هل يجوز رفضُ الخاطب وإن كان ذا خُلقٍ ودِينٍ لاعتباراتٍ اجتماعية؟
الكاتب : المكتب العلمي ـ هيئة الشام الإسلامية
الاثنين 15 نوفمبر 2021 م
عدد الزيارات : 92904

هل يجوز رفضُ الخاطب وإن كان ذا خُلقٍ ودِينٍ لاعتباراتٍ اجتماعية؟

السؤال:

تقدّم شابٌّ لخِطبتي، ولا أعيب عليه شيئًا في خُلقِه ودِينِه، ولكن مستواه الاجتماعي والتعليمي لا يتناسب مع مستوى أسرتنا؛ وهو مع ذلك فقير، فهل يحقُّ لي رفضُه أم يلزمني شرعًا القَبولُ به؛ لئلا أقع في الوعيد الذي ورد في الحديث (إذا أتاكم مَن ترضون خلقَه ودينَه فزوّجوه، إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفساد عريض)؟

الجواب:

الحمدُ لله، والصلاة والسلامُ على رسول الله، وبعد:

فيحقُّ للمرأةِ مراعاةُ الصِّفات التي تُعين على استقرار الحياة الزوجية وسيرها بطريقةٍ حسنة، ولا حرج عليها في رفض الخاطب ولو كان صاحبَ دينٍ إذا لم يكن مناسبًا لها اجتماعيًا، أو لم ينشرح صدرُها له ولم ترغب به زوجًا لها، والمذمومُ شرعًا: تزويجُ الرجلِ لماله، أو منصبه، أو نَسَبِه، أو وظيفته، وهو غيرُ مرضيِّ الدِّين والخُلق.

وتفصيلُ المسألةِ فيما يلي:

أولًا:

ندَبَ الشَّرعُ المرأةَ إلى اختيارِ صاحبِ الخُلق والدِّين؛ لأنَّ الحياةَ لا تستقيم مع رقيقِ الدِّيانة أو سيء الخلق.

و"الدينُ والخُلقُ" وصفان رئيسان مهمان ينبغي على كلِّ طرفٍ أن يحرصَ على وجودِهما في الطرف الآخر.

روى ابنُ أبي الدنيا أنَّ رجلًا قال للحسن البصري: إنَّ عندي ابنةً لي، وقد خُطِبتْ إليَّ، فمَن أزوِّجُها؟

قال: "زوِّجْها مَن يخاف الله، فإنْ ‌أحبَّها ‌أكرمها، وإنْ أبغضها لم يظلمْها".

وقال الشعبي: "مَن زوَّج ‌كريمتَه ‌مِن ‌فاسقٍ: فقد قطع رحمَها".

ولذا ينبغي الاجتهادُ في اختيارِ الرجل الكُفء الذي يتمتَّع بالخلق الحميد، والدِّين القويم، والقدرة على تحمُّل الأمانة، وحفظ المرأة، وصيانتها، والوفاء بجميع حقوقها.

ثانيًا:

ثمَّة صفاتٌ وخصالٌ تنبغي مراعاتُها والنظر إليها عند الزواج إضافةً للدِّين والخلق.

ومن أهمها: الارتياح النفسي، والتوافق الفكري، وتقارب المستوى الاجتماعي والمادي، والصورة الحسنة، والتقارب في السن، والتقارب في البيئة والعادات والتقاليد، والسلامة من العيوب الخَلقية، وغير ذلك مما يباح طلبُه؛ فإنَّ التوافق والتقارب في هذه النواحي مما يعين على دوام العشرة، وبقاء الأُلفة.

ولذا فلا حرج على المرأة في رفض الخاطب ذي الدين والخلق إن لم يناسبْها مِن حيث الشكلُ أو المهنة أو الطبع أو السن أو الوضع المادي ونحو ذلك، ولا إثم عليها.

ويدلُّ على ذلك:

1- حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها لما خطبها معاويةُ بن أبي سفيان، وأبو جَهم بنُ حذيفة رضي الله عنهما، استشارت النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال لها: (أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ) رواه مسلم.

فأشار عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم برفض معاوية؛ لأنه فقير لا مال له، ورفض أبي جهم؛ لكونه شديدًا في تعامله مع النساء.

قال ابنُ تيمية في مجموع الفتاوى: "فبيَّن لها أنَّ هذا فقيرٌ قد يعجِز عن حقِّك، وهذا يؤذيكِ بالضرب، وكان هذا نُصحًا لها".

وقال الطِّيبي في شرح مشكاة المصابيح: "فيه دليلٌ على أنَّ المال معتبرٌ في الكفاءة".

وقال الباجي في المنتقى: "وراعى في ذلك حاجةَ النِّساء إلى المال يكون عند الزَّوج لما لهُنَّ عليه مِن النَّفقة والكِسوة وغير ذلك".

