سوريا: دوافع الغارة الإسرائيلية على جمرايا وأبعادها
الكاتب : د. بشير زين العابدين
الثلاثاء 7 مايو 2013 م
عدد الزيارات : 34507

سوريا: دوافع الغارة الإسرائيلية على جمرايا وأبعادها

 

الدبلوماسية الهادئة والتحشيد الطائفي

مثّل شهر أبريل الماضي علامة فارقة في فشل الدبلوماسية الدولية إزاء الأزمة السورية؛ إذ باءت جميع محاولات التوصل إلى حل سياسي بالفشل، وانهارت مخططات فض الاشتباك بين النظام والمعارضة لتأمين عودة اللاجئين، ورعاية مفاوضات بين سلطتين في دمشق وحلب تفضي إلى مشاركة السلطة وإعادة توحيد البلاد.

كانت بداية الدبلوماسية -كالعادة- من لبنان؛ حيث تحدث السفير الإيراني في بيروت منتصف شهر أبريل غضنفر ركن آبادي عن "تقارب" بين السعودية وإيران، ورد بإيجابية على عرض سابق تقدم به السفير السعودي في لبنان "علي عوض عسيري" لفتح باب الحوار مع "حزب الله".

وبلغت الكوميديا الإيرانية الساخرة ذروتها في نهاية ذلك الشهر عندما صوّر حسن نصر الله نفسه بأنه منقذ "الشيعة اللبنانيين في سوريا" (؟) ومخلص المجتمع الدولي من أدران "التكفيريين" (!) وذلك في إخراج مسرحي سمج سرعان ما ظهرت آثاره في سلسلة المجازر المروعة التي ارتكبتها الميلشيات الطائفية في حق النساء والأطفال والمدنيين في بانياس.

وتكرر المشهد ذاته في العراق عندما دخل رئيس الوزراء نوري المالكي دائرة: "الغزل الإقليمي" متحدثاً عن ضرورة التقارب مع الرياض وذلك على خلفية الأشلاء الممزقة التي سفكتها ميلشياته الطائفية في الحويجة.

في هذه الفترة كانت الدبلوماسية الهادئة تسير بخطّة وئيدة بين الوفد الرئاسي المصري وحكام طهران، إذ كان الحديث يدور بين ممثلي المرشدَين (مرشد الثورة ومرشد الجماعة) حول: "الوحدة الإسلامية"؛ في حين كانت قيادة الميليشيات الطائفية تمارس التعبئة والتحريض الطائفي على لسان قائد "حزب الله" العراقي واثق البطاط، وعبر لطميات حيدر العطار، وترانيم الملاحم ضد السفياني التي تخوضها المليشيات الطائفية في مواجهة "أعداء المهدي" في درعا ودمشق وحمص وبانياس.

احتاجت الدول العربية نحو أربعة أسابيع لتدرك بأنها قد تعرضت لخديعة جديدة من قِبل المفاوض الإيراني المراوغ الذي دأب على إطلاق الوعود الكاذبة لكسب الوقت؛ ففي الوقت الذي استنفذت فيه الدبلوماسية الإقليمية جهدها؛ كانت الميليشيات الإيرانية العابرة للحدود قد أكملت عدتها لشن حركة عسكرية خاطفة تهدف إلى تأمين ممر جيو-سياسي يصل العراق بلبنان والساحل السوري عبر محافظات دمشق وحمص واللاذقية وبانياس، واستفادت إيران من عامل الوقت للزج بنحو 7 آلاف مقاتل من: "الباسيج" و"فيلق القدس" و"جيش المهدي" و"عصائب الحق" و"حزب الله" في أتون الأزمة ونشرهم في نحو 30 موقعاً سورياً تمهيداً للاستيلاء على حمص والقصير، وشن حملة تطهير طائفي في اللاذقية وبانياس.

 

تردد واشنطن، وامتعاض أنقرة وتل أبيب

تتفوق تل أبيب على سائر دول المنطقة في تطبيقات الأمن الوقائي، والاستفادة من المنظومات الاستخباراتية لتحقيق الأمن الداخلي؛ ففي الفترة التي كانت الدول العربية مشغولة في تفاصيل الدبلوماسية الهادئة؛ كان رئيس جهاز الموساد "تامير باردو" منهمكاً في وضع اللمسات الأخيرة على اتفاق لتبادل المعلومات الأمنية حول سوريا مع رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية التركية "حقان فيدان" في 22 أبريل 2013.

وتشير المصادر إلى أن اتفاقية التعاون الأمني بين الدولتين تهدف إلى تسهيل تبادل المعلومات الاستخباراتية بين الدولتين لتقييم تطورات المشهد السوري، خاصة وأن الاستخبارات التركية تتفوق على الموساد في قدرتها على جمع المعلومات الأمنية عبر شبكة مخبرين ينتشرون في جميع المحافظات السورية، كما أنها تتمتع بعلاقات وطيدة مع مختلف قيادات المعارضة السياسية والعسكرية التي تنشط في أراضيها، لكن أنقرة لا تمتلك تقنيات الرصد الإلكتروني التي تستخدمها تل أبيب.

