سلسلة رسائل رواء
الرسالة الثانية
أوَلا يرون أنهم يُفتنون ...؟!
منذ اندلاع الثورة الخمينية في إيران، ووعي الأمة تجاه خطر الرافضة متذبذب، تتقاذفه الأحداث، فيرفعه حدث، ويخفضه حدث، وكأنه ليس لدينا من القواعد والأصول ما ينمِّي هذا الوعي ويرسِّخه لنستبين به سبيل المجرمين.
الفتنة الأولى: الثورة الخمينية في إيران:
قامت "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979م في محيط من الأنظمة العلمانية التابعة للمعسكر الشرقي أو الغربي، وفي سجل هذه الأنظمة أكبر رصيد من التخلف الحضاري والاقتصادي، وسيلٌ مُخزٍ من الهزائم أمام الكيان الصهيوني، فخرجت هذه الثورة لتتمايز عن تلك الأنظمة بشعارات إسلامية واعدة ببناء دولة الإسلام المنتظرة، وخطابات تعبوية عدائية للغرب عامة وأمريكا خاصة، ودعاوى التخلص من هيمنتها، وصولًا إلى تهديد "إسرائيل" بالحرب والزوال.
تزامنًا مع هذه الثورة كانت الحركات الإسلامية في مختلف البلدان تعيش فصلاً قاتمًا من ملاحقة الأنظمة لها والتضييق عليها، حتى ملئت السجون والمقابر والمنافي منهم.
في ظل هذه الظروف الضاغطة على النفس والفكر من جهة، وضعف التأصيل العقدي في أحكام الرافضة من جهة أخرى؛ خُدع فريق من الإسلاميين بالثورة الخمينية، فبالغوا في مديحها والثناء عليها مدبّجين في ذلك الكتب والدراسات والمقالات التي تمجد الثورة الإيرانية وتعلق الآمال عليها بطرد المستعمر وتحرير المقدسات، وصولًا إلى خلافةٍ جامعةٍ للأمة الإسلامية، وبايع فريق منهم الخميني قائدًا للأمة الإسلامية!
كما قُدِّم "المذهب الجعفري" في كثير من الجامعات ودور الفتوى على أنه مذهب فقهي خامس إلى جانب المذاهب الفقهية الأربعة المعتبرة، وعُقدت مؤتمرات "التقريب" بين السنة والشيعة، مع تعمّد استبعاد المسائل العقدية أو التهوين من شأنها، باعتبارها من الماضي المندثر، ولا تخدم التوجه العام، بل اعتُبر البحث فيها من أسباب تفرقة الأمة!
سوَّق هذا التيار الجارف -بصخبه وعلو صوته- للرافضة، مما أدّى إلى انخداع فريقٍ كبيرٍ من الناس -نخبًا وعامة- بهم، واطمئنانهم لهم، بينما لم يتوقف الرافضة عن العمل الدّؤوب لمشروعهم في الخفاء، بل استطاعوا -مستفيدين من هذا التسويق- التغلغل في الكثير من البلاد الإسلامية، فأوجدوا لهم أذرعًا سرية عسكرية وشبه عسكرية حاولت القيام بعدة أعمال مسلحة، (في الخليج، ومصر، والأردن وغيرها)، كما أسسوا فيها المراكز الثقافية والحوزات لتكون بؤرًا للتشييع (في أفريقيا على وجه الخصوص)، لتكتمل أركان الفتنة الأولى باختراق المشروع الرافضي الدّولَ الإسلامية، وتهيئة أرضيتها لتحقيق أهدافهم في تصدير الثورة الخمينية.
