أسباب تغير الفتوى
قرر علماؤنا أن الفتوى تتغير بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، وقد عقد ابن القيم رحمه الله في كتابه المميز" إعلام الموقعين" (4/ 337) فصلاً طويلاً في هذا الباب عندما قال :" فصلٌ: في تغيّر الفتوى، واختلافها بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد".
ثم قال:" هذا فصلٌ عظيمُ النفع جدًا، وقع بسبب الجهلِ به غَلَطٌ عظيم على الشريعة أوْجَبَ من الحرج والمشقة وتكليفِ ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي هي في أعلى رُتَب المصالح لا تأتي به.
فإنَّ الشريعة مَبْنَاها وأساسَهَا على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عَدْلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلها، ومصالحُ كلها، وحكمةٌ كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عَدْل اللَّه بين عبادة، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتَمَّ دلالةٍ وأصدقَهَا، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهُدَاه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقُه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل؛ فهي قرّة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح؛ فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكلُّ خيرٍ في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها, ولولا رسومٌ قد بقيت لخَرِبت الدنيا وطُوِيَ العالم، وهي العصمة للنَّاس وقوام العالم، وبها يمسك اللَّه السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد اللَّه سبحانه وتعالى خرابَ الدنيا وطَيَّ العالم رَفَع إليه ما بقي من رسومها؛ فالشريعة التي بعث اللَّه بها رسولَه هي عمود العالم، وقطب رحى الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.
ونحن نذكر تفصيل ما أجملناه في هذا الفصل بحول اللَّه وتوفيقه ومعونته بأمثلة صحيحة"، انتهى.
ثم شرع بذكر الأمثلة على هذه القاعدة بأمثلة عديدة، وبكلام مطوّل مؤصّل مفصّل.
وقال أيضاً في"إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان"(1/ 570):" الأحكام نوعان:
نوعٌ لا يتغير عن حالةٍ واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة، ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرَّمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك. فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وُضع عليه.
والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكانا وحالاً، كمقادير التّعْزيراتِ، وأجناسها، وصفاتها؛ فإن الشارع يُنوِّعُ فيها بحَسْبِ المصلحة..."، انتهى.
ثم فصَّل في مقادير التعزيرات واختلافها في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده الصحابة رضي الله عنه بما تقتضيه المصلحة.
وقال القرافي المالكي في"الإعلام في تمييز الفتاوى عن الأحكام" ( ص 111):" إنَّ إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع، وجهالةٌ في الدين، بل كلُّ ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة" انتهى.
وعندما ينسب تغير الفتوى إلى الزمان والمكان، فليس معنى ذلك أنهما المؤثران في التغير كما يريده أويظنه أهل الجهل والهوى، وكأنَّ الزمان المجرد أو المكان المجرد هما سبب تغيير الفتوى، ولكن لما كان الزمان والمكان أوعية للأحداث والأفعال والتغيرات والعوائد والأعراف نُسب التغير للزمان والمكان، وهذا يطلق عليه في عرف البلاغيين مجاز مرسل علاقته الظرفية.
وعواملُ التغير إما سببها فساد الناس، أو تغير حياتهم بين الجوع والقحط والفقر والغنى، مما يقدره الله سبحانه، أو يكون سببه تطور أساليب الحياة ووسائلها، مما يؤدي إلى تغير عادات الناس وأعرافهم.
وأحيانا يكون التغير متعلقا بالحكم وتحقيق مناطه، فتتغير العلة مما يؤدي إلى تغير الحكم، والحكم يتبع العلة وجودا وعدما، وأحيانا قد تتخلف الشروط أو الموانع وغير ذلك.
وسنذكر أهم الأسباب التي تتغير بها الفتوى:
أولا: تغير الأحوال
سواء كان التغير بسبب من الناس أو كان بسبب خارج عن قدرتهم واختيارهم.
ومما ذكر في هذا الباب:
1- تضمين الأجير المشترك كالخياط والصباغ والكواء، فإنَّ الأصل أنه أمين، لا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير، ثم قرر الصحابة أن يضمنوه نظراً لكثرة الادعاء بهلاك ما في يده، ومحافظة على أموال الناس.
2- الشهود شرطهم العدالة، ولكن لما ندرت العدالة وعزت في الأزمان المتأخرة قبلوا شهادة الأمثل فالامثل، والأقل فجورا فالأقل.