وبالإضافة إلى اتفاق الطرفين على ضرورة احتواء الأزمة السورية ومنع امتدادها إلى بلادهم؛ تشترك كل من أنقرة وتل أبيب في مشاعر الامتعاض من ضعف المواقف الأمريكية إزاء المخاطر التي تهدد أمن المنطقة؛ وظهر ذلك الضعف جلياً في تناقض تصريحات المسؤولين الأمريكيين بين تأكيد البنتاغون أن النظام السوري قد استخدم الأسلحة الكيميائية وتشكيك البيت الأبيض في صحة تلك الأنباء.

ولا تزال الإدارة الأمريكية تتكلم ببرود عن "تقييم احتمالات" تجاوز النظام للخطوط الحمراء، وعن قيامها بدراسة تبعات ذلك ومراجعة سياستها تجاه دمشق، دون أن ينتج عن تلك التصريحات أي أثر ملموس على أرض الواقع.

وقد أسفر التعاون الأمني التركي- الإسرائيلي عن تأكد المعلومات المتعلقة باستخدام النظام أسلحة كيميائية ضد المدنيين، وساد الشعور في المنطقة أن واشنطن -بترددها وضعف مواقفها- ترسل رسائل خاطئة إلى إيران، مضمونها أن الإدارة الأمريكية لا تعبأ كثيراً بتجاوز الخطوط الحمراء فيما يخص حيازة أسلحة الدمار الشامل واستخدامها، خاصة وأن مفهوم تخطي الخطوط الأمريكية الحمراء قد أصبح مثار السخرية والتهكم في المنطقة.

وللتأكيد على جدّيتها في حماية أمنها؛ بادرت تل أبيب إلى استدعاء الآلاف من قوات الاحتياط، ونشرت فرقاً من القوات الخاصة وكتائب الدفاع الجوي، وتوغّل بعض مقاتليها بعمق 5-7 كم في مناطق حدودية مع سوريا ولبنان، كما بادر الجيش الإسرائيلي إلى نصب منصات القبة الفولاذية في حيفا وصفد، وتأتي تلك التحركات في ظل تردد أنباء عن عزم تل أبيب فرض منطقة عازلة داخل الأراضي السورية في حال خروج الأوضاع عن السيطرة.

 

الضربة الجوية الإسرائيلية والاحتواء المزدوج

عقدت الحكومة الإسرائيلية اجتماعاً أمنياً مصغراً في 28 أبريل بحضور كل من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع موشي يعلون، ودار الحديث فيه عن تدفق شحنات من الأسلحة النوعية إلى سوريا وتنامي ظاهرة استخدام الصواريخ البالستية متوسطة وطويلة المدى في المعارك الدائرة، وتم الاتفاق على اتخاذ خطوات جادة لمنع مختلف أطراف الصراع من حيازة منظومات صاروخية متطورة، ودرء خطر استخدامها ضد إسرائيل، وذلك من خلال استهداف شحنات الأسلحة ومستودعات تخزينها في سوريا.

وقد جاء ذلك الاجتماع على خلفية تقارير تؤكد أن نظام دمشق قد زود "حزب الله" بمجموعة من صواريخ (SA-17 interceptor missile systems) لدعم عمليات الحزب في القصير، وبادرت تل أبيب إلى تحذير دمشق (عبر طرق خاصة) من مغبة تغيير التوازنات العسكرية القائمة في المنطقة، وإنذارها بعمل عسكري في حال استمرار شحن الصواريخ.

لكن دمشق تجاهلت تلك التحذيرات، حيث وصلت إلى مطار دمشق يوم الخميس 2 مايوشحنة إيرانية ضخمة من صواريخ (Fateh-110) إيرانية الصنع والتي يبلغ مداها 300 كم ويمكنها حمل رؤوس متفجرة تزن الواحدة منها 600 كجم، وبدقة تصل إلى نحو 200 متر، مما يمكّن أي جهة تحوز هذه الشحنة من تهديد مواقع إستراتيجية كمحطات الكهرباء والوقود ومقر قيادة الأركان في تل أبيب.

وفي اليوم ذاته قامت قوات النظام بشحن هذه الصواريخ وتخزينها في مستودعات بمنطقة جمرايا تمهيداً لنقلها إلى الحدود اللبنانية.

في هذه الأثناء كان الطيران الإسرائيلي يقوم بطلعات يومية فوق الأجواء السورية واللبنانية لمراقبة تحركات مختلف الفصائل، ولتحديد الأهداف التي سيتم استهدافها بالقصف، خاصة وأن النظام قد حرّك بعض منظوماته الصاروخية إلى وجهة غير معلومة.

وفي الفترة ذاتها حصلت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية على معلومات من إحدى الدول المجاورة مفادها أن الجيش الحرّ كان يخطط لشن عمليات نوعية تستهدف السيطرة على مخازن صواريخ متوسطة وقصيرة المدى من طراز (Scud B) و(Fateh A-110) وذلك لاستخدامها في فك الحصار عن حمص والقصير، ويبدو أن هذا هو الهدف الرئيس من عمليات كتائب المعارضة في جبال القلمون، وكذلك في استهداف قوات الثوار مطار منغ العسكري الذي يخزن فيه النظام مجموعة من هذه الصواريخ، وذلك في ظل تردد الغرب في تزويد المعارضة بالأسلحة النوعية التي تساعدهم على تأمين طرق الإمداد.

