حكم أخذ الزكاة عنوة والاختطاف لتمويل الكتائب
الكاتب : المكتب العلمي ـ هيئة الشام الإسلامية
الاثنين 23 يوليو 2012 م
عدد الزيارات : 84153

 

السؤال:

يقوم بعض المنتسبين للثورة باختطاف أولاد الأغنياء، ويزعمون أن عندهم فتوى تجيز للحاكم أخذ المال من الأغنياء بالقوة من أجل الجهاد ولو كان عن طريق الخطف، ويذكرون فيها أنَّ أهل الشام أفتوا للمظفر قطز بجواز الأخذ من أموال الناس لتمويل الجيش، ويقولون بأنَّ قادة المسلحين يقومون مقام الحاكم في ذلك. فهل ما يقوم به هؤلاء المختطفون سائغ، وما يستدلون به على أفعالهم هذه صحيح؟ أفتونا مأجورين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أولاً: لا ريب أنَّ بذل المال في سبيل الله من أجلِّ القربات إلى الله عز وجل، بل هو الآن من الجهاد الواجب على كل مستطيع لنصرة المسلمين المستضعفين والمجاهدين في سورية، قال تعالى:{وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41]. وقد حملت الأخبار ما يثلج الصدر ويقر العين من نصرة إخواننا التجار للثورة ببذل أموالهم في أوجه الخير، وإرخاص السلع تخفيفًا على الناس، والمشاركة في الإضراب تضامنًا مع المستضعفين، مع ما في ذلك من المخاطرة بأنفسهم وممتلكاتهم.
ثانياً: الأصل في تمويل الجيوش والمجاهدين أن يكون من خزينة الدولة، ومن بذل الناس وإنفاقهم بطيب نفس، وهذه هي سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسنة الصحابة الكرام وأهل العلم والجهاد من بعده. ولم يُؤثر عنه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه أجبر أحدًا على التبرع، أو أخذ ماله غصبًا دون إذن حتى في أشد أوقات الحاجة؛ فمع حشد الروم في تبوك لغزو المسلمين، وشدة الحاجة، وقلة المؤونة، وبقاء عدد من الصحابة دون عتادٍ أو دابة يركبونها -حتى سميت هذه الغزوة بـ ( غزوة العسرة)- لم يفرض النبي -صلى الله عليه وسلم- على أحد من التجار شيئًا.
بل كان من سنته - صلى الله عليه وسلم - أنَّه إذا احتاج شيئًا، ولم يجد عنده ما يكفيه، استدان إلى أن تأتيه الصدقة، فقد ورد في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنَّه قال: (جَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشًا عَلَى إِبِلٍ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ حَتَّى نَفِدَتْ وَبَقِيَ نَاسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اشْتَرِ لَنَا إِبِلًا مِنْ قَلَائِصَ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ إِذَا جَاءَتْ حَتَّى نُؤَدِّيَهَا إِلَيْهِمْ، فَاشْتَرَيْتُ الْبَعِيرَ بِالِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثِ قَلَائِصَ حَتَّى فَرَغْتُ، فَأَدَّى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ) رواه أحمد وغيره.
ثالثًا: إذا خلت خزينة الدولة من المال وتقاعس أرباب الأموال عن واجبهم في تمويل وتجهيز المجاهدين، فقد أجاز بعض أهل العلم للحاكم إجبارهم على ذلك عند الحاجة. قال نجم الدين الحنفي في كتابه "تحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك": "إذا دعت الحاجة إلى تجهيز الجيش، فإن كان في بيت مال المسلمين مالٌ ... فلا ينبغي للإمام أن يتحكَّم على أرباب الأموال فيأخذ شيئاً منهم من غير طيب أنفسهم، فإنه حرام. فإن لم يكن في بيت المال مالٌ، فلا بأس بأن يتحكم الإمام على أرباب الأموال بقدر ما يتقوى به الذين يخرجون إلى الجهاد". انتهى بتصرف يسير.
رابعًا: إجبار الناس على تمويل الجيش والمجاهدين عند الحاجة، أو على فعل الواجبات المتعلقة بحقوق الغير كأداء الزكاة ونحوها، مخصوص بالحاكم المتمكن في سلطانه، فإنَّ للسلطان والحاكم في الشرع ما ليس لغيره. فإذا فُقد هذا الحاكم، فتنتقل سلطته -استثناءً من هذا الأصل- إلى أهل العلم والرأي من وجهاء الناس ممن يُسلِّم الناس بحكمهم، وينزلون عند رأيهم لقوتهم وأمانتهم، ويكون حكمهم خاصة في المسائل التي يترتب على تعطيلها وقوع مفسدة عظيمة أو فوات مصلحة عظيمة، وذلك بعد النظر في المآلات والعواقب، وليس في كل الأمور التي يختص بها الحاكم الشرعي؛ فإن الضرورة تُقدَّر بقدرها.