3- وقالوا نظير ذلك في القضاة وغيرهم، إذا لم يوجد العدل أقمنا اصلحهم وأقلهم فجورا، لئلا تضيع المصالح، وتتعطل الحقوق والأحكام، فقد حسن ما كان قبيحا، واتسع ما كان ضيقا، فإن خيار زماننا هم أراذل أهل العصر الأول.
ثانيا: اختلاف العوائد والأعراف
العوائد والأعراف والتي تعارف الناس عليها في معاملاتهم، مما لا يخالف الشرع، لها اعتبار في الأحكام.
قال القرافي في"الفروق" (1/ 176):" فمهما تجدَّد في العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجلٌ من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تُجْرِه على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده واجْرِه عليه وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحقُّ الواضح، والجمود على المنقولات أبدا ضلالٌ في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين، وعلى هذه القاعدة تتخرج أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات، فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى النية"،انتهى.
ونقل ابن القيم كلام القرافي السابق في"إعلام الموقعين"(4/ 470)، ثم قال:" وهذا محض الفقه، ومَنْ أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عُرْفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضلَّ وأضل، وكانت جنايته على الدين أعْظَمَ من جناية من طَبَّبَ الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطبِّ على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضَرُّ ما على أديان الناس وأبدانهم واللَّه المستعان"، انتهى.
وقد مثل ابن القيم لذلك بإخراج زكاة الفطر مما اعتاده الناس من قوت البلد.
قال ابن القيم في"إعلام الموقعين"(4/ 353):" وهذه كانت غالب أقواتهم بالمدينة، فأما أهلُ بلدٍ أو محلة قوتُهم غيرُ ذلك فإنما عليهم صاع من قوتهم، كمن قوتهم الذرة أو الأرز أو التين أو غير ذلك من الحبوب، فإن كان قوتهم من غير الحبوب كاللبن واللحم والسمك أخرجوا فِطرَتَهم من قوتهم كائنًا ما كان، هذا قول جمهور العلماء، وهو الصواب الذي لا يقال بغيره؛ إذ المقصود سَدُّ خَلَّة المساكين يوم العيد، وموَاساتهم من جنس ما يقتاته أهلُ بلدهم"انتهى.
ثالثا: المصلحة
المصلحةُ لها أثر في تغير الفتوى، والمقصود هنا بالمصلحة هي المرسلة، فإنَّ المصلحة باعتبار الحكم الشرعي على ثلاثة أقسام:
1- المصالح المعتبرة شرعاً : وهي التي تظافرت الأدلة على رعايتها، فهي حجة صحيحة لا خلاف بين أهل العلم في إعمالها, وذلك كأن ينص الشارع على حكم، ويجعل مناط الحكم تحقيق مصلحة ما,أو دفع مفسدة ما .
2- المصالح الملغاة شرعاً :وهي المصالح التي شهد الشارع بردها وأقام الأدلة على إلغائها ،وهذا النوع من المصالح لا سبيل لقبوله، ولا خلاف في إهماله عند الجميع.
3- المصالح المرسلة: وهي التي لم يقم دليل من الشرع على اعتبارها، ولا على إلغائها وسميت مرسلة لأن الشارع أرسلها فلم يقيدها باعتبار ولا إلغاء .
وغالبا ما تستعمل المصلحة في باب السياسة الشرعية من إمام المسلمين المجتهد كما كان يفعله الخلفاء الراشدون وخاصة عمر الفاروق رضي الله عن الجميع.
ومما يذكر في هذا الباب:
1- إيقاع عمر رضي الله عنه الطلقات الثلاث في مجلس واحد بينونة كبرى من باب العقوبة والزجر، فأصبح الآن من المصلحة أن لا يقع وهذا الذي رجعت إليه كثير من المحاكم الشرعية في كثير من البلاد الإسلامية.
وممن نصر هذا الأمر شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم الذي استفاض في الكلام على هذه المسألة في كثير من كتبه وخاصة في "إعلام الموقعين" عندما قال في (3/ 408):" وإذا عرف هذا فهذه المسألة مما تغيرت الفَتْوَى بها بحسب الأزمنة كما عرفت؛ لما رأته الصحابة من المصلحة؛ لأنهم رأوا مَفْسَدة تتابع الناس في إيقاع الثلاث لا تندفع إلا بإمضائها عليهم، فرأوا مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الوقوع، ولم يكن باب التحليل الذي لَعَنَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاعله مفتوحًا بوجه ما، بل كانوا أشد خلق اللَّه في المنع منه، وتوعد عمر فاعله بالرجم، وكانوا عالمين بالطلاق المأذون فيه وغيره" انتهى.
