ما حكم الترخص برخص السفر للمهجَّرين وأهل المخيمات؟
الكاتب : المكتب العلمي ـ هيئة الشام الإسلامية
الاثنين 28 مايو 2018 م
عدد الزيارات : 93958

 

ما حكم الترخص برخص السفر للمهجَّرين وأهل المخيمات؟

 

السؤال:

ما حكم قصر الصلاة وجمعها للمهجّرين الذين أُخرجوا مِن ديارهم، ومنهم مَن انتقل إلى قرى أو مدن أو بلدان مجاورة، وهل تجب عليهم صلاة الجمعة، وهل يباح لهم الفطر في رمضان لا سيما مع المشقة في الحر وطول النهار؟

 

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فإنّ الترخّص برخص السفر إنما يكون للمسافر الضارب في الأرض، وأما مَن نزل مكاناً قاصداً المقام والاستقرار فيه ولو مؤقتاً، فلا يعدُّ مسافراً ولا يترخص بشيءٍ مِن رخصه، وبيانُ ذلك فيما يلي:

أولاً: السفرُ مِن أسباب التّخفيف الشرعية لما يتضمنه مِن مشاقّ وعناء، بل جاء في الحديث: (السفرُ قطعة مِن العذاب) متفق عليه.

ومن الرخص والتخفيفات الشرعية في السفر:

1- قصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين، كما قال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } [النساء: 101].

2- الجمع بين (الظهر والعصر)، وبين (المغرب والعشاء)، في وقت أحدهما.

3- الفطر في رمضان، قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185].

4- سقوط وجوب حضور صلاة الجمعة.

5-امتداد مدة المسح على الخفين: فالمسافرُ يحقُّ له أن يمسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليها بعد أن كانت يوماً وليلة للمقيم.

وهذه الرخص تشمل كلَّ مسافر سواء كان سفره سفرَ طاعة كحج أو عمرة، أو سفر تجارة، أو زيارة، أو تنزهاً.

قال ابن قدامة في "المغني": "الرخص المختصة بالسفر; مِن القصر, والجمع, والفطر, والمسح ثلاثاً, والصلاة على الراحلة تطوعاً, يباح في السفر الواجب والمندوب والمباح, كسفر التجارة ونحوه".

 

ثانياً: مادام المسافرُ سائراً في طريقه فأحكامُ السفرِ باقيةٌ في حقّه، ويدخل في ذلك الصورُ التالية:

1- إذا نزل أو أقام بمكانٍ أو بلدٍ مدةً يسيرةً كيوم أو يومين أو ثلاث.

قال ابن المنذر في "الأوسط": "أجمعوا على ما دون الأربع أنه يَقصر".

وقال النووي في "المجموع": "إذا نوى الإقامة في بلد ثلاثةَ أيام فاقل، فلا ينقطع الترخّصُ بلا خلاف".

2- إذا نزل بلداً لحاجةٍ يرجو قضاءها، ولم يعزم على الإقامة به، بل ينوي السفر متى انقضت حاجتُه، فلا ينقطع سفرُه عند جماهير أهل العلم.

قال ابن القيم في "زاد المعاد": "والأئمة الأربعة متفقون على أنه إذا أقام لحاجة ينتظر قضاءها، يقول: اليوم أخرج، غدا أخرج، فإنه يقصر أبداً ... وقد قال ابن المنذر في إشرافه: أجمع أهل العلم أنّ للمسافر أنْ يقصر ما لم يُجمع إقامةً، وإن أتى عليه سِنون".

قال الكاساني في "بدائع الصنائع": " لو دخل مصراً ومكث فيه شهراً أو أكثر لانتظار القافلة، أو لحاجةٍ أخرى، يقول: أخرجُ اليوم أو غداً، ولم ينو الإقامة لا يصير مقيماً".

 

ثالثاً: ينقطع حكم السفر عن المسافر بأحد أمرين:

1- الرجوع لبلدته التي كان مستقراً فيها.

فالمسافرُ إذا رجع إلى بلدته انقطعت عنه رخصُ السفر مِن لحظة دخوله إليها.

