حكم الانتفاع بـ "خلِّ النبيذ" الموجود في بلاد غير المسلمين
السؤال:
أعيش في فرنسا ووجدت أنهم يضعون في مكونات الخبز خلَّ الكحول أو خلَّ النبيذ، فهل يحرم أكله؟
الجواب:
الحمدُ لله، والصلاة والسلامُ على رسول الله، أمّا بعد:
فلا حرج من الانتفاع بالمنتجات الغذائية الموجودة في بلاد غير المسلمين والتي يدخل في تكوينها ما يسمى بـ"خلِّ النبيذ" أو "خلِّ الكحول" ما دام قد تحوَّل إلى خلٍّ ولم يبق شيءٌ من خَمريته، وبيان ذلك:
أولًا:
الخل نوعان:
الأول: ما يكون أصلُه من فواكه وأشربة مباحة، كالتفاح أو العنب وغيرهما.
فهذا الخلُّ مباحٌ بإجماع العلماء؛ لما روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نِعْمَ الإدام: الخلُّ).
ولا يضرُّ مرور الخلِّ بالمرحلة الخمرية؛ لأنه لا بدّ منها كي يصبح خلًّا، ثم إنّ هذه المرحلة غير مقصودة ولا مرادة، وقد رخص في ذلك جمهورُ الفقهاء.
قال النووي في روضة الطالبين: "الخمر نوعان، أحدهما: محترمة، وهي التي اتُّخذ عصيرُها ليصير خلًا، وإنما كانت محترمة؛ لأن اتخاذ الخل جائز بالإجماع، ولا ينقلب العصير إلى الحموضة إلا بتوسط الشِدَّة، فلو لم يُحترم وأُريق في تلك الحال، لتعذَّر اتخاذ الخل.
النوع الثاني: غير محترمة، وهي التي اتُّخِذ عصيرُها للخَمرية".
وكذا ذكر الجويني في نهاية المطلب أن: "العصير لا ينقلب من الحلاوة إلى الحموضة من غير توسط الشِدَّة، فإذا انقلبت خمراً، فلا سبيل إلى إتلافها؛ إذ لو أُتلفت، لما تُصوِّر اتخاذُ الخل".
الثاني: أن يكون أصل الخل "خمراً مسكرةً"، وفي هذه الحال:
1- إن تحولت الخمر إلى خلٍّ بنفسها دون معالجة بشرية، فهو خلٌّ مباح عند عامة العلماء؛ لأنَّ الحكمَ يدور مع علّته وجودًا وعدمًا، فحيث زال الإسكار زال حكمُ التحريم.
قال الكاساني في بدائع الصنائع: "إذا تخلّلت بنفسها: يحلُّ شرب الخلِّ، بلا خلاف".
وقال ابنُ قدامة في المغني: "فأما إذا انقلبت بنفسها، فإنها تطهر وتحلُّ، في قول جميعِهم".
وقال ابنُ تيمية في المسائل الماردينية: "الخمر المنقلبة بنفسها تطهر باتفاق المسلمين".
2- وإن تحولت الخمر إلى خلٍّ بمعالجة بشرية، كإضافة بعض المواد، فجمهورُ العلماء على تحريم عملية التخليل؛ لما روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الخمر تُتَّخذ خلًا، فقال: (لا).
وفي رواية أبي داود: أن أبا طلحةَ سأل النبيَّ صلَّى الله عليه وسلم عن أيتامٍ وَرِثُوا خمرًا، قال: (أهْرِقْها) قال: أفلا أجعلُها خَلاًّ؟ قال: (لا).
قال ابن المنذر في الإشراف على مذاهب العلماء: "وقد ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حرَّم الخمر وثمن الخمر، وأمر بصبِّها مع نهيه عن إضاعة المال، فلو كان إلى اتخاذ الخمر خلًّا سبيلٌ لأمر بذلك وأذن لأبي طلحة فيه؛ لأنّ حِياطةَ اليتيم تجب، ويحرم تضييعُ مالِه؛ إذ في حفظ ماله الصلاح، وفي إضاعة ماله المأثم.
فلما أمر بصبِّها دلَّ على أنها ليست بمال؛ لأنّ مَن كان له مالٌ فأتلفه كان مضيِّعاً لماله، ففي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإهراقه الخمرَ، أبينُ البيان على أنها ليس بمالٍ يجوز الانتفاعُ به".
فإن خالف بعضُ الناس وعصى وخلَّل الخمر حتى صارت خلاً، فأقربُ أقوال العلماء إباحةُ الانتفاع به.