وقد نشر موقع "ديبكا" المقرّب من الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية أن الهدف الرئيس من الغارات الجوية التي شنها سلاح الجو الإسرائيلي فجر يوم الأحد 5 مايو 2013 هو منع سيطرة كتائب المعارضة على صواريخ نوعية في ريف دمشق، وأكد المصدر أن من بين الأهداف التي تعرضت للقصف مقر لتصنيع الأسلحة الكيميائية في منطقة برزة شمال دمشق بالقرب من جبل قاسيون، وذلك منعاً من وقوعها بيد الجيش الحر حيث يغلب الظن لدى الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية أن كتائب المعارضة كانت على وشك السيطرة على هذه المخازن، وقامت بقصفها منعاً من وقوع هذه الأسلحة النوعية بأيديهم.

وطالت عمليات القصف كذلك مستودعات تخزّن فيها صواريخ (Yakhont) الأرضية المضادة للسفن، وهي صواريخ موجّهة روسية الصنع يطلق عليها كذلك اسم (P-800 Oniks) تتجاوز سرعتها ضعفي الصوت وهي قادرة على استهداف أي قطعة بحرية إسرائيلية في البحر المتوسط، وقد تم تدميرها خوفاً من وقوعها بيد المعارضة في حال سقوط نظام بشار، ونقل المصدر عن ضابط إسرائيلي رفيع قوله: "لتحترق هذه الصواريخ، لا نريدها أن تبقى بيد النظام أو أن تصل إلى المعارضة".

وسرعان ما قطعت تل أبيب سيل التكهنات حول أهداف الضربات الجوية؛ حيث بادرت إلى تطمين بشار أنها لا تستهدفه، وأكدت في الوقت ذاته أنها لا تدعم موقف المعارضة، مما يؤكد أن الهدف من هذه الضربات هو تدمير القدرات الصاروخية السورية لمنع وصولها بيد أي من أطراف الصراع أو انتقالها عبر الحدود.

وتشير المصادر إلى أن تل أبيب لا تتوقع أي رد فعل من دمشق على تلك الضربات إذ إن مقاتلات دمشق لا تجاري قدرات الدفاعات الجوية الإسرائيلية، كما أنها بحاجة ماسة إلى مخزونها من الصواريخ البالستية لاستخدامها في العمليات ضد الجيش الحر، وقد استنتج اليهود أن دمشق لن تتجرأ على فتح جبهة جديدة في ظل استنزاف قدراتها القتالية، ولن تغامر بتعريض مضاداتها الأرضية للتدمير في حال إطلاق صواريخ على إسرائيل.

وعلى الرغم من رسائل التطمين التي أرسلتها تل أبيب إلى دمشق لاحتواء آثار عملية القصف وتطمين موسكو وبكين؛ إلا أن مصادر أمنية تؤكد أن سلاح الجو الإسرائيلي قد وضع مجموعة من صواريخ (Scud D) و(Fateh-110) ضمن أهدافه في الفترة القادمة.

تأتي هذه التطورات بالتزامن مع نشر تقارير تؤكد قيام تل أبيب بمراجعة خططها الأمنية في ظل اضمحلال الجيوش العربية إبان مرحلة الربيع العربي، وتنامي مخاطر الجماعات العابرة للحدود التي يجب منعها من حيازة الأسلحة النوعية والعمل على تفكيك بنيتها التحتية.

وبالتالي فإن هذه العمليات لا تأتي لترجيح كفة جهة ضد أخرى في المعارك القائمة، ولا تسهم في حسم الصراع بين الحكم والمعارضة، بل تهدف إلى الاستفادة من الظروف الانقسامية على المستوى الإقليمي بهدف تعزيز أمن تل أبيب، وتنسجم هذه الرؤية مع تسريبات حول اتفاق بعض القوى الدولية على إطالة أمد الأزمة بهدف استنزاف جميع أطراف النزاع.

وفي ظل غياب الرؤية الإستراتيجية لدى المعارضة؛ وغياب التكامل والتنسيق فيما بينها؛ يعمل المحور الإيراني- الروسي على تعزيز سلطة دمشق وتأمين ممراته الأرضية عبر بغداد ودمشق وبيروت ووصلها بالبحر الأبيض المتوسط، في حين تعمل دول الجوار الإقليمي على تأمين حدودها ومنع انتشار الأزمة إليها عبر التخطيط لإنشاء مناطق عازلة تحمي أراضيها لكنها لا تحمي الشعب السوري.

 

وفي هذا المشهد الدموي الكئيب تتلاشى محاولات "أصدقاء" الشعب السوري في التوصل إلى صياغة دبلوماسية مع الدول التي تقوم فلسفتها الأمنية على أسس دينية "نبؤاتية" كإيران وإسرائيل.

ويبقى لنا الوعد الحق بأن أهل الشام لايزالون على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خذلهم.

 

 


https://islamicsham.org