هل يجوز لعنُ المرأةِ المتبرِّجةِ والمجاهرين بالذُّنوب والمعاصي؟
الكاتب : المكتب العلمي ـ هيئة الشام الإسلامية
الثلاثاء 30 نوفمبر 2021 م
عدد الزيارات : 61511

هل يجوز لعنُ المرأةِ المتبرِّجةِ والمجاهرين بالذُّنوب والمعاصي؟

السؤال:

مرت بنا امرأةٌ متبرجةٌ فلعنها أحد الشباب، فأنكرتُ عليه، فأجاب بأنها فاسقةٌ ويجوز لعنُها؛ لحديث: (العنوهن فإنهنَّ ملعوناتٌ)، فهل حقًّا أمر الشرعُ بلعن المرأةِ المتبرجة؟ وإذا كان جائزا فهل يجوز لنا لعن مرتكبي الكبائر والمجاهرين بالذنوب؟

الجواب:

الحمدُ لله، والصلاة والسلامُ على رسول الله، وبعد:

فلا يجوز لعنُ شخصٍ معيَّنٍ ولو كان فاسقًا، والنُّصوصُ الواردةُ في لعنِ أصحابِ المعاصي: يرادُ بها لعنُ الأصنافِ لا الأعيانِ، وكذا يحرم سبُّ المسلم وشتمُه ولو كان عاصيًا إلا الظالم.

وبيانُ ذلك فيما يلي:

أولًا:

جاءت الشريعةُ بالنَّهي عن اللّعن، والوعيدِ الشّديدِ عليه، بل جعلتْ لعنَ المسلم مثل قتله في الإثم، كما في حديث ثابت بن الضحاك عن النبي ﷺ قال: (لَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ)، متفق عليه.

لذا يجب على المسلم أنْ يحفظَ لسانَه مِن السَّب والشَّتم واللَّعن؛ فإنَّ اعتيادَ ذلك ليس مِن أخلاقِ أهل الإيمان.

والإكثارُ مِن اللَّعن:

1- سببٌ لدخولِ النار، كما روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّهُ عنه: أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: (يا معشرَ النِّساء تصدَّقن، فإنِّي رأيتُكنَّ أكثرَ أهلِ النَّار)، فقلْنَ: وبم ذلك يا رسولَ الله؟ قال: (تُكثِرْنَ اللَّعنَ، وتكفُرْنَ العَشير).

2- مناقضٌ لأوصاف الصِّديقين: كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: (لا يَنبغي لصِدِّيقٍ أنْ يكون لعَّانًا).

3- مُبعِدٌ له عن منزلة الشفاعة للآخرين، والشهادة على الأمم: لما في صحيح مسلم عن أبي الدّرداء رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (لا يكونُ اللَّعّانُونَ شفعاءَ ولا شهداءَ يوم القيامة).

4- دليلٌ على نقصِ الإيمان: فعن ابنِ مسعود رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (ليس المؤمنُ بالطَّعَّانِ، ولا اللَّعَّان، ولا الفاحش، ولا البذيء)، رواه الترمذي، وصححه ابنُ حبان، ورجّح الدارقطنيُّ وقفه.

فهذه الأحاديثُ دالةٌ على تعظيمِ الإثم في اللَّعن، ووجوبِ الاحتراز عنه، وأنَّ مَن تخلَّقَ به لم يكن مِن أصحاب الصِّفات الفاضلة، ولا مِن ذوي المراتب السَّنية، والأنفسِ الزَّكية.

ثانيًا:

لا يصح الاستدلالُ على جواز لعن "المرأة المتبرجة" بحديث (العنوهنَّ فإنهنَّ ملعوناتٌ)؛ لأنَّ الحديثَ ضعيفٌ لا يثبت.

أخرجه الإمام أحمد في مسنده مِن حديث عبد الله بن عمرو رضي اللَّهُ عنه بلفظ: (سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي رِجَالٌ يَرْكَبُونَ عَلَى سُرُوجٍ كَأَشْبَاهِ الرِّحَالِ، يَنْزِلُونَ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ، نِسَاؤُهُمْ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، عَلَى رُءُوسِهِمْ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْعِجَافِ، الْعَنُوهُنَّ؛ فَإِنَّهُنَّ مَلْعُونَاتٌ...).

