مسيرة الدستور في سوريا
الدستور كلمة فارسية أدخلت على اللغة العربية من خلال اللغة التركيَّة، وتُنْسب البداية الأولى لظهور الدستور كما هو متعارف عليه قانونيَّاً إلى القرن الثالث عشر، وبالتحديد إلى سنة 1215م، وذلك حينما منح الملك (جون ستير ت 1216م) الميثاق الأعظم والمعروف بماغنا كارتا للنبلاء الإنجليز الثائرين عليه، وتنظم هذه الوثيقة العلاقة بين القوى الرئيسيَّة الثلاث في إنجلترا، وهي الملك والبارونات والكنيسة، وتلزم هذه الوثيقة الملك بالقانون الإقطاعي وبالمحافظة على مصالح النبلاء.
في حين ظهرت أول الدساتير المكتوبة في المستعمرات البريطانيَّة بأمريكا الشماليَّة بعد الانفصال عن إنكلترا، كدستور ولاية فرجينيا عام 1776م وعدد من الدساتير الأمريكية المحلية، ليصدر بعدها الدستور الاتحادي للولايات المتحدة الأمريكية سنة 1787م، ثم تلتها فرنسا بعد المصادقة على إعلان حقوق الإنسان من طرف الجمعية الوطنية عام 1789م، مصدرةً أول دستورٍ مكتوب سنةَ 1791م.
أمَّا في البلدان العربية فقد جاءت فكرة إنشاء الدساتير وكتابتها متأخرة عن الغرب، وارتبطت معظمها بظروف الاستعمار أو بمرحلة ما بعد الاستقلال، باستثناء بعض التجارب، وكانت تونس من أوائل الدول العربيَّة التي كتبت دستورًا سنة 1861م.
كيف ينشأ الدستور؟
هناك أساليب متعددة لإنشاء الدستور منها:
1-أسلوب المنحة: يصدر الدستور في شكل منحة إذا تنازلت المؤسسة الحاكمة بإرادة منفردة عن بعض سلطاتها لإنشاء دستور للدولة.
2-التعاقد: وينشأ بناءً على اتفاق بين الحاكم من جهة والشعب من جهة أخرى، بحيث تنتفي صفة التفرُّد بوضع الدستور، ويصعب على طرف واحد إلغاؤه أو تعديله.
3-الجمعية التأسيسية: يصدر الدستور وفقًا لأسلوب الجمعية التأسيسية عن طريق مجلس أو جمعية منتخبة توكل إليها مهام وضع الدستور.
4-الاستفتاء الشعبي: في هذه الحالة يكون الشعب هو مصدر الدستور، حيث يوكل الأمر إلى جمعية منتخبة أو لجنة تضع مشروع الدستور ثم يجري عليه بعد ذلك استفتاء شعبي دستوري لأخذ رأي الشعب فيه.
أما بالنسبة إلى الدستور في الدولة السوريَّة ونشأته، فقد مرَّ بمراحل عديدة هي:
دستور الملك فيصل: إذ قامتْ لجنةٌ مقترحة من الأمير (فيصل بن الحسين ت 1933) مؤلفة من عشرين عضوًا يرأسها (هاشم الأتاسي ت 1960م) أواخر حزيران من عام 1919م بوضع مشروع دستور مؤلف من 147 مادة.
صدر هذا الدستور رسميًّا في 13 تموز من عام 1920م تحت اسم (دستور المملكة السوريَّة العربيَّة) أو (دستور الملك فيصل) وطبق لمدة 15 يومًا فقط بسبب تلاحق الأحداث التي بلغت ذروتَها مع (إنذار غورو) واحتلال الفرنسيين جنوب دمشق في 25 تموز، ثم نفي الملك فيصل في 28 من الشهر نفسه.
دستور مرحلة الانتداب: أعلن عام 1928م دستور جديد للبلاد بتوصية من المفوض السامي الفرنسي (هنري بونسو ت 1963م) في محاولة لامتصاص الغضب والمقامة الشعبيَّة ضدَّ الاحتلال الفرنسي، وقد عقدت الجمعيَّة خمس عشرة جلسة، وطرحت التصويت عليه، لكن الفرنسيين اعترضوا على بعض المواد لأنها تتحدث عن استقلال سوريا وسيادتها، ولم يوافقوا عليه حتَّى أضافوا إليه المادة 116 التي ألغوا من خلالها المواد التي لم يوافقوا عليها أولاً.
استمرَّ العمل بهذا الدستور إلى 30 آذار 1949م حيث حدث الانقلاب العسكري الأول بقيادة (حسني الزعيم ت 1949م) الذي عطل العمل بهذا الدستور.
دستور 1950م: استمرَّت الجمعيَّة التأسيسية الموكل إليها العمل على صياغة الدستور بالعمل بعد انقلاب (أديب الشيشكلي ت1964م) ليتمَّ إقرار الدستور نهائياً في 5 أيلول عام 1950 م مؤلفاً من 166 مادة.