وبالنظر إلى سؤال السائل لا نرى شيئاً من ذلك متحققًا، فلا يُعرف حال الذين صدرت عنهم الفتوى، ولا يُعلم أن الألوية والكتائب الكبيرة التي لها شوكة ومنعة أيَّدتها، بل هو فعل بعض الأفراد والمجموعات الصغيرة مستندين إلى قوة السلاح والتهديد، وفرقٌ بين ما يفرضه الحاكم بقوته وسلطانه، وبين ما يفرضه هؤلاء بقوة سلاحهم وتهديدهم.
كما أنَّ الحصول على التمويل للمجاهدين غير متعذِّر، بل هو موجودٌ ولله الحمد والمنة، وقد بذل التجار والناس في الداخل والخارج من ذلك الكثير، فلا حجة ولا حاجة لهذه الأساليب والطرق، بل قد يؤدي هذا الأمر إلى عكس المقصود؛ إذ قد يتردد بعض مَن يدعم المجاهدين طواعية إذا انتشرت مثل هذه الأقوال والأفعال المستنكرة.
خامسًا: أما الاختطاف من أجل الحصول على فديةٍ من هؤلاء التجار، فإنَّه منكرٌ وبغيٌ وظلمٌ واعتداءٌ على الناس الآمنين، ومن أفتى به فقد قال منكرًا من القول وزورًا. 
     وهذا الفعل الشائن فيه محاذير ومنكرات عدة:
1_ أخذ أموال الناس بغير حق، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلَّم: (إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ) رواه البخاري.
2_ ترويعٌ للمؤمنين الآمنين، ولا يَحِلُّ ذلك في دين المسلمين، قال رسولُ الله صلى اللهُ عليه وسلّم: (لا يَحِلُّ لمسلمٍ أنْ يُرَوّعَ مسلماً) رواه أبو داود.
3_ حملُ السلاحِ على المسلمين، وفي الحديث الصحيح: (مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا) رواه البخاري ومسلم.
4_ تفريقُ جماعةِ المسلمين، ونشرُ الفتنة بينهم، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ) رواه مسلم.
5_ إساءة للمجاهدين الصادقين ولهذه الثورة المباركة، مما يجعل الأغنياء يتراجعون عن دعمها.
6_ تشبه بأفعال النظام وشبيحته، وبأفعال المجرمين الذين استغلوا هذه الفوضى الأمنية فاعتدوا على الناس، فخطفوا أبناءهم وسياراتهم وغير ذلك لطلب الفدية. بل قد يصل الأمر إلى درجة الحرابة والإفساد في الأرض، فيكون الخاطف بقوة السلاح من أجل المال محارباً لله ورسوله بإيذاء هؤلاء الآمنين. فيجب على هؤلاء التوبة إلى الله، والإقلاع عن هذه الأعمال المشينة.
سادساً: وأما ما جاء في السؤال من إفتاء علماء الشام للمظفر قطز بجواز أخذ المال من الأغنياء: فالصحيح أنَّ المظفر قطز جمع العلماء واستشارهم في الأمر فقال العز بن عبد السلام رحمه الله: "إنَّه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على العالم قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وتبيعوا مالكم من الحوائص المذهَّبة والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على مركوبه وسلاحه ولتساووا هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة مع بقايا في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا. وانفض المجلس على ذلك". انتهى من "النجوم الزاهرة".
ولا حجة في هذه الحادثة لموضوع السؤال، فالذي أفتى بذلك هو سلطان العلماء في زمانه، فأين هذا من حال الذين تفردوا بالفتوى المذكورة دون أهل العلم المشهود لهم؟ ثم إن المظفر قطز كان حاكمًا شرعيًا له الشوكة والسلطة والمنعة، فلو فَرَض ذلك  فبما له من ولاية وسلطان على الناس وليس بالسلاح والخطف والتهديد.
وتأمل كم وضع العز بن عبد السلام -رحمه الله- من القيود والشروط، وتشدد في الأمر مراعاة للأصل المحكم من حرمة الأموال، وهذا فعل العلماء الربانيين. وسياق القصة يدل على انفضاض المجلس دون إجازة الأمر.
سابعاً: يجب على الثوار الصادقين المجاهدين أن ينصحوا أصحاب هذه الأفعال المستنكرة، وأن يحذروهم من عواقبها، فإن أصروا عليها فيجب ردعهم بالقوة. كما ننصح من تجرَّأ على هذه الفتوى أن يتقي الله، وأن يرجع عنها ويعلن توبته منها، وألا تأخذه العزة بالإثم، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: (خَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ).
نسأل الله تعالى أن ينصر المجاهدين في سبيله، وأن يغنيهم من فضله، ويرزقهم خشيته ومراقبته، ويهدي ضالَّ المسلمين، ويردَّهم إليه ردًا جميلاً، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


https://islamicsham.org