حكم حب الإنسان لوطنه واهتمامه به
الكاتب : المكتب العلمي ـ هيئة الشام الإسلامية
السبت 5 يناير 2013 م
عدد الزيارات : 77495

السؤال:

ما الموقف الشرعي من حب السُّوري لوطنه؟ وهل يجوز له أن يهتم ببلده أكثر من اهتمامه ببلدان المسلمين الأخرى، خاصة أن هناك من يقول: إن هذه الدول اليوم والحدود التي بينها من صنع الاستعمار لتفريق المسلمين، وأن هذا إقرار للحدود السياسية التي فرضها الاستعمار؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


الجواب:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
أولاً: وطن المرء هو مكان إقامته وسَكَنه. وإلْفُ الإنسان لوطنه وحبُّه له أمر فطري جبلِّي. ففي صحيح البخاري عن أَنسٍ _رضي الله عنه_ أَنَّ النبيَّ _صلى الله عليه وسلم_: (كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَنَظَرَ إِلَى جُدُرَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا)، قال الحافظ ابن حجر _رحمه الله_ في" فتح الباري": "وفي الحديث دلالةٌ على فضل المدينة، وعلى مشروعية حبِّ الوطن والحنين إليه".
وسبب هذا الإلف والمحبة وجودُ القرابات والصحبة، وذكرياتُ الصّبا، وتقاربُ الطباعِ والعادات الاجتماعية، واتفاق اللهجة وغيرها، كما قال ابن الرومي:

وحبَّبَ أوطانَ الرجال إليهمُ     مآربُ قضّاها الشباب هنالكا
إذا ذكرواْ أوطانهم ذكّرتهمُ      عهودُ الصبا فيها فحنواْ لذلكا

 

وقد يدفعه هذا الحبُّ أن يخصَّه بأمر دون غيره، أو يُقدِّم أهله على غيرهم فيما لا ظلم فيه ولا اعتداء، وهذا كله لا حرج فيه.
وفي العصر الحديث أصبح الوطن يُطلق على البقعة الجغرافية السياسية التي تقع ضمن الحدود التي رُسمت لكل دولة. وفي هذه الحالة قد لا تكون جميع الدولة "وطناً" للمرء بالمعنى اللغوي، بل إن بعض الحدود قسمت أبناء القبيلة الواحدة، وهم يَعدُّون أرضهم الموزعة بين عدة دول وطناً لهم، ولا يَعدُّون الأرض البعيدة التي تقع ضمن حدود دولتهم وطناً لهم.

ومع ذلك فإن هذه الحدود -وإن كانت مصطنعة- إلا أنّ طولَ العهد بها وانتظامَ أهلها تحت قوانين موحدة أورثهم نوعاً من الانتماء والميل الفطري إلى بلدهم، وهذا أمر شعوري معتاد لا يلزم منه الإقرار بهذه الحدود أو الرضا بها.


ثانياً: إذا تعلَّق بالمكان فضيلةٌ شرعية فأحبه المرء لذلك، فإنه يُؤجر على حبه إياه. من ذلك: أن يحبَّ بلداً من أجل محبةِ الله له، أو لِما خصَّه الله به من الفضلِ والخيرِ والبركة. وعلى رأس هذه الأوطان: مكةُ المكرمة، ثم المدينةُ النبوية، ثم بيتُ المقدس وبلادُ الشام واليمن. وقد يحبّ المكان أيضاً لإقامةِ الشرع فيه، أو لظهورِ شعائر الإسلام في ربوعه، أو لكونه أرضَ جهادٍ أو رباط.