تصدَّى لهذه الفتنة فريق من أهل العلم والفكر، خبروا دين الرافضة، وعرفوا خبايا مذهبهم، وفطنوا لمشروعهم، فأطلقوا صيحات التحذير، ونشروا عشرات الكتب والدراسات التي تبصِّر الأمة بدين الرافضة وخطرهم على أمة الإسلام، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر، "وجاء دور المجوس"، "أحوال أهل السنة في إيران"، "مأساة المخيمات الفلسطينية في لبنان"، "الشيعة في لبنان.. حركة أمل أنموذجًا"، "أأيقاظ قومي أم نيام؟"، "الخمينية شذوذ في العقائد وشذوذ في المواقف"، "أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية"، "مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة" وغيرها. كما أعيدت طباعة العديد من الكتب المؤلفة قبل الثورة الإيرانية مثل: كتاب الشيخ عبد العزيز الدهلوي: "التحفة الإثني عشرية"، ومؤلفات الشيخ إحسان إلهي ظهير: "الشيعة والسنة"، و"الشيعة وأهل البيت"، و"الشيعة والتشيع فرق وتاريخ"، و"الشيعة والقرآن"، وكتاب الشيخ محب الدين الخطيب: "الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية". لقد حقّقت هذه الجهود قدرًا من المدافعة في وجه المدّ الرافضي، وتفنيدًا لمشاريع التقارب معه، إضافة لتأسيس الوعي -بين العامة والنخب على حدٍّ سواء- بحقيقة المشروع الرافضي وخفاياه وخطره على الأمة الإسلامية.
ساند ذلك انكشافُ البعد الطائفي لمشروع إيران في عدة وقائع. في أفغانستان، حيث عملت إيران جنبًا إلى جنب مع "الشيطان الأكبر" أمريكا لتقويض الإمارة الإسلامية واحتلال أفغانستان. ثم أفاق الناس على صدمة احتلال العراق عام 2003م، ودخول الرافضة على ظهر الدبابة الأمريكية التي قدّمت لهم هذا البلد السنّي الكبير الغنيّ على طبقٍ من ذهب، تبعته سلسلة من الجرائم ضد السنة في العراق، والتي بلغت مستوى من الإجرام لم تعهده الأمة الإسلامية من قبل، حيث كان القتل على الهوية لمن كان اسمه "عمر" أو "عائشة" أمرًا شائعًا، فكانت هذه الأحداث –على قساوتها وبشاعتها– سببًا لرفع الوعي تجاه خطر الرافضة والمشروع الصفوي، وهكذا كانت كلفة الإفاقة من الفتنة الأولى باهظةً للغاية، ثم جاءت الفتنة الثانية.
الفتنة الثانية: حرب حزيران 2006م:
في عام 2006م -وآثار الفتنة الأولى لم تزُل تمامًا- وقع صراعٌ بين حزب إيران في لبنان والكيان الصهيوني أدى إلى اجتياح وقصف جنوب لبنان، فانطلقت المظاهرات في مختلف البلدان أثناء الحرب مُعبِّرةً عن التأييد والتضامن مع "المقاومة"، والتنديد بتخاذل وخيانة الزعماء العرب، فأُلقيت الخطب الرنّانة بذلك، وصدرت مئات المواقف والكتابات الممجِّدة للحزب المُشيدة بثباته وبسالته، ورُفعت شعاراته وأعلامه، وعُلقت صور زعيمه "حسن نصر الله" على السيارات وفي البيوت والمحلات، وانتهت هذه الحرب بانسحاب الكيان، مما عُدَّ نصرًا للحزب وتحريرًا للأرض، ليُحدث هذا "الانتصار" انتكاسةً جديدةً في الوعي، وبوادر فتنةٍ عمّت أكثر الشعوب والكثير من النخب، ونسي المفتونون بهذا الانتصار أو تناسوا عقيدة القوم وحقيقة مشروعهم، الذي لم يزل حينها يفتك بأهل العراق، ولم يتوقف عن جرائمه في المنطقة.
وانبرى أهل العلم والبيان الشرعي مجدّدًا للتصدِّي لهذه الفتنة، مبيِّنين حقيقة الحزب، وعداءَه لأهل السنة، والحكم الشرعي في مناصرته، وأعادوا التحذير من الرافضة ومشروعهم، وذكّروا بالحصاد المر لثورة الخميني خلال السنوات السابقة، فعارضهم المفتونون بالحزب بشدَّة، واتهموهم بالتكفير والتطرف، فبقيت جذوة الفتنة مشتعلة رغم كل ما بُذل من البيان والتحذير.
