جحيم الإبادة
يقول الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو في كتابه "مدن خفية"، على لسان ماركو بولو: "الجحيم هو الذي نعيشه كلّ يوم، هو الذي نشكّله معاً، وثمّة طريقان للهروب منه. الأول سهل لكثيرين (اقبل الجحيم، وتحوّل إلى جزء منه بحيث لا يمكنك رؤيته). الثاني محفوف بالمخاطر ويتطلّب يقظة وحذراً دائمَين: (اسعَ وتعلّم أن تدرك في وسط الجحيم ما ليس بجحيم، ومن ليسوا بجحيم، ودعهم يدومون، وأفسح لهم الطريق).
يكون القبول بالجحيم إرادياً، وإن لم ترافقه قناعة تامة بالفعل، وهو حال معظم مؤيدي الأنظمة الاستبدادية الحاكمة، حيث يسلّمون بمقدرة تلك الأنظمة على الرؤية الحكيمة للأمور، تحت وطأة الإيمان الشديد بالقدر وألوهية الحاكم. ويبعث هذا الإيمان السلام الداخلي في نفوس هؤلاء، ويلقي عن أكتافهم عبء التّفكير والرّغبة في التّغيير أو تطوير حياتهم، ليقينهم أنّ كلّ شيء قضاء وقدر، ويثاب المرء بأعماله يوم القيامة. وقد تصل قناعتهم تلك إلى حدّ بذل الروح في سبيل قضايا خاسرة، تصبح من وجهة نظرهم ضرورة حتمية، أو تاريخية، ما دامت بإرادة الطاغية ورغبته!
سهولة الانقياد إلى الحاكم المستبد، وتصديق وعوده، والإيمان بها، لا تقتصر على هذه الفئة من البشر، بل أيضاً على الذين تحرّكهم مصالحهم، فيرونها في ظلّ الحكم الاستبدادي. يشكل هؤلاء خطراً أكبر، فهم في مواجهةٍ صريحةٍ مع الوجود من حولهم، ولا أمل في تراجعهم، أو تطويعهم، ولا يمكن المراهنة على صحوة مفاجئة لضمائرهم، فهم يمتلكون وعياً أكبر مما لدى الفئة الأولى، ويعرفون موقع خطاهم كما يدركون النذالة المتأصّلة فيهم، ويعملون من منطلقها.
وفئة قليلة تحافظ على المنظومة الأخلاقية المثالية التي يمكنها أن ترتفع بالمجتمع، وتحافظ على سوية عالية في الإنتاج والتّقدم، تبحث تلك الفئة من الشباب المتنوّر عن النقاء والحريّة في مجتمع تأصل فيه الفساد، وغرق في مستنقع الاستعباد، البحث وسط الجحيم عن الحريّة يعني أن يكون المرء مستغنياً عن حياته، وعن المكتسبات التي يمكن أن ينالها من السّلطة، لينقّب وسط تلك البيئة الفاسدة عمّا هو غير فاسد، ويصنع منه نواة لثورة تنسف الوضع القائم، وتستبدل به العمل على إيجاد مدينةٍ فاضلةٍ ليست مثاليةً متطرفةً على طريقة أفلاطون، وليست واقعية متطرّفة على طريقة ابن خلدون، يحتاج الشباب المتنوّر إلى وسطية في الحلم، ووسطية في التنفيذ، بعيداً عن العصبية التي رآها ابن خلدون سبباً مهماً في نجاح أيّ ثورة، حين قال: "على الثائر أن يدرس وضع الثورة واحتمالات الفشل والنّجاح، قبل القيام بها فإن كان أتباعه، وقوة عصبيتهم، أضعف من المهمة، فالأفضل له أن يقعد في بيته، ويكفّ عن التّفكير في الثورة". وبهذا ذهب بعيداً في تثبيط الهمم وإفساح الطريق أمام القلة النّقية للظهور.