2- ومما يدخل في هذا الباب تغير التعزير وصفا وعددا، فإن ابن القيم ذكر ذلك في معرض كلامه عن المتغير من الأحكام بسبب المصلحة.
قال في"إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان" (1/ 570):" الأحكام نوعان:
نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة، ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرَّمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك. فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وُضع عليه.
والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكانا وحالاً، كمقادير التّعْزيراتِ، وأجناسها، وصفاتها؛ فإن الشارع يُنوِّعُ فيها بحَسْبِ المصلحة:
فشرعَ التعزيرَ بالقَتْلِ لمدمِن الخمر في المرَّة الرابعة. وعَزَمَ على التعزير بتَحْريق البيوت على المتخلِّف عن حضور الجماعة ، لولا ما منعه من تَعَدِّي العقوبة إلى غير مَنْ يَستَحِقّها من النساء والذّرية.
وعَزّرَ بحِرْمان النصيب المستحَق من السّلَب . وأخبر عن تعزير مانع الزكاة بأخذ شَطْرِ ماله.
وعَزّر بالعقوبات المالية في عدّة مواضع. وعَزّر مَنْ مَثّل بعَبْدِه بإخراجه عنه وإعتاقه عليه.
وعَزّر بتَضْعِيف الغُرْم على سارق ما لا قَطْع فيه، وكاتم الضالّة. وعزر بالهجر ومَنعْ قربان النساء.
ولم يُعرف أنه عَزّر بدِرّة، ولا حَبْسٍ، ولا سَوْطٍ، وإنما حَبَس في تُهمةٍ لِيتبيّن حال المتهم.
وكذلك أصحابه، تنوّعوا في التعزيرات بعده:
فكان عمر رضي الله عنه يحَلق الرأس، وينفي، ويضرب، ويُحرق حوانيت الخمَّارين، والقرية التي تُباع فيها الخمر، وحرق قصر سعدٍ بالكوفة لما احتجب فيه عن الرعية .
وكان له رضي الله تعالى عنه في التعزير اجتهادٌ وافقه عليه الصحابة لكمال نُصْحه، ووفور عِلْمِه، وحسن اختياره للأمّة، وحدوث أسبابٍ اقتضت تَعْزيره لهم بما يَرْدَعهم، لم يكن مثلها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ كانت، ولكن زاد الناس عليها وتتايعوا فيها.
فمن ذلك: أنهم لما زادوا في شرب الخمر، وتتايعوا فيه، وكان قليلاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جعله عمر رضي الله عنه ثمانين، ونفى فيه.
ومن ذلك: اتخاذه دِرّة يضرب بها من يستحقُّ الضرب.
ومن ذلك: اتخاذه دارًا للسَّجن.
ومن ذلك: ضربه للنوائح حتى بدا شَعْرها.
وهذا باب واسع، اشتبه فيه على كثيرٍ من الناس الأحكامُ الثابتة اللازمة التي لا تتغير، بالتعزيرات التابعة للمصالح وجودًا وعدمًا.
ومن ذلك: أنه رضي الله عنه لما رأى الناس قد أكثروا من الطلاق الثلاث، ورأى أنهم لا ينتهون عنه إلا بعقوبة، فرأى إلزامهم بها عقوبةً لهم، ليكفّوا عنها"انتهى.
رابعا: تغير الأشخاص
الأشخاص يختلفون فيما بينهم قوة وضعفاً، وغنىً وفقراً، واختيارا واضطرارا، ولذا فإن الشارع الحكيم راعى هذا الجانب ،ولكنه لم يخص أحداً لشخصه ،وإنما لوصفه .
- ويدل لذلك حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال كانت بي بواسير ،فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة ،فقال: " صل قائماً ،فإن لم تستطع ،فقاعداً ،فإن لم تستطع ،فعلى جنب".أخرجه البخاري.
- ومما يدل على ذلك ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذنت سودة النبي صلى الله عليه وسلم ليلة جمع ،وكانت ثقيلة ثبطة ،فأذن لها. متفق عليه.
- ومن ذلك عدم التوقيت في المسح على الخفين للبريد. كما في"مجموع الفتاوى"(21/215-217).
- ومن ذلك تأجيل إقامة الحدّ على المريض حتى يبرأ."الموسوعة الفقهية"( 17/146).
- ومن ذلك اعتبار المقاصد والنيات في ألفاظ الأيمان والطلاق غير الصريح.