وتربّع حزب إيران على عرش "المقاومة"، وحاز لسنوات بريقًا وتألّقًا إعلاميًا وجماهيريًا واسعًا، إلى أن قامت ثورات الربيع العربي 2011م في عدد من البلدان العربية، فرحبت إيران بها جميعًا عدا الثورة السورية، إذ عارضتها معارضةً شديدة، وأعلنت دعمها الكامل للنظام الذي يقمعها، وسرعان ما زجَّت بمستشاريها وحرسها الثوري وأذرعتها لمواجهة ثورة الشعب السوري، وارتكبت -ولا تزال- من الفظائع والجرائم ما يشيب له الولدان. ثم مارست الدور نفسه في اليمن من خلال ذراعها الحوثي.
وهكذا تجلّى من جديد دور إيران وأذرعها في جرائم طائفية لم يشهدها التاريخ بحق أهل السنة، فانكشفت حقيقتهم كما لم تنكشف من قبل، وانتبه من كان يُحسن الظن بهم، وتلاشت مشاريع التقريب معهم، وتراجع كبار العلماء الداعين إليها، بل تجاوزوا ذلك إلى التحذير منهم وبيان كذبهم وخداعهم، ومن ذلك موقف الشيخ القرضاوي رحمه الله في فضحهم والتحذير منهم.
وظننَّا جميعا أنَّ ملايين القتلى والمشرّدين والمهجَّرين على أيدي إيران وميليشياتها، والسيطرة على أربع عواصم عربية من قبل "الوليّ الفقيه"، قد عرّت المشروع الصفوي تمامًا، وجلّته لكل مبصر، وأن القناعة بخطره وخبثه لن تهتز بعد الآن، إلى أن جاءت الفتنة الثالثة.
الفتنة الثالثة: "نصرة" الأقصى:
في السابع من شهر تشرين الأول - أكتوبر عام 2023م قام المجاهدون في فلسطين بأضخم هجومٍ بريٍّ ينفَّذ ضد الكيان الصهيوني في محيط غزة، وأثخنوا فيه قتلًا وأسرًا، وعلى إثرها اجتاحت قوات العدو مدينة غزة، وما زالت ترتكب فيها على مدار أكثر من عام أفظع الجرائم ضد الإنسانية على مرأى من العالم ومسمع، والحكام العرب ما بين متخاذل ومتواطئ. وبرز قرن إيران لتُطلق تصريحاتها النارية في تأييد المقاومة الفلسطينية، معلنة دخولها في المعركة بأذرعتها في لبنان واليمن.
ومع أنَّ المزاج العام العربي والإسلامي لم يكن مُرحِّبًا ولا مُصدِّقًا بنصرة إيران لقضيتهم في فلسطين، فجرائمها في سوريا ولبنان والعراق واليمن لا زالت واقعًا مشهودًا على الأرض، إلا أنه التمس للمقاومة العذر في علاقتها مع إيران وأذرعها لظرفها الصعب، على استياء – من خارج المقاومة ومن داخلها- من بعض مواقفها.
ثم اغتال الكيان الصهيوني رأس حزب إيران في لبنان، مع عددٍ من قياديي صفه الأول وقيادات عسكرية إيرانية، فقوبل ما أصابهم بالفرح والشماتة من قِبل الشعوب المتضررة من جرائم المحور الإيراني وأذرعه، وثارت نقاشات وجدالات في حكم الشماتة وسط الحرب الطاحنة التي يخوضها الكيان ضد غزة، واعتبر فريق من الناقدين أن التشفي يضعف الحلف المواجه للصهاينة، وينخر في جدار المقاومة.
وهكذا تحوّل فريق من أهل العلم والفكر من تسويغ العلاقة مع إيران بحكم بالاضطرار، إلى الهجوم على مبدأ التحذير من الرافضة، وأنَّ أي نقدٍ لهذا الحلف ومحوره أثناء المعركة هو خذلانٌ للمجاهدين وعونٌ للصهاينة، وأن الواجب اليوم هو تنحية "الخلافات الجانبية" والاجتماع صفًا واحدًا مع الرافضة لمواجهة العدوان الصهيوني لأنه الأخطر، وربما استشهدوا بكلامٍ لأهل العلم أنه لا يجوز تكفير عوام الشيعة، وتنزيله في غير محله، وكأن المشكلة هي في مجرد الحكم بإسلامهم من عدمه.