2- نية الإقامة في بلدٍ معين: فمن نزل بلداً ونوى الإقامة فيه زال عنه اسم المسافر، ولا يترخّص بشيء من رخص السفر.

وعامةُ أهلِ العلم مِن المذاهب الأربعة وغيرهم على أنّ المسافر إذا عزم على الإقامةِ في بلدٍ مدةً معينةً وقصد البقاءَ فيها: انقطع حكمُ سفره، ولهم في تحديد هذه المدة عدة أقوال، أقلُّها أربعةُ أيام، وأكثرُها عشرون يوماً.

ولا حرج على المسلم إذا أُفتي ببعض هذه الأقوال أن يعمل به؛ لأنها مِن مسائل الاجتهاد والخلاف المعتبر التي لا يسوغ الإنكارُ فيها.

والذي نختاره -وهو مذهب جمهور الفقهاء- أنه إذا عزم على إقامة أكثر مِن أربعة أيام أن لا يترخّص برخص السفر؛ للتالي:

1- أن هذه المدة هي أطول ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم القصر فيها، مع نية الإقامة.

ففي حديث جابر وابن عباس رضي الله عنهم: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قدم عامَ حجّةِ الوداع إلى مكة صبحَ رابعةٍ، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن، فكان يقصر الصلاة في هذه الأيام، وقد أجمع على إقامتها.

فمَن عزم أن يقيم كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم قصر، وإذا عزم على الإقامة أكثر مِن ذلك أتم.

قال الإمام أحمد في "مسائله": "فما نعلم النبيَّ صلى اللَّه عليه وسلم أزمعَ الـمُقامَ في شيءٍ مِن أسفاره إلا في حجّته هذِه، فإنه أَجمع أنْ يقيمَ إلى يومِ الترويةِ، ثُمَّ خرجَ إلى مِنًى يوم التروية فأنشَأَ السفر".

وقد ثبت النصُّ بقصر النبي صلى الله عليه وسلم هذه المدة في مكة وهو قاصدٌ لها، فبقي ما عداها على الأصل الذي هو الإتمام.

قال الشوكاني في "نيل الأوطار": "ولا شكَّ أنّ قصرَه صلى الله عليه وآله وسلم في تلك المدة لا ينفي القصرَ فيما زاد عليها، ولكن ملاحظة الأصل المذكور [وهو عدم جواز الترخص إلا للمسافر] هي القاضية بذلك".

2- أنّ الأصل وجوب الصوم، وإتمام الصلاة، وإقامة الجمعة؛ فلا يُخرج عن هذا الأصل إلا بأمرٍ بيّنٍ لا إشكال فيه، وبما أنَّ الفقهاء اختلفوا في المدة التي يسوغ للمسافر أن يترخّص فيها، فالاحتياط الأخذُ بما اتفقوا عليه، فهو أحوط للعبادة وأبرأ للذمة .

قال ابن المنذر في "الأوسط": "لما أجمعوا على ما دون الأربع أنه يَقْصُر كان ذلك له، فلمّا اختلفوا في الأربع كان عليه أن يتمّ".

وقال ابنُ تيمية في "مجموع الفتاوى": "إذا نوى أن يقيم بالبلد أربعةَ أيام فما دونها قصر الصلاة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة، فإنه أقام بها أربعةَ أيام يقصر الصلاة، وإن كان أكثرَ ففيه نزاعٌ، والأحوطُ أن يُتمّ الصلاة".

وقال الإمام مالك عن هذا القول في "الموطأ" : "وذلك أحسنُ ما سمعت، والأمرُ الذي لم يزل عليه أهلُ العلم عندنا".

 

رابعاً: أمّا القول بأنّ المسافرَ إذا نزل بلداً فإنه يقصر أبداً ما لم ينو الاستيطان أو الإقامة المطلقة فهو قولٌ تنكّبه عامةُ العلماء المتقدمين ولم يأخذوا به، ومما يدلُّ على ضعفه:

1- أنّ رخص السفر إنما هي للمسافر الضارب في الأرض، أي السائر في طريق سفره، كما قال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}[النساء: 101]، وقال في الفطر: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة: 184].