وقد تفرد بروايته بهذا اللفظ: عبدُ الله بن عيَّاش القِتْباني، وهو ضعيف.

ولو صحَّ، فليس فيه ما يدلُّ على لعن امرأةٍ بعينها، وإنَّما فيه لعن المتبرجات على سبيل العموم، كما قال علاء الدين القونوي في رسالته "الطعن في مقالة اللعن": "هذا الحديث لا يقتضي لعنَ امرأةٍ بعينها، بل الجنسَ".

والحديث المشهور في وعيد المتبرّجات ليس فيه هذه اللفظة، فعن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا، قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُؤوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا) رواه مسلم في صحيحه.

ثالثًا:

اللعنُ بالوصفِ جائزٌ لا حرج فيه، كأن يُقال: (لعنةُ الله على الظالمين)، (لعن الله آكل الربا)، (لعن الله شارب الخمر) ... الخ، دون تخصيص ذلك بشخص معيَّن.

واللعنُ بالوصف ورد في نصوص كثيرة من القرآن والسنة.

فمِن نصوص القرآن: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء: 93]، {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}[هود: 18]، {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور: 23].

ومِن السنة النبوية الصحيحة(لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ) متفق عليه، (لعن الله مَن لعن والده، ولعن الله مَن ذبح لغير الله، ولعن الله مَن آوى محدثًا، ولعن الله مَن غيّر منار الأرض) رواه مسلم.

قال العراقي في طرح التثريب: "أمَّا الدعاءُ على ‌أهل ‌المعاصي ‌ولعنُهم مِن غير تعيينٍ: فلا خلافَ في جوازه".

رابعًا:

لا يحلُّ لعنُ شخصٍ معيَّنٍ، سواء كان مؤمنًا صالحًا، أو فاجرًا فاسقًا، وذلك:

1- لأنَّ اللَّعنَ إن كان بمعنى الإخبار عن هذا الإنسان المعيَّن بأنه مطرودٌ مِن رحمة الله، فلا يجوز إطلاقُه على أحدٍ، إلا أنْ يكون ممّن ورد نصٌّ شرعيٌّ خاصٌّ بأنّه كذلك، أو عُلم موتُه على الكفر، مثل: فرعون وهامان وإبليس وأبي جهل...الخ.

وليس مِن حقِّ المخلوق أنْ يحكمَ على شخصٍ بأنَّه مطرودٌ ومُبعَدٌ مِن رحمة الله، فهذا مِن علم الغيب الذي لا يحيط به البشرُ علمًا.

قال أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين: "فإنَّ في اللعنةِ خطرًا؛ لأنه حكمٌ على الله عز وجل بأنه قد أبعد الملعون، وذلك غيبٌ لا يطّلع عليه غيرُ الله تعالى، ويَطَّلِع عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أطلعه اللهُ عليه".

وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم: "واتفق العلماءُ على تحريمِ اللَّعن، فإنه في اللغة: الإبعادُ والطّردُ، وفي الشرع: الإبعادُ مِن رحمة الله تعالى، فلا يجوز أنْ يُبعَدَ مِن رحمة الله تعالى مَن لا يُعرف حالُه وخاتمةُ أمرِه معرفةً قطعيةً".

2- وإن كان مقصودُ اللعنِ: الدعاءَ عليه بأنْ يُطردَ مِن رحمة الله؛ فذلك لا يجوز أيضًا؛ لأنّ الدعاءَ عليه بأن يكون كذلك يتنافى مع ما طُلب مِن المسلم مِن الرحمة بالخلق، والدعوة لهم بالهداية، وإن زلّت بهم الأقدام، ووقعوا في المعاصي والآثام.

قال النووي في شرح صحيح مسلم: "وليس الدعاءُ بهذا مِن أخلاق المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى بالرحمة بينهم، والتعاون على البر والتقوى، وجعلهم كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضًا وكالجسد الواحد، وأنَّ المؤمن يحبُّ لأخيه ما يحبُّ لنفسِه، فمَن دعا على أخيه المسلم باللعنة -وهي الإبعادُ من رحمة الله تعالى- فهو مِن نهاية المقاطعة والتدابر".