وقد عزَّز هذا الدستور من سلطة القضاء، ورسَّخ بنية النظام الجمهوري البرلماني، كما حصلت المرأة فيه على حق الانتخاب، وذلك قبل كثير من الدول الأوروبية، ما يوحي بحيوية المجتمع آنذاك ورغبته في العناية بالحريات، ولقد كان هذا الدستور هو الوحيد الذي صيغَ من قبل جمعيَّة تأسيسية وأعيد العمل به مرَّتين.
دستور الشيشكلي 1952م: بعد قيامه بانقلابه الثاني وضع الشيشكلي مشروع دستور باسم المجلس العسكري الأعلى، وجرى في 10 تموز عام 1952م استفتاء عام تم بنتيجته تنصيب الشيشكلي رئيساً للجمهوريَّة، والموافقة على الدستور الذي يقيم نظامًا رئاسيًّا.
ثم خُلِعَ الشيشكلي في 25 شباط 1954 وغادر البلاد، وتسلم (هاشم الأتاسي) رئاسة الدولة، واستؤنف العمل بدستور 1950 م لتعيش سوريا تجربة برلمانية حرة استمرت 4 سنوات حتى الوحدة مع مصر.
دستور الوحدة مع مصر: في عام 1958م أعلن (جمال عبد الناصر ت 1970م) الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة المؤلف من 73 مادة، ما اعتبر نهايةً للنظام البرلماني في سوريا وإقامة نظام رئاسي يعطي رئيس الجمهورية صلاحيات كبيرة.
دستور الانفصال: في عام 1961م وقع انقلاب في سوريا بقيادة عبد الكريم النحلاوي أدى للانفصال عن مصر، وتم وضع دستور مؤقت للبلاد، وبعد أن انتُخِبَ (ناظم القدسي ت 1998م) رئيساً للجمهورية أقر إعادة تطبيق دستور 1950م مع بعض التعديلات.
دساتير مرحلة البعث
الدستور الأول عام 1964: في 8/3/1963م وقع انقلاب عسكري بقيادة ضباط حزب البعث، وفي 25/4/1964م وضع دستور مؤقت أعد على عجل بعد الاضطرابات والمظاهرات التي شهدتها المدن السورية عقب أحداث حماة في نيسان 1964م.
الدستور الثاني عام 1966 م: في 23/2/1966م وقع انقلاب أحاط بالحكومة التي عينتها القيادة القومية، وصعد (حافظ الأسد ت 2000م) ليصبح وزيرًا للدفاع، وأذيع قرار القيادة القطرية رقم 2 الذي يعد بمنزلة الدستور.
الدستور الثالث 1969م: في أواخر آذار 1969 م عقد المؤتمر القطري الرابع الاستثنائي لحزب البعث، وقرر إصدار دستور مؤقت لحين إصدار دستور دائم، وقد صدر الدستور المؤقت في 1/5/1969م.
الدستور الرابع 1971م: في 16/11/1970م أذيع بيان تسلم حافظ الأسد للسلطة، فقام بتعيين قيادة قطرية مؤقتة لحزب البعث أصدرت لاحقًا الدستور المؤقت لعام 1971 م.
الدستور الخامس 1973م: هذا الدستور لم يوضع من قبل جمعية تأسيسية منتخبة من الشعب لهذه المهمة، وإنما وضع من قبل الحكومة حكومة استولت على الحكم بانقلاب عسكري، وقامت هذه الحكومة بتعيين مجلس أطلقت عليه اسم مجلس الشعب وكلفته بالمصادقة على الدستور.
برزت مشاكل متعددة حول الدستور منها ما يتعلق بالأسد كونه علويًّا، فلجأ حافظ إلى صديقه الزعيم الشيعي (موسى الصدر) فأصدر له في تموز 1973م فتوى تقول إن العلويين مسلمون وهم طائفة من الشيعة.
اشتمل هذا الدستور على سلطات لا نهائية للرئيس إلى درجة أن المادة الثالثة والتسعين تذكر أن الرئيس يضمن بقاء الدولة!
بقي هذا الدستور الجائر يحكم سوريا حتى عام 2012 م.
دستور 2012م: مع انطلاقة الثورة السورية ضد النظام القمعي أصدر بشار الأسد في 22/4/2011م قرارًا ينهي فيه العمل بحالة الطوارئ، كما أصدر ثلاثة مراسيم أخرى تقضي بإلغاء محكمة أمن الدولة العليا، وتنظيم حق التظاهر السلمي، واختصاص الضابطة العدلية باستقصاء الجرائم والاستماع للمشتبه بهم.
وفي 15/10/2011 أصدر بشار الأسد المرسوم 94 القاضي باعتماد الدستور الجديد الذي يعرف بدستور 2012م.
حافظ الدستور الجديد على أغلب مواد دستور 1973م، ووصفه بعضهم بأنه تنقيح للدستور أكثر من كونه دستورًا جديدًا، كما أضاف الدستور الجديد سلطات واسعة جديدة لرئيس الجمهورية.