والضّربُ في الأرض ينافي الإقامةَ في البلد، فلا يُقال لمن  نزل بلداً: إنه ضارب في الأرض، وإنما جوَّز العلماءُ له الترخصَ برخص السفر المدةَ اليسيرة لكونها تابعةً لحالِ سفره، ولثبوت ذلك في السنّة مِن فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

قال القرافي في "الذخيرة": "ظاهر القرآن يقتضي أنه إذا لم يكن ضارباً في الأرض لا يقصر، خالفناه في الثلاث؛ لأنّ المسافرَ لابدَّ له مِن اللُّبث اليسير، فيبقى ما عداه على مقتضى الدليل" انتهى بتصرف يسير.

وقال الكاساني في "بدائع الصنائع": "لأنّ الإقامة قرارٌ، والسفر انتقال، والشيء ينعدم بما يضادّه فينعدم حكمُه ضرورةً، إلا أنّ قليل الإقامة لا يمكن اعتباره؛ لأنّ المسافر لا يخلو عن ذلك عادةً، فسقط اعتبارُ القليل لمكان الضرورة، ولا ضرورةَ في الكثير".

وقال ابن حزم في "المحلى": "إنّ الله تعالى لم يجعل القصر إلا مع الضرب في الأرض، ولم يجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم القصرَ إلا مع السفر، لا مع الإقامة!

وبالضرورة ندري أنّ حال السفر غيرُ حال الإقامة، وأنّ السفر إنما هو التنقّل في غير دار الإقامة، وأنّ الإقامة هي السكون وترك النقلة والتنقل في دار الإقامة. هذا حكم الشريعة والطبيعة معاً. فإذ ذلك كذلك، فالمقيمُ في مكانٍ واحدٍ مقيمٌ غير مسافر بلا شك، فلا يجوز أن يخرج عن حال الإقامة وحكمها في الصيام والإتمام إلا بنصٍّ".

2-أنه لا يُعرف عن أحد مِن الأئمة المتقدمين أنه صرح بتبني هذا القول والأخذ به، بل كلُّ أقوالهم تدور على توقيت مدةٍ مَن أقامها انقطع حكمُ سفره.

وقد ذكر هذا القولَ ابنُ المنذر وابنُ عبد البر دون أن يسمّيا قائلاً به مِن أهل العلم.

ولعلّه قولٌ حادث، ولذلك لـمّا أشار الإمام إسحاق بن راهويه إليه علّل عدم أخذه به بقوله: "قد أجمعوا كلُّهم على أنّ المقيم يتم الصلاة" (مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه).

قال ابن المنذر في "الأوسط": "احتجّ إسحاقُ بهذه الأخبار للقول الذي حكاه، واعتذر في تخلّفه عن القول به، بما أجمع عليه علماءُ الأمصار على توقيتٍ وقّتوه فيما بينهم، فكان مما أجمعوا على توقيته أقلّ مِن عشرين ليلة". أي: هذا أقصى ما قيل عند العلماء في التوقيت.

3-أنّ كلّ الأقوال المنقولة عن الصحابة والتابعين إنما هي في توقيتِ مدةِ الإقامة التي ينقطع بها حكم السفر، مع الاختلاف بينهم في تحديد هذه المدة، ولا يُعرف عن أحد منهم القول بأنه يبقى مسافراً مهما طالت مدة مكثه في البلد الذي نزل فيه.

قال الطحاوي في "أحكام القرآن": "ولم نجد عن أحد مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك غير القول الأول".

قال ابن عبد البر في "الاستذكار": "لا أعلم خلافاً فيمن سافر سفراً يقصر فيه الصلاة، لا يلزمه أن يتم في سفره، إلا أن ينوي الإقامةَ في مكانٍ مِن سفره ويُجمع نيتَه على ذلك، واختلف أهل العلم في المدة التي إذا نوى المسافر أن يقيم فيها لزمه الإتمام".