2- وحديث بُرَيْدَةَ بنِ الحصيب رضي الله عنه قال: "خطب أبو بكرٍ وعمرُ رضي اللَّهُ عنهما فاطمة، فقال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (إِنَّهَا صَغِيرَةٌ)، فخطبها عليٌّ، فزوَّجها منه"، أخرجه النسائي، وصححه ابن حبان، وبوب عليه النسائي: "تزوُّج المرأةِ مثلَها مِن الرجال في السِّن".

فلم يزوج النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر، وهما مَن هما في الدين والخلق؛ لفارق السن الكبير بينها وبينهم، وقدَّم عليًا رضي الله عنه عليهما رغمَ تأخُّرِ خِطبته لها؛ لأنه أنسبُ منهما لابنته.

قال السندي في حاشيته: "فيه أنَّ الموافقة في السِّن أو المقاربة مرعيةٌ؛ لكونها أقرب إلى المؤالفة، نعم قد يُترك ذاك لما هو أعلى منه كما في تزويج عائشة رضي الله تعالى عنها".

أي قد تُترك مراعاة ذلك لمصلحة أعلى وأكبر، كما في زواج النبي صلى الله عليه وسلم مِن عائشة رضي الله عنها.

3- قصة امرأة ثابت بن قيس التي طلبت الخُلعَ مِن زوجها بسبب بُغضِها له؛ فقالت: "يا رسولَ اللَّهِ ثابتُ بنُ قيسٍ ما أَعْتِبُ عليه في خُلُقٍ ولا دِينٍ، ولَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ".

فقال رسول اللَّه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم: (أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟)، قالت: نعم، قال رسول اللَّه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم: (اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً).

والمعنى: لا أريد مفارقته لسوء خلقه ولا لنقصان دينه، ولكني لا أطيقه -فقد كان دميمَ الخلقة كما في بعض الروايات- فأخاف على نفسي كفرَ العشير بالنُّشوزِ عليه والتقصير بحقِّه.

وثابتُ بن قيس رضي الله عنه مِن فضلاء الصحابة، وبشَّره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، ومع ذلك رخص لها في فسخ النكاح بعد عقدِه؛ لعدم رضاها عن صورته وشَكلِه، فمراعاةُ عدم وجود هذه الأسباب قبل العقد عند الخِطبة أولى؛ لئلا يفضي وجودُها إلى الطلاقِ بعد العَقد.

4- أنَّ الله شرع الزواجَ وجعل قِوام العلاقة بين الرجل والمرأة: المودة والرحمة، ولا تستقيم الحياة وتحصل الألفة إلا إذا رغب كلٌّ مِن الطرفين بالآخر، واقتنع به ورضيه شريكًا.

قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون}.

ولأجل هذا جُعل الزواجُ منوطًا بإذنها ورضاها، فلها الحقُّ أن تقبل مَن تشاء وترفض مَن تشاء مِن الخُطّاب، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لاَ تُنْكَحُ البِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، وَلاَ الثَّيِّبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ) رواه البخاري ومسلم.

5- أن الشرع ندب إلى الرؤية الشرعية؛ وبها يُعلم جمال الصورة وسلامة البدن، ولو كان النكاح مقتصرًا على وجود الخُلق والدين لما كان للرؤية فائدة، وهذا يشمل الرجلَ والمرأة، ومعلومٌ أنَّ النظرَ لا يُعرف به الخُلق والدين، وإنما يُعرف به الجمالُ مِن القُبح.

عن أبي هريرة، قال: كنتُ عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجلٌ فأخبره أنه تزوج امرأةً مِن الأنصار، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (أنظرتَ إليها؟)، قال: لا، قال: (فَاذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا) رواه مسلم.

6- راعى الفقهاءُ الكفاءةَ في الزواج، وقرّروا أنَّ مِن حق المرأة رفضَ الرجل إذا لم يكن كفؤًا لها، ولم يقْصُروا الكفاءة على الدين والخلق، بل ذكروا أيضًا: النَّسب، والصَّنعة (الوظيفة والحِرْفة)، والسَّلامةَ مِن العيوب، واليَسار (المال).

والكفاءةُ ليست شرطًا في صحة النكاح عند جمهور العلماء، بل هو خيارٌ للمرأة وأوليائها، لها أن تأخذ به أو تتركَه إن شاءت.

قال الإمام الشافعي في الأم: "وليس ‌نِكاحُ ‌غيرِ ‌الكفْءِ محَرَّمًا فأردُّهُ بكلِّ حالٍ، إنَّما هو نقْصٌ على المزَوَّجَة والولاة، فإذا رضيت المزَوَّجَةُ ومَن له الأمرُ معها بالنَّقْصِ: لمْ أردَّهُ".