3- أنَّ اللعنةَ ترجع إلى صاحبِها إن لم يكن ذلك الإنسانُ مستحقًا لها، واللَّاعن لا يتحقق على وجه القطع استحقاقَه اللعنَّ.

لحديث أبي الدرداء رضي اللَّهُ عنه مرفوعًا: (إنَّ العَبدَ إذا لَعَنَ شيئًا ‌صَعِدَتِ ‌اللَّعنَةُ إلى السَّماء، فتُغلَقُ أبوابُ السماء دونَها، ثمّ تَهبِطُ إلى الأرض، فتُغلَقُ أبوابُها دونَها، ثم تأخذ يمينًا وشمالًا، فإذا لم تَجِدْ مَسَاغًا رَجَعَت إلى الذي لُعِنَ، فإن كان لذلك أهلًا، وإلا رَجعتْ إلى قَائلها)، رواه أبو داود بسند فيه ضعف يسير، ويشهد له ما في صحيح البخاري عن أبي ذر رضي اللَّهُ عنه أنه سمع النبي ﷺ يقول: (لا يَرْمِي رَجُلٌ ‌رَجُلًا ‌بِالفُسُوقِ ولا يَرمِيه بِالكُفرِ إلّا ارتَدَّتْ عليه إِنْ لَمْ يَكُنْ صاحِبُهُ كَذلكَ).

4- أنّ اللعنةَ مِن باب الوعيد، والوعيدُ العام لا يُقطع به للشخص المعين؛ لما قد يعرِضُ له مِن توبةٍ، أو حسناتٍ ماحيةٍ، أو مصائبَ مكفِّرةٍ، أو شفاعةٍ مقبولة، وغير ذلك.

روى البخاريُّ عن عمر بن الخطاب رضي اللَّهُ عنه: أنَّ رجلًا على عهد النبي ﷺ كان اسمُه عبد الله، وكان يُضحِك رسولَ الله ﷺ، وكان النبي ﷺ قد جلده في الشراب، فأُتي به يومًا فأمر به فجُلد، فقال رجلٌ مِن القوم: اللهم العنْه، ما أكثرَ ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).

قال ابنُ تيمية في منهاج السنة: "نهى النَّبي ﷺ عن لعنة هذا المعيَّن الذي كان يُكثر شربَ الخمر معلِّلًا ذلك بأنَّه يحبُّ الله ورسوله، مع أنه صلى الله عليه وسلم لعن شاربَ الخمرِ مطلقًا، فدلَّ ذلك على أنه يجوز أن يُلعن المطلَق، ولا تجوز لعنةُ المعيِّن الذي يحبُّ اللهَ ورسولَه،ومِن المعلوم أنَّ كلَّ مؤمنٍ فلا بدَّ أنْ يحبّ اللهَ ورسولَه".

وقال ابن القيم في زاد المعاد: "وأمَّا المعيَّنُ، فقد يقوم به ما يمنع لحوقَ اللَّعنِ به مِن حسناتٍ ماحية، أو توبةٍ، أو مصائبَ مكفّرة، أو عفوٍ مِن الله عنه، فتُلعن الأنواعُ دون الأعيان".

ثم إنّ مواجهةَ الإنسان باللعنِ تنفيرٌ له عن الحق، وإعانةٌ للشيطان عليه، دون فائدةٍ تُرجى.

وفي كتاب "قَيد الشريدِ مِن أخبار يزيد" لابن طُولون: "ولو جاز لعنُه فسكت: لم يكن عاصيًا بالإجماع، بل ولو لم يلعن إبليسَ طول عمرِه مع جواز اللعن عليه لا يقال له يوم القيامة: لمَ لمْ تلعن إبليس؟ ويقال للّاعن: لم لعنْتَ، ومِن أين عرفتَ أنه مطرودٌ ملعونٌ؟!".

خامسًا:

قد يأتي اللعنُ في لغةِ العرب ولسانِ الشرع واستعمالِ الناس بمعنى "السبّ والشتم"، دون قصدِ الإخبار أو الدُّعاء بالطرد مِن رحمة الله.

قال صاحبُ المحيط في اللغة: "أصلُ اللعن: الطرد، ثم يوضَع في معنى السبِّ والتعذيب".