فالاتفاقُ قائم بين العلماء مِن حيث الجملة على أنّ المسافر إذا نوى الإقامة في بلدٍ انقطع حكم سفره، وإنما الخلاف بينهم في تحديد هذه المدة.

قال الشوكاني في "نيل الأوطار": "والحقُّ أنَّ مَن حطَّ رحلَه ببلدٍ ونوى الإقامةَ بها أياماً مِن دون تردد لا يقال له: مسافر، فيتم الصلاة ولا يقصر إلا لدليل، ولا دليلَ ههنا إلا ما في حديث الباب مِن إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة أربعة أيام يقصر الصلاة... والأصلُ في حقِّ مَن نوى إقامةً أكثر مِن أربعة أيام هو التمام، وإلا لزم أن يقصر الصلاة مَن نوى إقامة سنين متعددة، ولا قائل به".

4-أمّا الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين في قصرهم مدة طويلة، كقصر أنس رضي الله عنه في الشام شهرين، وعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه في بلاد فارس سنتين، وابن عمر رضي الله عنهما بأذربيجان ستة أشهر... ونحوها فكلُّ هذه الآثار لا تخرج عن أحد حالين:

الأولى: أن تكون هذه الإقامة للغزو والجهاد، فالمحاربُ الذي نزل مكاناً للقتال والحرب والحصار يقصر أبداً، ولو علم أنّ المدة ستطول عند جماهير العلماء، وذلك لما يُلحظ في الحرب مِن معاني الاضطراب، والتردد، وعدم الاستقرار.

عن أبي جَمرة نصر بن عمران قال: قلت لابن عباس: إنا نُطيل المقام بالغزو بخراسان، فكيف ترى؟ قال: " صلِّ ركعتين وإن أقمت عشر سنين" أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه.

فهذا السفر مِن أجل الجهاد ومنازلة الأعداء والكرّ والفر، لا مِن أجل المكث والإقامة، ومِن المعلوم أنّ مَن كانت هذه حالَه فإنه لا يدري ما سيواجهه مِن أوضاع، لذا فلا يصحّ أن يقال بأنه قد بيت الإقامة، أو إنه قد حدّد موعد الرحيل.

قال النووي في "المجموع": "أما المحارب -وهو المقيم على القتال بحقٍّ- ففيه قولان مشهوران؛ أحدهما: يقصر أبداً، وهو اختيار المزني ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد، وعلى هذا يقصر أبداً وإن نوى إقامة أكثر مِن أربعة أيام".

قال البرهان ابن مفلح في "المبدع شرح المقنع": "إقامة الجيش للغزو لا تمنع الترخص وإن طالت ؛ لفعله عليه أفضل الصلاة والسلام".

وقال ابن القيم في "زاد المعاد": "وقد قال أصحاب أحمد: إنه لو أقام لجهادٍ قصر، سواء غلب على ظنه انقضاءُ الحاجة في مدة يسيرة أو طويلة، وهذا هو الصواب".

الثانية: أن يكون نزل هذا البلد لحاجةٍ يرجو انقضاءها، أو وجد عائقاً يحول بينه وبين الرجوع ولا يدري متى يزول، كمَن حبسه مرض، أو حصره عدو، أو منعته ريح، أو عاقه ثلج أو واد يسيل، وكمن سُجن وهو لا يدري متى يُخلى سبيله.

فقد ذهب كثير مِن الفقهاء الذين يحددون الإقامة بمدة معينة إلى أنّ حكم المدة لا يجري في أمثال هؤلاء؛ لتخلُّف نية الإقامة.

ولم يأت في هذه الآثار ما يدل على أنـهم نووا هذه المدة عند النـزول، وغاية الأمر أنـهم أخبروا بمكثها بعد قفولهـم؛ فلا حجةَ فيها على قصد المدة الطويلة ابتداءً.

قال ابنُ عبد البر في "التمهيد": "مَحْمَلُ هذه الأحاديث عندنا على مَن لا نية له في الإقامة لواحد مِن هؤلاء المقيمين هذه المدد المتقاربة، وإنما ذلك مِثلُ أن يقول: أخرج اليوم، أخرج غدا، وإذا كان هكذا فلا عزيمة ههنا على الإقامة".