وقد تبدو أحلام الشباب داخل الجحيم طوباوية، وغير قابلة للتنفيذ في واقع الحرب الحاصلة في سورية مثلاً. مع هذا، هناك من بدأ يبحث وسط الجحيم عن المختلف والكامن، بغض النظر عن العدد والعدة، واكتفى بالاستعداد لمواجهة الإبادة، بوجوهها العديدة، وأولها الإبادة العرقية وإبادة المدن.
تقوم الحكومات المستبدة بإزالة العوالق من طريقها، لكي تغرق الشعب في الجحيم، وهي مطمئنة إلى خنوعه واستسلامه ورضاه. وتتمثل تلك العوالق في المفكرين والكتّاب والشباب الثائر. ويتم اعتقال هؤلاء، وتصفيتهم جسدياً بقتلهم تحت التعذيب في المعتقلات. كما تقوم الفصائل المسلحة التي اخترقت السلطة معظمها، وأوجدت آخرين بإتمام المهمة بمعارك جانبية وتصفيات جسدية واغتيالات، وأيضا بابتداع معتقلاتها الخاصة.
ولم تعد الإبادة مقتصرةً على السلطات وقيادات الفصائل المتصارعة، بل تعدّتها إلى الأفراد، فكثرت حوادث الخطف والقتل في الشّمال السّوري، ما يؤكد أنّ السلطة سلّمت مقاليد الأمور لخلفائها في الأرض المحرّرة، كي يقوموا بمهمتها هناك، غيّرت الأساليب من القصف الجوي والمدفعي إلى التفجيرات والاغتيالات والخطف بغرض الفدية، وخطف العائلات، وسرقة الممتلكات علنا.
ولم يكتفِ النظام المستبد بمساعدة الاحتلالات المختلفة في التّجربة السورية بتدمير المدن الثائرة، بل عمل أيضاً على تغيير ديمغرافي جذري، بإفراغ محيط العاصمة دمشق من السكّان، وتدمير مدن الغوطة وقراها توطئةً لإعادة إعمار تلك الأماكن وتأهيلها بسكّان مختلفي الجنسيات، يُمنحون الجنسية السورية، وطرد الأكراد من مناطقهم في الشمال لإحلال سكّان الريف الدمشقي مكانهم. رافق ذلك تدمير أحياء تعدّ من النّسيج الأساسي داخل العاصمة دمشق، وأهمها مخيم اليرموك. وتهدف هذه الإبادة الأكثر وحشية إلى محوِ الذاكرة المكانية بقتل الأفراد وتغيير معالم المدن. وهي السياسة التي اتبعها حافظ الأسد في الثمانينيات في حماة، حين دمرت أحياء وأقيم مكانها أحياء لا تشبه حماة الحاضرة في ذاكرة من بقوا على قيد الحياة، والذين لن يطول الزمن بهم، وحين يرحلون لن تبقى ذاكرة تحمل ملامح حماة القديمة سوى ذاكرة الورق. الذاكرة الأكثر خطورة على السلطات.
لا تكون مواجهة هذا النوع من الإبادة والحد منه بالحلول السلمية التي سلكها الثوار في بداية الثورة، فمن المستحيل الحد من سيل المجازر ومقاومة التّدمير بأساليب بدائية، مثل "المظاهرات، اللافتات، الأغاني"، وكلّ ما ابتدعه الشباب في البداية. لكن، ما مصير المواجهة، إن سلكت طريق التّسليح على طريقة المقاومة الشعبية ضدّ الاحتلال الفرنسي في مطلع القرن الماضي؟ تفيد التّجربة بأنّ ثوار الشّمال، والذين قاوموا بأسلحة بدائية الجيش الفرنسي بأسلحته وعتاده وطيرانه وعدده الضخم وانتصروا عليه وحرّروا بلادهم، لا بدّ أن يكونوا قدوة للباحثين وسط الجحيم السوري الراهن. وإن أراد هؤلاء تمثّل تجربة أنجح وأقوى ترد على نظرية ابن خلدون المتطرّفة، يمكنهم أخذ تجربة النبي عليه الصلاة والسلام، فقد بدأ بعصبة قليلة العدد صمدت وقاومت وانتصرت.
نقلا عن العربي الجديد