وقال ابنُ الـمَرْزُبان في تصحيح الفصيح: "واللعنُ: الشتم والذمُّ والإبعاد، وكانت تحيةُ الملك في الجاهلية: (أبيتَ اللَّعْنَ) أي: لا أَتيتَ ما تُلعن عليه، أي يُدعى عليك وتُذمُّ به".

وقال الواحدي في التفسير البسيط: "واللعن: ‌السب والشتم".

وفي هذه الحال يأخذ اللعنُ: حكمَ السَّب والشتم.

1- والأصلُ في سبِّ المسلم وشتمِه: التحريمُ؛ لقول النبي ﷺ: (سِبَابُ الـمُسْلِمِ: فُسُوقٌ) متفق عليه، وهذا عامُّ في كلِّ مسلم حتى لو كان عاصيًا.

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: أُتي النبي ﷺ بسكران، فأمر بضربِه، فلما انصرف قال رجلٌ: ما له أخزاه الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ).

وروى عبدُ الرزاق في المصنف عن ابن مسعود رضي اللَّهُ عنه قال: "إذا رأيتم ‌أخاكم ‌قارف ‌ذنبًا فلا تكونوا أعوانًا للشيطان عليه، تقولوا: اللهم اخْزِه، اللهم الْعَنْهُ، ولكنْ سلوا الله العافية".

وروى عبد الرزاق في مصنفه -بسندٍ رجالُه ثقات- عن أبي قلابة: أنَّ أبا الدرداء رضي الله عنه مرَّ على رجلٍ قد أصاب ذنبًا فكانوا يسبُّونه، فقال: "أرأيتم لو وجدتموه في قَليبٍ -أي بئر- ألم تكونوا مستخرجيه"، قالوا: بلى، قال: "فلا تسبُّوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم". قالوا: أفلا تُبغضُه؟ قال: "إنما أُبغض عملَه، فإذا تركه فهو أخي".

قال النووي: "فسبُّ المسلمِ بغير حقٍّ حرامٌ بإجماع الأمة، وفاعلُه فاسق كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم".

2- ويجوز السبُّ إذا كان قِصاصًا لمن تعدَّى عليه بالسبِّ، كما في الحديث الصحيح: (الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ، مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ)، ومعناه: أنَّ إثمَ السُّبابِ الواقع مِن اثنين مختصٌّ بالبادئ منهما كلَّه، إلا أنْ يتجاوزَ الثاني قدرَ الانتصار فيقول للبادئ أكثرَ مما قال له، وهذا لأنَّ البادئ ظالمٌ بابتدائه بالسبِّ، فجوابُه جزاء، فإذا اعتدى المظلومُ كان عليه إثم.

قال زكريا الأنصاري في فتح الوهاب: "إذا سبَّ شخصٌ آخر، فللآخَرِ أنْ يسبَّه بقدْر ما سبَّه، ولا يجوز سبُّ أبيه ولا أمِّه، وإنما يسبُّه بما ليس كذبًا ولا قذفًا ...، وإذا انتصر بسبِّه فقد استوفى ظُلامتَه، وبرئ الأولُ مِن حقِّه، وبقي عليه إثمُ الابتداء والإثمُ لحقِّ الله تعالى".

3- ويجوز سبُّ الكافرِ المحارب للمسلمين، إذ لا حرمةَ له، بخلاف الذمّي والمعاهَد منهما، فلا يجوز الاعتداءُ عليه بالسبِّ والشتم واللعن.

قال الصنعاني في سبل السلام: "فإن كان معاهدًا فهو أذيّةٌ له، وقد نُهي عن أذيّتِه، فلا يُعمل بالمفهوم في حقِّه، وإن كان حربيًا جاز سبُّه؛ إذ لا حرمةَ له".

4- ويجوز سبُّ الظالم وشتمُه حتى يُقلِعَ عن ظُلمِه وبَغيِه، كما قال تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا}[النساء: 148].

فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يحبُّ الجهرَ بالسُّوء مِن القول، أي: يُبغِضُ ذلك ويَمقتُه ويعاقِبُ عليه، ويشمل ذلك جميعَ الأقوال السيئة التي تَسُوء وتَحزُنُ، كالشتم والسبِّ ونحوه، {إِلا مَن ظُلِمَ} فإنه يجوز له أن يدعوَ على مَن ظلمه، ويجهرَ بالسوء لمن جهر له به، مِن غير أن يكذبَ عليه، ولا يزيدَ على مَظلَمتِه، ولا يتعدّى بشتمِه غيرَ ظالمه، ومع ذلك فعفوُه وعدمُ مقابلتِه أولى، كما قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}[الشورى: 40].