ثالثاً: قد يُفضي حبُّ الوطن إلى محرَّم، كأن يتعلَّق الإنسان بوطنه فيتركَ الهجرةَ والجهادَ في سبيل الله من أجله، وقد ذم الله _سبحانه وتعالى_ الذين يفعلون ذلك، وتوعَّدهم بأشد الوعيد، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرً}.[النساء: 97].
ومن ذلك أيضاً: أن يتعصَّب للوطن، فيجعلَ ولاءَه وبراءَه وعطاءَه ومنعَه وقتاله ودفاعه كلَّ ذلك في سبيل الوطن، بل يصوغ محياه ومماته على منهج الوطنية الوثنية لا الإسلامية الربانية، حتى قال بعض الشعراء:

وطني لو صوَّروهُ لي وثناً        لهممْتُ ألثِمُ ذلك الوثنا


فعقدُ الولاء والنصرة يجب أن يُبنى على الدين، فالمسلمون إخوة مهما تباعدت أقطارهم وتناءت ديارهم، والمسلم للمسلم كالبنيان، ولا يجوز بحالٍ أن تطغى الحدود المصطنعة على الرابطة المقدسة التي رضيها الله لعباده المؤمنين. فليحذر المسلم أن يوالي ويعادي على أساس جنسيته ودولته، وأن يُقدِّم رابط الدولة على رابط الدين، فيقدمَ ابن بلده الفاسق على ابن دولة آخر صالح، أو ينشطَ لمساعدة المنكوبين المسلمين في دولته، ولا يكترثَ لمن كانوا في نفس الحاجة أو أشد في دولة أخرى بحجة أنه يحمل جنسية هذا الدولة، ولا يحمل جنسية الدولة الأخرى.


رابعاً: ما فرضه الواقع من حدودٍ للدول وحقوقٍ سياسية للمواطنين، وتسهيلات لهم لا تعطى لغيرهم من سهولة الحركة والتنقل والعمل فيها وغير ذلك، إضافةً إلى أن البلدي أدرى ببلده من غيره _وأهل مكة أدرى بشعابها_ كلُّ هذا يجعل من الحكمةِ والمصلحةِ أن يخصَّ الدعاة والمصلحون دولهم بمزيد من الاهتمام والجهد؛ لأنه يمكنهم أن يفعلوا لها ما لا يفعله غيرهم.
ولا حرجَ عندئذ أن ينصرف جُلُّ اهتمام السوريين إلى سوريا، والمصريين إلى مصر، وهكذا، كما قال الله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}[الشعراء: 214]، مع مراعاة حقّ المسلم على المسلم عامة أياً كان بلده، ومع عدم التعصب لدولته.
وليس هذا من الرضا بحدود المستعمر، بل من الوعي وفقه الواقع، وتوظيفه لخدمة الإسلام وأهله. ألم تر كيف كان الرسول _صلى الله عليه وسلم_ يغشى القبائل في موسم الحج، ليعرض عليهم الإسلام، وقد كان في موسمهم من الشرك والتفاخر بالأنساب والقبائل ما فيه، أفكان غشيانه _صلى الله عليه وسلم_ لهم رضاً بما يصنعون؟!


خامساً: ما بيناه من أنَّ اهتمام كل أهل بلد بشؤون بلدهم أمر سائغ، لا يمنعنا من أن نذكر أهل الإسلام بواجبهم تجاه بلاد الشام عموماً، والثورة السورية في هذا الوقت تحديداً؛ فبلاد الشام هي عنوان البلاد الإسلامية وصلاحها صلاحها، كما قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلا خَيْرَ فِيكُمْ) رواه الترمذي.
والطائفة المنصورة هي في بلاد الشام، فعن عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ _رَضِيَ اللهُ عنهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ يَقُولُ: لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ عُمَيْرٌ فَقَالَ مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ [أحد الرواة] قَالَ مُعَاذٌ: وَهُمْ بِالشَّأْمِ) متفق عليه.
وسوريا هي الرئة الكبرى التي يتنفس منها الصفويون والرافضة، فإذا سقط النظام الأسدي المجرم سقط المشروع الصفوي في المنطقة، وإذا طهرت دمشق من رجس الباطنيين والرافضة فهو إيذان بتطهير بيت المقدس من رجس الصهاينة بإذن الله.
نسأل الله أن يجمع شمل المسلمين، ويوحِّد كلمتهم، ويردهم إلى دينه ردًّا جميلاً.
والله أعلم.


https://islamicsham.org