أصبح موقف الأمين العام للحزب شبيهاً بموقف بشار؛ حيث يخوض كل منهما مساجلات إعلامية لتبرير فشل العمليات الأخيرة، في حين يجادل حسن نصر الله بإعياء حول العدد الفعلي لقتلى حزبه، ويطلق لمن بقي منهم على قيد الحياة وعود النصر الغيبي دون أن ينعكس أثر ذلك على الأرض.
أما بالنسبة للميليشيات العراقية التي قادها حظها العاثر للمشاركة في العمليات العسكرية بالسيدة زينب وريف دمشق؛ فقد نقلت واشنطن بوست (27 مايو 2013) عن مصدر صحفي في مدينة النجف قوله: "في كل يوم تخرج جنازتان أو ثلاث لأشخاص قتلوا في سوريا، 90 بالمائة من هؤلاء قامت جماعة "عصائب أهل الحق" وجماعة "كتائب حزب الله" المدعومة من إيران بتجنيدهم".
ولا شك في أن جهود توحيد المعارضة السياسية والعسكرية التي تبذلها بعض الجهات المخلصة ستؤدي إلى تقوية الثورة وتعزيز موقفها الدبلوماسي والميداني، شريطة أن تتحلى جميع القوى السياسية بروح المسؤولية وترجح المصلحة العامة على المصالح الفئوية، وأن تنطلق من تخطيط إستراتيجي يتسم بالاحترافية.
لقد أربكت الثورة السورية قبل أكثر من سنتين جميع الحسابات الإقليمية والدولية، وجعلت المجتمع الدولي يقف حائراً أمام صمود الشعب السوري، وتأتي أحداث القصير اليوم لتذكر المجتمع الدولي أن تقديراتهم لا تساوي شيئاً أمام الأقدار الإلهية التي تقطع بأن أهل الشام منصورين على أعدائهم، لا يضرهم خذلان "الأصدقاء".