7- أنّ الشريعة جاءت برفع الضرر، ومِن الضرر على المرأة أن تُلزَمَ بنكاحِ مَن لا ترغبُ ولو كان ذا خُلقٍ ودِينٍ؛ فالزواجُ يهدف إلى الأُلفة والارتياح المتبادَل مِن الطرفين، والإنسانُ لا يملك مشاعرَه، والعبرةُ بتلاقي الأرواح، وهي جنودٌ مجَنَّدةٌ، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، والاختلافُ يؤدي للفراق والنزاع، وهو مما يبغضه الشارع.

ثالثًا:

أمَّا الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجه بلفظ: (إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ)، فلا يصح الاستدلال به على تحريم رفض الخاطب إن كان ذا خلقٍ ودينٍ، مِن وجوه:

الأول: أنَّ الحديثَ وإن كان مشهورًا وقد حسنه بعض أهل العلم، فالأرجحُ أنه ضعيف لا يثبت، وقد رُوي مِن عدة طرق، وهي ما بين مُعَلٍّ أو شديدِ الضَّعفِ، فلا تصلح للتقوية، وينُظَر في بيان ضعفِها ما حرره الإمام ابن القطان الفاسي في كتابه "بيان الوهم والإيهام".

قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: "أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة، ونقل عن البخاري أنه لم يَعُدَّه محفوظًا، وقال أبو داود: إنه خطأ، ورواه الترمذي أيضًا من حديث أبي حاتم المزني وحسنه، ورواه أبو داود في المراسيل، وأعلَّه ابن القطان بإرساله وضعف رواته".

الثاني: المقصود مِن الحديث -عند مَن حسَّنه- أنّ الرجلَ إذا لم يُرضَ دينُه ولا خلقُه: فلا يزوج، ولا يُفهم منه وجوبُ قَبوله زوجًا لمجرد كونه مرضيَّ الدينِ والخلقِ دون مراعاةٍ لباقي ما يُطلب في الرجل مِن صفاتٍ وخِصال.

فهو واردٌ في ذمِّ الالتفات لمال الرجل، أو حَسَبِه، أو مَنصبِه ووجاهته، أو جماله، دون مراعاةٍ للدين والخلق.

فتعظيمُ الجاه والمال وإيثارُه على الدين والخلق يؤدي إلى الفتنة والفساد، كما ذكر السندي في شرحه للحديث.

وكذا ذكر المناوي في فيض القدير أنَّ معناه: إن لم ترغبوا في الخلق الحسن والدين المرضي الموجبَين للصلاح والاستقامة، ورغبتم في مجرد المال الجالب للطغيان: تكن فتنةٌ وفسادٌ كبير في الأرض.

الثالث: أنَّ العملَ بهذا الحديث يكون مع مراعاة ما جاء في النصوص الأخرى، والتي تدل بمجموعها على اعتبار الدين والخلق مضافًا إلى غيرها مِن الصفات المقصودة.

وقريبٌ مِن هذا ما جاء في حث الرجل على اختيار المرأة الصالحة: (فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَدَاكَ)، فإن هذا لا يعني عدم مراعاة الصفات الأخرى فيها.

"فليس أمره صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم بمراعاة الدين نهيًا عن مراعاة الجمال، ولا أمرًا بالإضراب عنه، وإنما هو نهيٌ عن مراعاته مجردًا عن الدين، فإن الجمال في غالب الأمر يُرغِّب الجاهل في النكاح دون التفاتٍ إلى الدين ولا نظرٍ إليه، فوقع النهيُ عن هذا"، كما في إرشاد الساري للقَسْطَلَّاني.

وقال أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين: "وما نقلناه مِن الحث على الدين وأن المرأة لا تُنكح لجمالها: ليس زاجرًا عن رعاية الجمال، بل هو زجرٌ عن النكاح لأجل الجمال المحض مع الفساد في الدين ... ويدل على الالتفات إلى معنى الجمال: أنَّ الأُلفةَ والمودة تحصل به غالبًا، وقد ندب الشرع إلى مراعاة أسباب الألفة، ولذلك استُحب النظر".

وختامًا:

فإنَّ أولَ ما تنظر فيه المرأة إذا تقدم رجلٌ لخِطبتهادينُه وخُلقُه، فإن كان رقيقَ الديانةِ أو سيءَ الخلقِ: فلا ينبغي لها أن ترتبطَ به.

وإن كان مرضيًّا فيهما: نظرتْ في باقي صفاته وخصاله، مِن حيث المستوى التعليمي والوظيفي والمالي، ونَسَبِه وخَلْقه، وغير ذلك، فلها أن تقبلَ ما تراه قريبًا منها متوافقًا معها، وترفض ما لا يناسبها.

مع النصيحة بعدم التعنُّتِ في الشروط والطلبات، والمبالغة في اعتبار الكمال، وغضِّ الطرف عن بعض النقص فيها إذا تحقق الدينُ والخلق؛ لأنّ عليهما مدارَ السعادة والتوفيق في الدنيا والآخرة.

والله أعلم.

 


https://islamicsham.org