عن جبير بن نفير قال: اختلف رجلان مِن أصحاب معاذٍ في خلِّ الخمر، فسألا أبا الدرداء؟ فقال: "لا بأس به". مصنف ابن أبي شيبة.
وفي المدونة الكبرى: "قال مالك: إذا ملك المسلمُ خمرًا أُهريقت عليه ولم يُترك أن يخلِّلها، قلتُ: فان أصلحها فصارت خلًّا، قال: قد أساء، ويأكله، كذلك قال مالك".
وقال ابن حزم في المحلى: "فإذا تخللت الخمر أو خُللت: فالخلُّ حلال".
ثانيًا:
أما الخلُّ الذي يصنعه غيرُ المسلمين، فلا حرج من الانتفاع به أكلًا وشربًا وغير ذلك، طالما زالت عنه علَّة الإسكار؛ لأمور:
1- أنَّ هذا الخلَّ إن كان صُنع مِن الأصل ليكون خلًّا، فهو مباحٌ عند عامة العلماء.
2- وإن كان هذا الخلُّ في أصلِه خمرًا وتحوّل إلى خلٍّ بنفسه، فهو الآن شرابٌ مباحٌ؛ لزوال علَّة الإسكار منه، وهذا باتفاق العلماء.
3- وإن تحوّل إلى خلٍّ بمعالجة بشرية، فقد رخص جمعٌ مِن أهل العلم بالخلِّ الذي يصنعه غير المسلمين ولو كان مِن الخمر.
"وروى أشهبُ عن مالك قال: إذا خلل النصرانيُّ خمرًا، فلا بأس بأكله". التمهيد (4/146).
وقال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: "أما تخليل الذمي الخمرَ بمجرد إمساكها فينبغي جوازُها على معنى كلام أحمد؛ فإنه علّل المنعَ بأنه لا ينبغي لمسلمٍ أن يكون في بيته الخمر، وهذا ليس بمسلم؛ ولأنّ الذميَّ لا يُمنع مِن إمساكها".
4- أنه لا تلازم بين تحريم التخليل وتحريم الخل الناتج من هذا التخليل، والشرع منع من تخليل الخمر، لا مِن الخل الناتج منها.
وهذه الخمر بعد تخليلها انتقلت عينُها إلى شيءٍ آخر وهو الخل، فصار مباحًا؛ إذ لا ضرر فيه ولا إسكار.
قال ابن حزم في المحلى: "وإذا سقطت عن تلك العين صفاتُ الخمرِ المحرَّمة وحلَّت فيها صفاتُ الخلِّ الحلال، فليست خمرًا محرمة، بل هي خلٌّ حلال".
5- أنّ تخليلَ الخمر ليس محرمًا لذاته، وإنما مُنع منه لسببين:
الأول: سدًّا للذريعة؛ حتى لا يكون ذلك سببًا لاتخاذ الناس الخمر تذرعًا بتخليلها، فأغلق الشرع هذا الباب ومنع من اتخاذ الخمر مطلقًا ولو بقصد تخليلها.
قال ابن القيم في إعلام الموقعين: "وما ذلك إلا سدًّا لذريعة إمساكها بكلِّ طريق؛ إذ لو أذن في تخليلِها لحبسها أصحابُها لذلك، وكان ذريعةً إلى المحذور".
الثاني: أنّ المسلم لا يحلُّ له تركُ الخمر في مِلكِه طرْفةَ عَين كما قال إسحاق بن راهويه.
قال الترمذي في السنن: "وإنما كُره مِن ذلك والله أعلم أن يكون المسلم في بيته خمرٌ حتى يصير خلًّا".
وقال ابنُ تيمية في مجموع الفتاوى: "وذلك أنّ الله أمر باجتناب الخمر، فلا يجوز اقتناؤها ولا يكون في بيت مسلم خمرٌ أصلًا".
وكلا المعنيين لا ينطبقان على غير المسلمين الذين يستبيحون الخمر واتخاذَها وشربَها.
6- أنّ تسميةَ "خل النبيذ" لا تعني بالضرورة أنه متّخذٌ مِن الخمر، ففي بعض البلاد يُسمِّي الخلُّ المتّخذ مِن العنب بخلِّ النبيذ، كما قال البيهقي في السنن الكبير: "وأهل الحجاز يقولون لخلِّ العنب: خلّ الخمر".
ومجرد التسمية لا تفيد تحريمًا؛ فالعبرة بحقائق الأشياء لا بأسمائها.
وختامًا:
نسأل الله أن ييسر لكم الرزق الحلال الطيب في المأكل والمشرب.
والله أعلم