قال ابن قدامة في "المغني": "مَن لم يُجمع الإقامة مدةً تزيد على إحدى وعشرين صلاة فله القصر، ولو أقام سنين، مثلُ: أن يقيم لقضاء حاجة يرجو نجاحها، أو لجهاد عدو، أو حبسه سلطانٌ أو مرضٌ، وسواء غلب على ظنه انقضاءُ الحاجة في مدة يسيرة أو كثيرة، بعد أن يحتمل انقضاؤها في المدة التي لا تقطع حكم السفر".

 

خامساً: السوريون الذين هُجّروا مِن بلداتهم أو اضطروا للخروج منها لهم أحوال مختلفة، ولكلِّ حالٍ حكمُها:

1- مَن نزل بلدةً أخرى، سواء داخل سورية أو مِن الدول المجاورة أو غيرها، ونوى الاستيطان في هذا البلد بحيث اتخذه وطناً له عازماً على الاستقرار الدائم فيه.

فهذا قد انقطع عنه اسم السفر، فلا يجوز له الترخصُ برخصه بلا خلاف بين العلماء.

قال ابن حجر في "الفتاوى الفقهية الكبرى": "والتوطّنُ: نيةُ الإقامة في بلدة أو قرية على التأبيد، لا لحاجة: كتجارة، وزيارة، وعيادة ".

وفي "مواهب الجليل": "حقيقةُ التوطن: الإقامةُ بنيةِ عدمِ الانتقال".

2- مَن نزل بلدةً آخرى،  ونوى "الإقامة المطلقة" في هذا البلدفلا يترخّص بشيء مِن رخص السفر.

والمقصود بالإقامة المطلقة: نية البقاء والعيش في هذا البلد دون تحديد ذلك بزمن معين أو حاجة محددة.

قال النووي في "المجموع": "إذا نوى في أثناء طريقه الإقامة مطلقاً انقطع سفره، فلا يجوز الترخص بشيء بالاتفاق".

ولا فرق في هذا الحكم بين أن يكون ساكناً في البيوت المبنية أو في الخيم ونحوها.

3- مَن نزل بلداً، ولم ينوِ الاستقرارَ والإقامة فيه، بل هو يترقّب الانتقال لمكان آخر، أو تغيير المنطقة التي هو فيها، أو العودة إلى بيته وأهله وقريته: فله الترخصُ برخص السفر ما دام على هذه الحال المترددة، ويدخل في ذلك أهل المخيمات المؤقّتة.

وشرطُ هذا الترخّصِ أن يكون ما يترقّبه وينتظره قريبَ الحصول والمنال يتوقع حدوثه كلَّ وقت.

وأمّا إذا غلب على ظنه أن ما ينتظره لا يحصل إلا بعد أربعة أيام فلا يجوز له الترخص برخص السفر عند جمهور العلماء.

قال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج": "ولو علم المسافرُ  بقاءَ حاجته مدةً طويلة... كأن كان يعلم أنه لا يتنجز شغله إلا في خمسة أيام: فلا قصر له على المذهب؛ لأنه ساكنٌ مطمئنٌّ بعيدٌ عن هيئة المسافرين، بخلاف المتوقِّع للحاجة في كلّ وقت ليرحل".

وفي الموسوعة الفقهية الكويتية: "فإنْ ظن أنها لا تنقضي إلا فوق أربعة أيام عند الجمهور... فإنه يُعتبر مقيماً، فلا يُفطر ولا يقصر".

وهذا ما ينطبق على غالب أصحاب المخيمات الدائمة والمستقرة في الدول المجاورة.

 

سادساً: وأما حضور المسافر لصلاة الجمعة:

فإن كان سائراً في طريق سفره غيرَ نازل في بلد، فهذا لا تلزمه صلاة الجمعة حتى ولو كان مع جماعة كبيرة.

قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "الصواب ما عليه سلف الأمة وجماهيرها مِن الأئمة الأربعة وغيرهم مِن أنَّ المسافر لا يصلي جمعة".

قال ابن قدامة في "المغني": "إنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر فلا يصلي الجمعة في سفره... والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم كانوا يسافرون في الحج وغيره فلم يصلِّ أحدٌ منهم الجمعة في سفره".

-وأمّا إن كان نازلاً في بلدٍ تُقام فيه صلاةُ الجمعة، فيلزمه الحضور إذا نوى الإقامةَ مدةً ينقطع بها سفرُه، وهي أكثر مِن أربعة أيام فأكثر كما سبق.

وإن لم ينوِ الإقامة مدةً ينقطع فيها سفرُه: فلا يلزمه الحضور، وإن حضر فهو أفضل.

قال ابن قدامة في "المغني": "والأفضل للمسافر حضورُ الجمعة؛ لأنها أكمل".

 

سابعاً: يشرع الجمعُ بين صلاتي الظهر والعصر، وبين صلاتي المغرب والعشاء في وقت إحداهما إذا كان المسافرُ سائراً في طريقه، والأفضلُ فعلُ الأرفق به مِن جمع التقديم أو التأخير؛ فإذا كان نازلاً في وقت الأولى سائراً في وقت الثانية فالأفضلُ في حقّه جمعُ التقديم، وإذا كان سائراً في وقت الأولى نازلاً في وقت الثانية فالأفضلُ له جمع التأخير.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانَ في سفرٍ فزَالتِ الشمس صلّى الظهرَ والعصرَ جميعاً ثم ارتحل) رواه البيهقي، وصحّح إسناده النووي وأقره ابن حجر.

وأما مَن نزل في مكان في وقت الصلاتين أو نزل لأيام فالأفضلُ في حقّه أن لا يجمع بين الصلاتين، بل يصلّي كلّ صلاة في وقتها، كما هو غالب أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره.

قال ابن تيمية في "الفتاوى": "وهذا يبيّن أنّ الجمعَ ليس مِن سنة السفر كالقصر، بل يُفعل للحاجة..، فالمسافرُ إذا احتاج إلى الجمع جمع، سواء كان ذلك سيره وقتَ الثانية أو وقتَ الأولى وشقَّ النزول عليه، أو كان مع نزوله لحاجةٍ أخرى..، وأما النازل أيامًا في قرية أو مصر وهو في ذلك كأهل المصر: فهذا وإن كان يقصر؛ لأنه مسافر فلا يجمع".

 

ثامناً: مَن انقطع حكمُ سفره بعزمه على الإقامة لم يجز له الفطر في رمضان، ولزمه الصومُ مع الناس.

وأما مَن لم ينقطع حكمُ سفره ممّن نزل في المخيمات أو غيرها ممن لم يعزم على الإقامة، ويترقب الفرصة لمغادرة مكانه فالأفضلُ في حقّه أن يحرص على الصيام وعدم الفطر ما لم يشق عليه؛ لأنه الأبرأ للذمة، وهو الأيسر مِن جهة صومه مع الناس، وربّما يشقّ القضاءُ عليه لا سيما مع كثرته، وإذا غلب على الظنّ أنه لن يقضيه لم يجز له الفطر، ويتعين عليه الصوم.

وأما إذا وُجدت المشقة الزائدة في الصوم لشدة الحر، أو صعوبة الظروف فله أن يترخّص بالفطر، ويعزم على القضاء في وقت آخر يكون الصوم فيه يسيراً كأيام الشتاء.

 

وأخيراً:

نوصي أهلنا وإخواننا المهجّرين وسكان المخيمات بالصبر وتحمل المشقة في سبي الطاعة، واحتساب الأجر، وأن يحرصوا على وحدة الكلمة، ونبذ الخلاف والفرقة، وتحقيق الأخوة الإسلامية، وترك كلّ ما يؤدي إلى النزاع والخصومات، وأن يحققوا مقاصد الشريعة الإسلامية في ذلك.

والحمد لله رب العالمين 

 


https://islamicsham.org