إنَّ مآل هذه الخطابات –المتسارعة في التنازل– هو التهوين من خطر المشروع الإيراني على الأمة، بل وخطر التشيُّع على عقائد المسلمين، وهو أمر بدأت آثاره فعلاً، فعادت الفتنة جذعةً أشدَّ مما كانت عليه في سيرتها الأولى، وصرنا كالتي نقضت غزلها من بعد قوةٍ أنكاثًا!
وهنا وقفاتٌ لا بد منها:
1- على مدى نصف قرن من "الثورة الخمينية"، لم يتغير شيء في مواقف الرافضة عقديًا ولا سياسيًا، بل عداؤهم في خطّ تصاعديّ مطّرد، وفي كل مرحلة يعطون أمثلةً وأدلةً جديدة على ما يبيِّتونه لأهل السنة من عداء، ويكشفون ما كانوا يخفونه من مخالفةٍ لأسس الإسلام وبدهياته، وقد ظهر للعلن تعاوُنهم مع أعداء المسلمين، حتى صار هذا معلومًا عند العوام، وهو يصدِّق كل ما قيل فيهم منذ قرون، فكيف تتغاضى النخب عن كل هذا وتحاول القفز من فوقه؟
أوَ كلما رفع مجرمٌ زنديقٌ شعارًا رنّانًا وأعلن وقوفه إلى جانب قضايا المسلمين (بإطلاق بعض من سجنهم، أو السماح ببعض الأنشطة التي منعها، أو تقاطعت مصالحه مع مقاومة المشروع الصهيوني) انبرى فريق من حملة العلم والدعوة إلى تبييض صفحته، وإطلاق أوصاف الإمامة في الدين عليه؟ وإنكار أو تأويل ما وقع فيه من كفر وجرائم؟ بل والتسلّط على من ذكّر بحقيقة هذا المجرم ودعا لعدم الانخداع به!!
2- إن الفتنتين الأولى والثانية استغرقتا أكثر من 30 عامًا، وكلَّفتا الأمة تدمير أربعة بلدان، وتشيُّع الكثير من أهل السنة في بلدان أخرى، إضافة إلى أكثر من مليوني قتيل وملايين المهجرين، إلى أن قال خواصّ الناس قبل عامتهم: كنا مخدوعين بهم. فكم ينبغي أن تدفع الأمة من تزييف وعيها ومن دمائها حتى تنجلي هذه الفتنة؟!
3- من المعروف بداهةً في البحث العلمي والتحليل الصائب أنَّ المنطلقاتِ العقديةَ ودراسةَ التاريخ وفقهَ الواقع أبعادٌ مُهمَّة لفهم الأحداث من حولنا، واستشراف ما يجري، لكن المواقف الأخيرة من الرافضة مثالٌ صارخٌ للفشل الذريع في تطبيق هذه المسلَّمات، ومؤشّر متذبذِبٌ لوعي الأمة بأهم قضاياها ارتفاعًا وانخفاضًا.
وختامًا:
قد يتفهَّم المرء حال المقاومين المجاهدين ويلتمس لهم العذر في موقفهم، لكن ما عُذرُ علماء ومفكرين لم يُبتلوا بما ابتلي به إخوانهم المجاهدون، وليسوا مضطرين للمجاملة؟ أخفيَ عنهم حقًا خطورة المشروع الإيراني وحقيقة دوافعه في مسألة فلسطين؟ كيف يدعون قومهم إلى الاصطفاف معهم، ويمجِّدون قتلاهم ويطالبون الشعوب المقهورة بالسكوت عن جرائمهم التي لم تقِف حتى يومنا هذا؟
فالله الله يا علماء الأمة ودعاتها في دين الله الذي ائتمنكم عليه، وورثتموه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن يُؤتى من قبلكم بالتغيير أو الكتمان، واحذروا أن تكون مواقفكم الداعمة للقضية الفلسطينية حصان طروادة يتسلل منه أعداء الدين إلى قلوب الأمة وعقولها.
علموا الناس أنَّ الرافضة خطرٌ على دينهم ودنياهم، جنبًا إلى جنب مع خطر المشروع الصهيوني، فلا يؤخَّرُ شيءٌ ولا يهوّن منه في معركة الوعي.
اللهم أصلح أحوالنا، وألف بين قلوبنا، وجنَّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
--------------------------------------
هيئة الشام الإسلامية
السبت 16 ربـيع الآخر 1446هـ
الموافق 19 أكتوبر 2024م