قال ابنُ العربي في أحكام القرآن: "إذا كان الرجلُ مجاهرًا بالظلم دعا عليه جهرًا، ولم يكن له عِرْضٌ محترم".

وقال نجم الدين الغَزّي في "حسن التنبُّه لما ورد في التشبُّه": "أمَّا الدعاءُ على مَن ظلم المسلمين مطلقًا، أو مَن خالف الحكمَ الشرعي عنادًا، أو مَن ظلم الداعي وحدَه: فيجوز".

وروى أبو داود مِن حديث أبي هريرة قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ يشكُو ‌جارَه، فقال: "اذهبْ، فاصْبِرْ" فأتاه مرَّتينِ أو ثلاثاً، فقال: "اذهَبْ فاطرَحْ ‌متاعَكَ في الطريقِ"، فطرح متاعَه في الطريق، فجعَلَ الناسُ يسألونه، فيخبِرُهم خبَرَه، فجعل الناسُ يلعنُونَه: فعلَ اللهُ بهِ وفَعَلَ، فجاء إليه جارُه، فقال له: ارجِعْ، لا ترى مني شيئاً تكرهُهُ".

قال ابنُ رسلان: "فيه: جوازُ الدعاء على مَن يتأذّى منه الناسُ، ويكون جهرًا؛ ليكون تأديبًا له، وزجرًا عن الأذى".

وقوله في الحديث (فجعل الناس يلعنونه) يعني: يسبونه، فعبّر باللعنِ عن السبِّ.

قال الحافظ ابنُ حجر في فتح الباري: "والحقُّ أنَّ مَن منع اللَّعنَ أراد به معناه اللُّغوي وهو الإبعادُ من الرحمة، وهذا لا يليق أن يُدعى به على المسلم، بل يُطلب له الهدايةُ والتَّوبة والرُّجوع عن المعصية، والذي أجازه: أراد به معناه العرفي، وهو مطلَقُ السَّب، ولا يخفى أنّ محلَّه إذا كان بحيث يرتدع العاصي به وينزجر".

وقال: "النهيُ للتنزيه في حقِّ مَن يستحقُّ اللعن إذا قَصد به اللاعنُ محضَ السبِّ، لا إذا قصد معناه الأصلي وهو الإبعاد عن رحمة الله، فأما إذا قصده: فيَحرم".

5- يجوز لعنُ المجرمين والظلمةِ والطغاة والمستكبرين والمعاندين بأعيانهم: على معنى الدعاء عليهم بما يزيل بأْسَهم ويمحق قوتَهم، ويكفُّ شرَّهم، ويذيقهم مِن العذاب ما يَشْغَلُهم عن أذية المسلمين وعن التطاول على الدين، ويوقعهم في الذل والصغار، فهذا جائزٌ في حق من طغى وبغى، واستكبر واعتدى.

وهذا اللعن -بهذا القصد- وإنْ كان جائزًا لأنَّه من باب الشتم والسب للظالم، إلا أنّ الأسلمُ اجتنابُ استعمالِ لفظِ اللعنِ مطلقًا، لما فيه من إيهام، وخشية أن يُستعمل على غيرِ وجهه الصحيح.

وأخيرًا:

ينبغي على المسلم أنْ يتأسّى بأخلاق النبي ، لـمّا طُلب منه الدعاء على المشركين، قال: (إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً) رواه مسلم.

ولما قيل له: إنَّ دَوْسًا عصت وأبت، فادع الله عليها، قال: (اللهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَائْتِ بِهِمْ)، متفق عليه.

وعن أنس بن مالكٍ رضي اللَّهُ عنه قال: "لم يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ سَبَّابًا، ولا فَحَّاشًا، ولا لَعَّانًا"، أخرجه البخاري.

ورحمَ اللهُ امرأ تكلّم فغنمَ، أو سكتَ فسلِمَ.

والله أعلم.

 

 


https://islamicsham.org